وبعدء فإن من الأمور المعروفة أن الحديث النبوي الشريف لقى
اهتمام أهل العلم من وقت مبكر من عهد النبوة إلى عصور متأخرة لما
للحديث من أهمية كبيرة في التشريع الإسلامي إذ هو المصدر الثاني
للشريعة بعد كتاب لله عز وجل؛ وقد قال فيه رسول الله كِية: «ألا وإني
النبي َل للمشتغلين بالسنة المشرفة بدعائه المشهور: «نضر الله امرءاً سمع
فاعنتى علماء الصحابة وفقهاؤهم رضوان الله عليهم أجمعين بملازمة
النبي يلةِ ملازمة شديدة؛ واهتموا بسماع أقواله وحفظهاء وضبطهاء
تلاميذهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم وتوارثت الأجيال
التالية هذا الاهتمام والاغتناء البالغين بالحديث الشريف.
ولما كان الصحابة جميعاً موصوفين بالصدق والعدالة بتعديل من الله
ورسوله وإجماع المسلمين لم يكن هناك أي شبهة في صدق ما رووه عن
الرسول عليه الصلاة والسلام من أقوال وأفعال وتقريرات إلى أن حدثت
)١( انظر: (رقم 198) من قسم الأحاديث.
© حديث متواتر انظر: دزاسة حديث نضر الله امرءاً. . . رواية ودراية .
الفتنة!'؟ عند مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ ثم
يعتنون بالإسناد؛ واستقر عندهم أنه من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء
ما شاء كما قال عبد الله بن المبارك!"'.
وقد نهى عدد من الصحابة ثم التابعون عن مجالسة أهل الأهواء»
والأخذ عنهم؛ وكلما مضى الزمن دب إلى أمة الإسلام داء الأمم فظهرت
الجهمية؛ والمعطلة؛ والمعتزلة وقد كانت نشأة بعضها في أول الأمر من
الخلاف السياسيء ثم تحول في آخر الأمر إلى فرق اعتقادية مستقلة؛
وتفاقم الأمر بعد ماعربت كتب أهل اليونان وفارس والهند في العهد
وكان لحدوث هذه الفرق المبتدعة أثر واضح في كثرة الوضاعين+
والكذابين الذين حاولوا القضاء على الإسلام بإدخال ما ليس منه فيه؛ وقد
قيض الله أهل الحديث الذين شمروا عن ساق الجد لحماية المجتمع
الإسلامي من أكاذيب الدجاجلة وافتراءاتهم» وتميزوا من بين أهل العلم
النصوص في أبواب العقيدة والفروع» فتوجهوا إلى جمع كل ما وجدوا من
أحاديث نبوية» وآثار سلفية» وبدأوا يطبقون قواعد الجرح والتعديل التي
رسول الله ك8
)0 قول ابن سيرين في مقدمة صحيح مسلم (16/1)
() مقدمة صحيح مسلم (19/1).
وقد حاولوا محاولة جادة لجمع كل ما رواه أهل العلم في هذا الباب
فظهرت في زمن أتباع التابعين موطآت ومصنفات» وأجزاء إلى أن بدأ
اهتمام المحدثين بتجريد الأحاديث الصحيحة كما فعل الإمامان الهمامان:
تطبيق قواعد التحديث في كثير مما أدرجوا في مؤلفاتهم» وتتابع أهل العلم
علوم الجرح والتعديل» وأسماء الرجال» وطبقاتهم» واعتبار أحاديث الرواة
واستمروا على هذا الجهد المسلسل بكل حماس ونشاط وحيوية إلى
القرن الثالث ثم في القرن الرابع حتى استوعبوا أحاديث الرسول قي وآثار
الصحابة والتابعين وأتباعهم.
وظهرت كتب الرجال المتنوعة؛ وبدأت أقوال نقاد الحديث تأخذ
صبغة المصطلح الذي اصطلح عليه أهل العلم في كثير من أصول الدراية
وقوانين الرواية» التي جمعها ودونها وهذبها أهل العلم المتأخرون باسم
مصطلح الحديث.
وبجانب اهتمامهم بأصول الرواية والدراية ويجمع وغربلة المرويات
وفهم الشريعة» والتطبيق العملي التي ورثوها من سلفهم الصالح فكانت
الأحاديث النبوية» والآثار السلفية وحياة أهل الحديث العملية حصناً حضيئاً
للدين والقرآن» وللمجتمع الإسلامي ضد الأفكار الدخيلة والنظريات الباطلة
فكان عامة الناس في سلامة من البدع الكلامية» والخرافات لقرب عهدهم
بالنبوة وكثرة أهل العلم العاملين بالكتاب العزيز» والسنة المطهرة؛ وإنما
كان شرذمة قليلة من أهل الأهواء والبدع الذين كانوا يحاولون تدمير جميع
إصلاحات المحدثين وجهودهم» وقد اشتهرت مدن الإسلام كمكة
لرحلاتهم العلمية واجتماعهم في ثغور المسلمين للجهاد دور كبير في نشر
السنة» والعقيدة السلفية في ربوع العالم.
فكانت السنة النبوية المشرفة وفقه السلف الصالح هي الحصن
جهود أعداء الدين على أنواعهم بالفشل أمام ثبات المحدثين على عقيدة
السلفء وحبهم للسنة ومحبتهم الصحابة ومن تبعهم» وجهدهم المتواصل
تحريف الغالين وانتحال المبطلين» وصدق النبي وَ8: «لن تزال هذه الأمة
قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" .
7/1 من حديث معاوية: البخاري في العلم (رقم )١(
الأمة الإسلامية؛ وتسيطر على عقولهم؛ وصدق الرسول عليه السلام
وقد ابتعد من فتنة تأويل النصوص المفضى إلى تعطيل الشريعة
وإفساد الدين» معظم الحنابلة بفضل الله وتوفيقه ثم بفضل تمسكهم بمذهب
إمام أهل السنة والجماعة: الإمام أحمد بن حتبل؛ ووجود كتب الإمام
أحمد وأصحابه بينهم؛ كما وجد كثيرون من أئمة المذاهب الفقهية الأخرى
الذين حاولوا محاولة جادة في الاستمرار على منهج المحدثين القدامى
ونقل طريقتهم في فهم النصوص والتمسك بالكتاب والسنة واجتناب البدع
وكلما مر الزمن بدأ المشتغلون بعلم الحديث كغيرهم يخضعون
ومؤيديهاء وفي الحقيقة. هذه كانت مأساة حيث صار منهج أهل الحديث
والأثر غريباً لدى كثير من المشتغلين بهذا العلم الشريف فضلا عن غيرهم
من أهل العلم فنشأ المتأخرون في الغالب على تأويل نصوص الصفات
الواردة في الكتاب والسنة؛ مع تعصب كثير منهم لمذاهبهم الفقهية»
وتمجيدهم للطرق الكلامية والفلسفية»
وفي هذه القرون المتأخرة كثرت الأحاديث الضعيفة والموضوعة في
١٠٠8 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: البخاري في العلم (رقم )١(
الاعتماد عليها في العقائد والأعمال» ونتج عن هذا فشو البدع والتأويل
والجهل بمذاهب المحدثين» وبالأحاديث الصحيحة.
وقد منْ الله على العالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن السابع
بوجود شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ولد ونشأ في أسرة عريقة في العلم
والدين وذات مكانة مرموقة بين الحتابلة من قرون.
وبدأ شيخ الإسلام يحس قبل أن يبلغ الحلم ما عليه الأمة الإسلامية
في فساد في أبواب العقيدة؛ والفقه؛ والسلوك؛ وفي مجال الاجتماع
والسياسة؛ ففتح الله قلبه من صغر سنه للتفقه في الدين حسب المنهج السلفي
الدقيق وتضلع من علوم المعقول والمنقول وهو دون العشرين» ودرس داء
المسلمين وهو وقوعهم في فتئة تأويل نصوص الكتاب والسنة متأثرين
بالفلسفة والكلام والمنطق والتصوف» ودرس أحوال الفرق الضالة والمبتدعة.
وساعده على ذلك اهتمامه بعلوم الكتاب والسنة ومنهج السلف
واستيعابه حيث جمع وحفظ وفهم وتدبر؛ وألف ودرس وأفتى.
فتوجه إلى نقض المنطق والفلسفة والكلام والتصوف ولخص داء أهل
الأهواء في فهم الشريعة أنهم إما يستدلون بأدلة عامة أو بنقل باطل أو بقياس
وقال: «وكل من اعتقد نفي ما أثبته الرسول حصل في نوع الإلحاد
بحسب ذلك» وهؤلاء كثيرون في المتأخرين قليلون في السلف؛ ومن تدبر
كلام كثير من مفسري القرآن وشارحي الحديث ومصنفي العقائد النافية
والكلام وجد فيه من هذا ما يتبين له به نقيقة الأمر»!'.
() درء تعارض العقل والنقل /1١( 170+
وقد أطبق أهل العلم على الثناء عليه وأذعنوا لإمامته في العلوم
والفنون» وأنه كان فريد عصره ووحيد دهره علماً ومعرفة وشجاعة وذكاء
جميع العلوم والفنون كان بارزاً في الحديث وفنونه بل عد من كبار أثمتة»
وقد بدأ بتحصيل الحديث وروايته مبكراً وأكثر حتى زاد شيوخه على مائتي
شيخ» وكتب ونسخ وخرج وانتخب» ونظر في الرجال» والطبقات وحضصل
يحفظ الحديث معزواً إلى أصوله وصحابته.
وبر في علل الحديث وفقهه.
وقد وصفه الذهبي بكلمة جامعة وبين مهارته في الحديث وعلومه
ومعرفةً بفنون الحديث» وبالعالي والنازل» والصحيح والسقيم مع حفظ
لمتونه الذي انفرد به؛ وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه؛
وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن
في القلعة بدمشق.
وكثر تلاميذه الذين لا يحصون»؛ وفيهم الأئمة الكبار الذين لهم مكانة
عظيمة في خدمة الحديث وعلومه.
وملخص كلام الأئمة في شأنه أنه قد ثبتت له الإمامة في كثير من
إحيائها والرد على من خالفهاء وهو إمام في الجرح والتعديل ونقد
الرجال» وإمام في معرفة أهل العلم وطبقاتهم.
وهو من أثمة الإسلام الذين أكثروا من التأليف والتصنيف وتحرير
الفتاوي» وترك ثروة علمية عظيمة» وقد تميز بين أهل العلم باعتناءه بكثرة
استدلاله بالنصوص الشرعية والآثار السلفية» مع مراعاة قواعد الرواية
والدراية ومناهج المحدثين في اختيار الأدلة الصحيحة؛ والتنبيه على صحيح
الحديث وسقيمه.
كما شرح الأحاديث النبوية على طريق المحدثين القدامى من غير
تعصب لرأي أو قول.
وقد اضطر في سبيل شرح هذه الأحاديث على منهج المحدثين إلى
أن يوجه الانتقاد الصريح إلى جملة كبيرة من أهل العلم ومؤلفاتهم؛ والتنبيه
على ما فيها بدع ومتكرات؛ وضعاف وموضوعات.
فتكلم في تصحيح الحديث وتضعيفه؛ كما تكلم على الرجال وقد
وقد نبه على أخطاء المؤولين من مفسري القرآن وشراح الحديث في
فهم النصوص وتأويلها على غير مذهب السلف كما بين فساد أقوال القائلين
برد الأحاديث الموهمة بأنها خلاف للعقل أو القياس بلا حجة وبرهان.
فتكلم في رسالته المسماة: «مقدمة في أصول التفسير» على أخطاء
بعض المفسرين الذين حرفوا الكلم عن مواضعه وفسروا كلام الله
من الذين صنفوا في شرخ الحديث وتفسيره من المتأخرين من جنس ما وقع
فيما صنفوه من شرح القرآن وتفسيره»!".
سبب اختيار الموضوع:
وخلاصة القول في شيخ الإسلام وآثاره وأعماله التجديدية أن هذه
الشخصية النادرة الفريدة التي ظهرت في أواخر القرن السابع وأوائل القرن
الثامن» قد تركت آثاراً حسنة عظيمة في مجال العقيدة والسنة والفقه؛ وقد
نفع الله بجهوده العظيمة المخلصة أمماً لا يحصون وقد تخرج عليه أمة؛ كما
وكان سر نجاح دعوته معرفته التامة بالحديث وعلومه ومناهج
أصحابه وتلاميذه ومن سار على طريقتهم وانتهج منهجهم في العصور
ولا يخفى على أهل العلم حاجة طلبة العلم الماسة إلى علوم شيخ
الإسلام وآراءه في عالمنا المعاصر الذي شهد إقبال طلبة العلم على كتب
التراث وخاصة كتب الحديث» مع ملاحظة تشابه كبير بين عصر شيخ
الإسلام وعصرنا هذا في كثير من الأمور من فشو المناهج الكلامية والفقهية
377 /13( مجموع الفتاوي )١(