النفاق حتى يدعهاء إذا ائتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر
يعتبر كتاب «المسند الصحيح؛ للإمام مسلم بن الحجاج
النيسابوري من أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل؛ وله خصائص
علمية يتميز بها عن صحيح الإمام البخاري» وأهمها ترتيب الأحاديث
في معظم أبوابها حسب صحتها وسلامتها من العيوب والنقائص؛ وقد
صرح بذلك الإمام مسلم نفسه في مقدمة صحيحه بعباراته اللطيفة؛
وعليه فكل حديث يصدر به الإمام مسلم أبواب كتابه يراه أصح ما
يذكرها فيها من الأحاديث؛ وليس بخاف على المشتغلين بالحديث أن
أصحية الحديث أمر نسبي؛ وليس مطلقاً.
وهذا البحث الذي وضعته على شكل حوار تحت عنوان «عبقرية
الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح» محاولة متواضعة
لتسليط الأضواء الكاشفة على دقائق الأمور النقدية التي أودعها الإمام
مسلم كتابه الصحيح» والتي تبرهن حقاً على عبقريته في نقد الحديث
أحد الأفاضل» وألف كتاباً على أساسها ليروج بين الناس: أنني أدعى
أن الإمام مسلماً التزم بيان العلة في صحيحه»؛ وأن بيانه لها يتمثل في
ترتيبه الأحاديث وأن كل حديث يقع في آخر الباب معلول. هذا قول
وهل يقول أحد يعلم شروط الإمام مسلم في كتابه الصحيح أنه التزم
بيان العلة فيه؟ كلاء لأنه موضوع كتب العلل ويناقض تماماً موضوع
كتب الصحاح وشروطها التي يتعين القول بموجبها إن الإمام مسلماً التزم
يرتب الأحاديث بتقديم الأصح فالأصح؛ وأنه أحياناً يبين العلة في كتابه
بذكر وجوه | اخلاف فط َل سبيل الاستطراد لا مقصودا بقاتهء والفرق
ومن أهم دوافع كتابة هذا البحث لفت انتباه طلبة الحديث
والمشتغلين به إلى ضرورة التعمق في فهم القواعد الحديثية ومنهج نقاد
الحديث في تصحيح الأحاديث وتضعيفها من خلال دراسة تحليلية
وجدير بالذكر أن هذا البحث تم إعداده يوم /8/1١ 1440م
ورغم عديد من الاتصالات مع دور النشر لم يتم طبعه لحكمة
أرادها الله تعالى» ومع ذلك فإن هذا البحث أصبح متداولاً بين الطلبة
والشباب في الجزائر ومصر والسعودية بعد أن أذنت لهم في التصوير
عليه. ونظراً لإقبال متزايد من قبل الطلبة على هذا البحث عزمت أن
أسهل لهم سبل الاستفادة منه؛ فقمت - مستعيناً بالله سبحانه وتعالى -
كثيرة خاصة في التمهيد» وحذفت منه كل ما أراه غير مناسب لموضوع
وأرجو من الله العلي القدير أن يكون هذا البحث سبباً لإحياء
منهج المحدثين في نقد الأحاديث واشتهاره بين طلبة الحديث وجميع
حمزة عبد الله الملياري
باتئة الجزائر
ضمن سلسلة أبحاثنا الموجهة للمشتغلين بعلوم الحديث عموماً
وطلبة قسم الكتاب والسنة خصوصاً نقدم لهم اليوم بحثاً جديداً بعنوان
(عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح) بعد أن كنا
وضعنا بين أيديهم عدداً من البحوث بالعناوين التالية:
(الحديث المعلول قواعد وضوابط).
(الموازنة بين المتقدمين والمتأخرين في تصحيح الأحاديث
(نظرات جديدة في علوم الحديث.)
(تصحيح الحديث عند ابن الصلاح).
وهذه الأبحاث عبارة عن دراسات نقدية تهدف جميعها إلى إحياء
منهج المحدثين النقاد؛ وإبراز أساليبهم في تناول المسائل الإستادية
والقضايا النقدية التي لا تزال محل مخالفة وغموض لدى بعض العلماء
المتأخرين لا سيما المعاصرين بسبب بعدهم عن أسس ذلك المنهج
يعد صحيح مسلم الذي هو موضوع دراستنا اليوم - مصدراً
رئيسياً للحديث وعلومه؛ ويزخر بفوائد علمية جمة تستوجب منا نظراً
تحليلياً ونقداً دقيقاً يقوماذ على أساس الفهم والمعرفة والخبرة
لاستخراج تلك الفوائد التي يظل شرحها في كتب المصطلح بشكل
نظري ومعزول عن واقعها التطبيقي» مما أحدث في أذهان عدد كبير
والشبهات المعقدة حول أهم قضايا علوم الحديث» بل أوقعهم ذلك
المصطلحات وتوظيف مضامينها في ميدان دراستهم الحديثية ولا أنهم
حاولوا معرفة مدى تطابق مدلولات هذه المصطلحات مع الواقع العملي
أصبحت نصوص التقاد فيما يخص نقد الأحاديث غامضة وغير مفهومة
فصعب عليهم تفسيرها وتحليلها.
الحديثية لن تتحقق إلا بتدقيق النظر وتوسيعه في مختلف مصادر
الحديث الرئيسية التي هي الميدان الواقع لتطبيق معاني تلك
المصطلحات» مثل الكتب الستة وكتب العلل .
وإن كانت كتب الأحاديث قد حظيت بدراستها من الناحية الفقهية
بشكل واسع ومعمق؛ كما تدل على ذلك الشروح والتعليقات
والحواشي التي ظهرت بأساليب متنوعة» فإن القضايا النقدية والمنهجية
التي بموجبها انتخب النقاد تلك الأحاديث وصححوها في كتبهم لم
تلق من الشراح والباحثين ما تستحق من العناية والدراسة؛ ونذكر هنا
على سبيل المثال مسألة شروط الكتب الستة؛ فإن كل ما كتب فيها
عبارة عن تلخيص وتهذيب ما ذكره المقدسي والحازمي» ولم يخطر
قط على بال أحد من الباحثين أن هذه المسألة من المسائل التي
يكتنفها غموض يجب إزالته من خلال دراسة معمقة تقوم على
الاستقراء والتحليل والمقارنة؛ ولا يوجد بحث في هذه الجوانب إلا
على مبدأ التقديس والتسليم بما أثر عن السابقين.
لذا وجب علينا بذل مزيد من الجهد في سبيل دراسة كتب
الأحاديث من الزاوية النقدية والمنهجية؛ حتى نجد القواعد النقدية التي
تتناولها كتب المصطلح بشكل نظري ماثلة أمام أعينناء وبهذا الأسلوب
الذي يجمع بين النظري والتطبيقي يزول كل الغموض العالق بمباحث
علوم الحديث ومصطلحاتها وتتضح معالمه وحقائقه بشكل صحيح.
وتتمحور فصول هذا البحث حول منهج الإمام مسلم في ترتيب
أحاديث مسنده الصحيح بتقديم الأصح فالأصح+ والذي نص عليه
الإمام مسلم نفسه في مقدمته للصحيح بعباراته الموجزة. وأثناء دراستنا
لأحاديثه دراسة تحليلية وقفنا على مدى التزامه بذلك الترتيب في معظم
المسائل الحديثية المعقدة التي لا تزال تشكل في أذهان المشتغلين
بعلوم الحديث خصوصاً والدارسين لصحيح مسلم بصورة أخص
يسود فيها الخيال والأوهام.
ولما كانت أحاديث (المسند الصحيح) مرتبة حسب الخصائص
الإسنادية التي تتوافر فيهاء حيث التزم الإمام مسلم بتقديم الأصح
التصحيح والتعليل والترجيح؛ بيد أنه من الصعب تحقيق ذلك إلا
بالنظر التحليلي الأصيل والمؤسس على دعائم الفهم والمعرفة والخبرة
الطويلة في علوم الحديث. وأما إذا درسنا أحاديث صحيح مسلم
بشكل سطحي وتقليدي فإن الدراسة تظل عاجزة عن استخراج ما أودعه
الإمام مسلم في ترتيب أحاديثه من الفوائد الإسنادية؛ بل إن مثل هذه
الدراسة تؤدي إلى انحراف صاحبها عن جادة الحق والصواب.
وأوضح مثال يذكر في هذا الصدد ما كتبه أحد الأفاضل تحت
عنوان: (منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات
حوله)؛ وهو مطبوع نشر في السعودية؛ فقد ارتكز هو في جميع
مباحثه على ظاهر الإسناد وترجمة الرواة وتحديد رتبهم وطبقاتهم من
خلال كتاب «تقريب التهذيب» الذي لا يفي بالغرض في هذا المجال»
الإمام مسلم في صحيحه خفاء وغموضاً.
وبما أن المؤلف الفاضل جعل ظواهر الإسناد مرتكزاً أساسياً
للتصحيح والتضعيف والترجيح أثناء دراسته حول منهج الإمام مسلم في
مناسبة مستنداً إلى بعض كتب التراجم؛ خاصة كتاب تقريب التهذيب؛
ثم يبني عليها الترجيح في كل حديث لم تكن في الواقع سوى جزءاً
قليلاً من الخصائص الإسنادية التي كان النقاد يعتمدون عليها في نقدهم
للأحاديث» ومن هنا فإن مواطن الخلل والتقصير في كتابه تبدو واضحة
إسناد حديث ما قد لا يكون صالحاً على الشكل الذي ١١
وإن كان ما ذكره المؤلف الفاضل في ترجيحه لحديث وجعله
صالحاً في كافة المناسبات الحديثية لا يستوعب عوامل الترجيح التي لا
الحديثية فاعتبار بعض هذه الأسباب الظاهرة في الترجيح والتصحيح
بوجه شكلي دون اعتبار بقيتها أسلوب مرفوض لا يقره الواقع الحديثي
وبتقيد الأستاذ أثناء دراسته لمنهج مسلم بأسلوبه هذا لم يحقق
مسلم في صحيحه؛ وبرهن بها على عبقريته في ترتيب الأحاديث
بتقديم الأصح فالأصح+ حيث كان الأستاذ ينهي دراسته دائماً بإنكاره
وجود منهج خاص للإمام مسلم في صحيحه من حيث الترتيب.
فقد عقد الأستاذ المؤلف في كتابه فصلاً خاصاً لدراسة بعض
النماذج من أحاديث صحيح مسلم؛ وهي عبارة عن عشرين حديثاًء
درسها الأستاذ على النحو الذي أوضحناه آنفاً فإذا هو يتخبط في
الأخطاء والأوهام .
يتداخل عليه راو فيقول عن ثقة: هذا راو ضعيف» قدم الإمام
مسلم حديثه؛ وهذا ثقة أخر مسلم حديثه؛ ثم يتساءل: أين الترتيب
وتراه يأتي بأحاديث من وسط الباب أو من آخره مع جملة من
الأحاديث من أول الباب الذي يليه؛ ثم يقول: هذه مجموعة من
الأحاديث لم يراع فيها مسلم الترتيب» فأين الترتيب؟
وتراه أيضاً يخلط بين مختلف المناهج» فيجعل منهج الحافظ ابن
حجر في التقريب من تقسيم الرواة حسب الجرح والتعديل معياراً
وحيداً لمعرفة مراتبهم جرحاً وتعديلاً عند الإمام مسلم في صحيحة؛
ومعلوم أن الحافظ ابن حجر لم يكن يعتمد فيه على مذهب الإمام
الثالث الذي خصصناه لدراسة الأحاديث التي تعلق بها الأستاذ المؤلف
ليبرر إنكار ذلك المنهج العلمي الذي أشاد به العلماء طوال القرون
والوهم؛ شعرت أن من واجبي نحو منهج المحدثين في النقد عموماً»
ومنهج الإمام مسلم في صحيحه خاصة. إزالة تلك الشبهات المثارة
حوله؛ والتي من شأنها أن تسلخ جهود النقاد من التاريخ الإسلامي
المجيد وتطمس معالم منهجهم عن آخرها.
وهذه هي المناسبة العلمية التي دعتني بإلحاح إلى إعداد هذا
البحث بعنوان (عبقرية الإمام مسلم في ترتيب أحاديث مسنده الصحيح)
ومن هنا جاءت مباحثه لا سيما مباحث المحور الثالث على شكل
وعلى الرغم من تأثرنا العميق بما شحن به كتابه من افتراء
الكذب وتوجيه التهم والتجريح والطعن في النية والإخلاص فإننا قد
بذلنا جهداً كبيراً في صياغة فصول هذا البحث وفق منهج علمي نزيه»
بعيداً عن الانفعالات النفسية التي آلمني الأستاذ بهاء لثلا تضيع الفائدة
ولئن أفضنا في مسألة الترتيب بعض الشيء؛ فذلك لقناعتنا
بأهميتها ومدى عناية الإمام مسلم بهاء ولضرورة إقناع القارىء
المنصف بما يحمله الترتيب من دقائق الفهم ومبادىء النقد حتى لا
العلمية التي تجسدت بشكل واضح وجلي في جميع صور الترتيب في
وإلى جانب مسألة الترتيب؛ عالجنا في غضون هذا البحث
موضوعاً آخر يتعلق بالأحاديث التي شرحها الإمام مسلم في كتابه
الصحيح على سبيل الاستطراد والندرة ولمناسبة دعته؛ لا لغرض
أصليء لأذ قصده الأصلي من تأليف الصحيح هو جمع الأحاديث
صحيحه بما وعد في مقدمته من شرح العلل في مواضعهاء كان هذا