الأحيان. كما كانت عقول هذه الطائفة التي صقلتها الفلسفة والمنطق اللذان
أكبوا على ردسها » وتعمّقوا في مباحثهها مهيأة للخوض في مسائل البلاغة والبيان
وتنظم القول فيها تنلها دقيقا . وقد كانت طبيعة المهمة التي اضطلع بها المعتزلة في
الدفاع عن الإسلام. ومناظرتهم أعداءه من أصحاب الملل والعقائد الأخرى
تدفعهم دفعا إلى العاية بمسائل البلاغة والبيان» وإتقان البحث فيها ؛ فقد كانت
البلاغة وسيلة من وسائل الإقناع» وسلاحا مهيا في المناظرة وا جدل.
وقد ترك المعتزلة تراثاً ضخاً جداً , ولكن لم يتبق » لدينا من هذا التراث إلا
صبابة لا تسمن ولا تغني؛ ولكنها العداة الوحيدة التي بين يدي الدارس في
محاولة لتكوين صورة لأعمال المعتزلة ودراساتهم في هذا الميدان. والمعتزلة مدرسة
عقدية كلامية أكثر منها مدرسة أدبية تمثل اتجاها معينا في النقد والبلاغة. ومن
أجل ذلك كا آثارهم التي تظهر فيها سمات منهجهم ؛ وخصائصهم في البحث
هي الآثار التي تتناول مسائل العقيدة والدين , وتتصل بأمور الكلام والقضايا التي
للمعتزلة منهج بحث متميز من غيرهم يجعلهم علما في ميدان النقد والبلاغة. أو
أصحاب مدرسة أدبية خاصة ذات سمات ومعالم متميزة.
وتأقي أهمية هذا البحث من أنه دراسة مستقلة لجهود طائفة ذات نشاط
خصب من نقاد العرب وبلاغييهم؛ وهي دراسة تحاول أن تتعرف على جهود
هذه الطائفة من النقاد وتحللها وتقومها .وتستخلص خصائصها وسماتها في البحث .
وهي خصائص وممات أثارت في تاريخ الفكر العربي ضجة كبيرة؛ وأحدثت
لمدرسة الاعتزال حسنات» وأيادٍ بيضاء ؛وجهودّ مشكورة؛ وكان ما إلى جانب
خطيرة كان يسوقهم إليها الغلو والتعصب للمذهب الذي اعتنقوه وبالغوا في
تقديره والاعتداد به. وقد حاولنا عرض ما للمعتزلة وما عليهم بعيداً عن روح
التعصب والإعجاب. أو روح الكراهية والنفور التي تبعد البحث العلمي عن
جادة الموضوعية والحق.
وقد تناولنا بالدراسة جهود المعتزلة منذ نشوثهم في القرن الثاني الهجري على
يدي واصل بن عطاء ؛ وعمرو بن عبد ؛ وحتى نباية القرن السادس الهجري»
وقد حددنا هذه الفترة الزمنية لندخل في الدراسة جهود الزمخشري التي تمثل
البلاغية والنقدية؛ فقد استوعب الزمخشري في كتابه (الكشاف) جميع ما كتبه
صقلئها عقول أدبائهم ومفكريم أزمانا طويلة؛ وأما فيا بعد الزمخشري فقد
أخذت البلاغة العربية تتجه إلى التعقيد والجمود » وتسيطر عليها روح الفلسفة
ظروف وملابسات؛ وعرضنا لأصول مذهبهم؛ ومبادىء عقيدتهم ولأبرز
الخلافات بينهم وبين خصومهم من أهل السنة؛ حتى نستطيع أن نتصور الجديد
الذي جاؤوا به فأحدث ما أحدث من ضجة كبرى . وقد حاولنا التوقف في
هذا التمهيد عندما يساهم في توضيح الصورة العامة لجهود المعتزلة في ميداني
النقد والبلاغة ؛ ويُلقي الضوء عليها حتى لا يبدو التمهيد منسلخا عن الجر العام
وجعلنا الباب الأول دراسة تاريخية لجهود المعتزلة: وعرضنا فيه هذه الجهود على
,حسب التقسم الزمني؛ فكان إلباب في ثلاثة فصول. أولها يمثل نشأة البحث
البلاغي والنقدي عند المعتزلة في القرنين الثاني والثالث؛ وقسمناه إلى قسمين:
القسم الأول درسنا فيه جهود رجاهم الأول الذين استطعنا أن نعثر على مادة لهم
وهم عمرو بن عبيد » وبشر بن المعتمر » والنّظام ؛ والناشيء الأكبر . والقسم الثاني
كان دراسة مستقلة لجهود الجاحظ؛ لما تمثله من أهمية وخطر في تاريخ البلاغة
العربية» وأما الفصل الثاني فيمثل تطور البحث البلاغي والتقدي عند المعتزلة»
وهو أيضا في قسمين: العسم الأول خصصناه لجهودهم في القرن الرابع؛ وعرضنا
فيه للرماني ,والمرزباني» والصاحب بن عباد . والقسم الثاني خصصناه لجهودهم في
القرن الخامس » ودرسنا فيه القاضي عبد الجبار والشريف المرتضى . وأما الفصل
الثالث فيصور ازدهار البحث على أيدي المعتزلة ممثلا في جهود الزخشري في
القرن السادس .
وقد حاولنا في الباب الأول من الرسالة الاكتفاء بالعرض التاريخي لتراث
هذه المدرسة؛ مبتعدين ما أمكن عن روح التحليل والتقوم. وأما الباب الثاذ
فكان دراسة فنية لتلك الجهود التي عرضناها في الباب الأول» وللقضايا البلاغية
الكبرى التي عُرف بها المعتزلة وأطالوا الوقوف عندها . وجاء هذا الباب
في أربعة فصول كان أوها لدراسة قضية إعجاز القرآن التي تُعَدٌ أبرز القضايا
سادت البيئة الاعنزالية في مجال الدراسات القرآنية. ودرسنا في الفصل الثاني قضية
المجاز. وفي الثالث درسنا قضية اللفظ والمعنى؛ وأما الفصل الرابع فخصصناه
لدراسة منهج المعتزلة؛ وتقوم جهودهم؛ وبيان أثرهم في التراث العرني
+ وآراء طريفة أَلْرتهُ
والبلاغة. وما أضافوه إلى هذا التراث من جهود جديا
إليه من نتائج وآراء .
وقد كانت تدفعنا إلى العناية بجهود المعنزلة ما كان لهذه الطائفة من دور
متميز في البلاغة العربية؛ وما خلّفت من تراث ستكشف عنه الدراسة المستقبلة .
وهو تراث كان من الأهمية والخطر بحيث يستحق أن يُفرد بالدراسة في بحث
مستقل يكشف عنه ؛ ويوضح أثر هذه الطائفة النشيطة من نقاد العرب. وقد
كانت عمدتنا الأولى في هذا البحث بطبيعة الحال مؤلفات المعتزلة ومصنفاتهم.
هذا الميدان, فقد كانت مؤلفات الجاحظ » والرماني» والمرزباني» والقاضي عبد
الجبار » والشريف المرتضى» والزمخشري هي المصادر الأساسية التي استقينا منها
مادة هذا البحث» إلى جانب كتب النقد والبلاغة الأخرى؛ مسار الأدب
العربي وكتب عام الكلام والعقائد التي كتبت عن المعتزلة؛ أو ألمت بآرائهم
ومعتقداتهم ولكننا كنا نحاول دائما أن ترسم الصورة من خلال كتابات ١
أنفسهم. وكاذ المصادر عنصراً مساعداً في تكملة أجزاء الصورة وتحديد
معالمها. وأما على نطاق المراجع الحديثة فليس بين أيدينا بحث مستقل في الحديث
عن جهود المعتزلة وآثارهم في البلاغة العربية؛. ولكن كانت بين أيدينا دراسات
المعتزلة وأثرهم في النقد والبلاغة؛ وقد استفدنا كثيرا من دراسة الدكتور
ضيف في كتابه ( البلاغة: تطور وتاريخ) ومما كتبه عن القاضي عبد الجبار
والزمخشري بصورة خاصة. كا انتفعنا ببحث الدكتور مصطفى الصاوي الجوبني
عن منهج الزمخشري في تفسبر القرآن. وما كتبه الدكتور إحسان عباس في كتابه
تاريخ النقد عند العرب» وقد استفدت أيضا من دراسة الدكتور إبراهم سلامة
في كتابه ( بلاغة أرسطو بين العرب واليونان) وخاصة فيا يتعلق بثقافة المتزلة وما
يقال عن تأثر البلاغة العربية ببلاغة اليونان.
وبعد: قلست أدعي لهذا البحث الكمال أو التام؛ ولكنه خطوة جديدة في
في حاجة الى الكثير من الدراسات الجادة الرصينة. ولكني أزعم أن هذه الدراسة
لجهود المعتزلة وتراثهم وآثارهم وخصائصهم في ميداني النقد والبلاغة. فإن كنت
من زلل أو سقطات فالله وحده نسأل العصمة والرشاد .
تمهيد في نشأة المعنزلة وعقائدهم:
الإسلام دين فطري بسيط أتى ليخاطب في الإنسان عاطفته وميله الطبيعي
الذاتي إلى الإيمان بوجود قوة عظيمة خلقت الكون ودبّرت أمره. هذ
المسيطرة هى الإله. ويكاد الناس يجمعون على الإيمان بهذه القوة العظيمة مها
اختلف عندهم أمماؤهاء أو تباينت صفاتها. وقد جاء الإسلام ليخاطب هذه
الفطرة» ويُحبيها ؛ ويقوم ما اعتورها من فسادء أو أصابها من خطأ على مر
شائكة تبعث في النفوس شُبّهاً . وتثير قالا وقيلا : وتكون موطن أخذ ورد لا
بيان» ولو فعل الإسلام ذلك ما آمن من الناس إلا القليل » لأن العام والمنطق
حظ الخاصة من الناس» والعاطفة والفطرة حظ مشترك وقاسم عام لدى الجميع .
الكسب والاختيات وفيه آيات تنرّ الله عن مشابهة المخلوقات؛ وآيات تنسب
إليه أعضاء مادية كاليد والعين. وتنسب إليه صفات كالكلام والمجيء والذهاب
والاقتراب» وآيات تنفي رؤية الله أو الإحاطة بكنهه؛ وآيات تثبت أن هذه
الرؤية واقعة محققة يوم القيامة؛ وغير ذلك من أمور . وقد سميت أمثال هذه
الى ظهور الفرق الإسلامية ١
دون بحث طويل أو جدال كثير . التزموا ما أتى به القرآن على الوجه الذي أتى
وجود الله وعلى إثبات وحدانيته وقدرته وسار صفاته إلى أكثر ما جاء في
القرآن الكريم . وبصورة عامة فهموا الآيات المتشابهات فهاً عاماً جلا ء دون أن
يخوضوا في التفاصيل» خاصة وأنه قد وردت عن الرسول عل بعض الأحاديث
في النهي عن اتباع المتشابه» وعن الجدل والمراء في مسائل العقيدة والدين عموماً.
الديني الذي فرق كلمتهم وأضعف قوتهم. قال الإمام الغزالي في النعي على عام
الكلام والمتكلمين: « ليت شعري» مى تُقِل عن رسول الله ته أو عن الصحابة
رضي الله عنهم إحضار أعراني أسام وقوله له : الدليل على أن العام حادث أنه لا
وقادر بقدرة زائدة عن الذات لا هي هو ولا هي غيره؛ إلى غير ذلك منرسوم
وسار الصحابة والتابعون والسلف من بعد الرسول الكريم على هذا المذهب؛
فكانوا ينهون عن الخوض في المتشابهات » وعن الجدال في الدين ١ كما روي عن عمر
مالك رمه الله أنه سثل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم » والإيمان به واجب ؛
والكيفية مجهولة . والسؤال عنه بدعة» ل" وكان أحمد بن حنبل يقول: ؛ لا يفلح
1٠7 فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة: )١(
1848 المصدر السابق: )7(
صاحب كلام أبدا . علاء الكلام زنادقة» (0.
وقد اطبأنت قلوب أصحاب محمد عله إلى هذه الطريقة. فصلّحت أحوالهم»
العقيدة والدين . فكان أول الأمر جدل حول الخلافة وصاحب الحق فيهاء ثم جر
ذلك الناس إلى الحديث فيا تمر به الأمة من أحداث ونكبات. أهي قضاء الله
وقدره» أم هي من فعل الناس وكسبهم ..؟ وبالتالي هل الإنسان مجبر في أفعاله
أو مخير ..؟ وهؤلاء المسلمون الذين يتساقطون صرعى وهم يقاتلون في صف علي
أر صف معاوية ما حكمهم ٠ وما رأي الدين فيهم ؟ وما حكم من مات منهم
الخلافات السياسية في أول الأمر تتشعب ويشقّق بعضها بعضاء ويتشيع لكل
رأي أنصار ومؤيدون وفرق وأحزاب.
ولعل من أسبق المسائل الدينية التي بدأ الخرض فيها : مسألة القضاء والقدر +
وقد انقسم الناس حولا فرية الجبرية» وقالوا: إن الإنسان مجبور في أفعاله
لا يخلقها بنفسه ؛ وليس له من الأفعال التي تنسب إليه شيء ؛ فتفوا الفعل عن
تحركها بيد القضاء والقدر . ويقال إن أول من دعا بهذه الدعوة الجعد بن درهم+
وعنه أخذ الجهم بن صفوان. قال ابن نباتة عن الجعد : « أول من تكلم بخلق
وفرقة القدرية التي تعتنق حرية الإرادة؛ وتقرر أن الإنسان حر مختار
)١( تلبيس إبليس: ج84
(7) سرح العيون: 185
هذه الحركة هو معبد الجهني الذي كان أول من تكام في مسألة القدر
والاستطاعة؛ وغيلان الدمشقي الذي أخذ يدعو إلى مذهبه في عهد عمر بن عبد
أن قتله هشام بن عبد الملك.
وقد اعتنق المعتزلة في مسألة القضاء والقدر هذه رأي القدرية؛ فنادوا بحجرية
الإرادة وسلطة الإنسان على أعياله.
والمسألة الثانية التي كثر الخلاف حوها مسألة مرتكب الكبيرة كان رأي
الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر ويجب حربه وقتله» وكان رأي الحسن
ذلك الى أن مرتكب الكبيرة في منزلة وسطى بين منزلتي المؤمن والكافر وسموه
أحد أسباب لقبهم الذي لصق بهم.
وهنالك مسائل دينية أخرى كانت موضع مناقشة وجدال بين المسلمين
عند الحديث عن نشأة المعتزلة وعقائدهم.
فقد كانت بذور هذه الآراء
ة عند الفرق الإسلاميةالأخرى » وجاءالمعتزلة
نظرية متكاملة عرفت بهم وثسبت إليهم. ولا نريد أن نتوسع كثيرا في الحديث
عن هذه المسألة لأنه ليس من شأن هذه المقدمة السريعة التوقف عند الج
والتفاصيل . ويكفي أن نشير إلى أمثلة من ذلك تاركي التوسع لمن شاء ذلك من