شهدت الصِّناعة السِّياحيّة تطوّرات مُتسارعة منذ النّصف الثاني من القرن الماضي؛ فقد ازدادت حركة السّياح بين مختلف قارّات العالم مدعومة بالتقدُّم الكبير الذي شهده قطاع النقل عموماً والنّقل الجويّ على وجه الخصوص، حيث ظهرت أصناف متعدّدةٌ من الطائرات ذات الأحجام والسرعات الكبيرة وهو ما ساهم إلى حدٍّ كبير في ربط الوجهات العالميّة ببعضها البعض، وقد استفادت الوجهات السِّياحيّة البعيدة من هذا التطوّر على نحو أصبحت فيه المسافة عاملاً أقلّ أهمية في حال امتلاك الوجهة السِّياحيّة لمقومات جذابة.
وإذا كانت الفترات السابقة قد اتّسمت بشيوع ما يُسمّى بالسِّياحة الجماعية التي أفرزت مجموعة من السلبيات على المقوّمات الموجودة في الوجهات السِّياحيّة، فإن أنواعاً أخرى من السِّياحة قد أخذت في الظهور للتقليل من هذه الآثار السلبيّة، حيث برز في كثير من المناطق ما يُسمّى بالسِّياحة البيئيّة التي تجذب إليها عشّاق الطبيعة والنبات والحيوان، وهي سياحة تعتبر صديقة للبيئة مقارنة مع غيرها من الأصناف، وغالباً ما تكون المجموعات السِّياحيّة المنضوية تحت هذا الشكل من السِّياحة أكثر حساسيّة وإيماناً بالقضايا البيئيّة، لذا نجدها حريصة كل الحرص على عدم الإضرار بالمواقع الطَّبيعيّة أو التغيير في مكوّناتها وأشكالها بأي طريقة كانت. ومن هنا تداخلت السِّياحة البيئيّة مع مفاهيم أخرى ذات مغزى مشابه كالسِّياحة المسؤولة والسِّياحة الخضراء والسِّياحة المستدامة وغيرها من المسمّيات التي تحمل في داخلها عناصر إيجابيّة نحو البيئة.
ونظراً لأهمية هذا النوع من السِّياحة، فإننا سنعمل في هذا الكتاب على مناقشة أبرز الجوانب المتعلّقة بالسِّياحة البيئيّة من حيث التعريف بها وبمفرداتها وتوضيح المقصود بالسائح البيئي مع ابراز الفارق بينه وبين الفئات الأخرى من السّياح.
كما سنتناول الخلفيَّات الفكريّة والفلسفيّة التي شجعت على تطوّر السِّياحة البيئيّة مع الإشارة إلى فوائدها على السّائح والمجتمع المحليّ على حدٍّ سواء، وهذا يتضمّن استعراضاً موسعاً للآثار الإيجابية والسلبية للصناعة السِّياحيّة على البيئة مع إبراز العلاقة بين التغيرات المناخية والسِّياحة خصوصاً في المواقع التي تعدّ حسّاسة للتغيُّرات المناخيّة كجزر المالديف.
وسيتمّ استعراض أنواع السِّياحة المرتبطة بالظواهر البيئيّة، وطبيعة الخدمات السِّياحيّة المُقدّمة في المواقع الطَبيعيّة والشروط والضوابط التي تحكم عملها مقارنة مع غيرها من المؤسّسات الخدمية المتواجدة في مواقع سياحية غير طبيعيّة .
أما السِّياحة المُستدامة، فإنها من المفاهيم التي ستحظى بالمناقشة في هذا الكتاب خصوصاً في ظل الخوف من التأثيرات السلبيّة (سواء بيئيّة أو إجتماعيّة أو ثقافيّة) للسياحة مع توضيح مفاهيم مهمة في هذا المجال كالطاقة الإستيعابية للمكان .
ويتناول هذا المبحث موضوع التخطيط في السِّياحة البيئيّة وعملية إعداد وتطوير البرامج السِّياحيّة البيئيّة من أجل ضمان تلبية حاجات السُّيَّاح ورغباتهم دون المساس بالمواقع الطَّبيعيّة أو بالثروة النباتيّة والحيوانيّة المتواجدة فيها.
ومن ثم سيتم مناقشة السِّياحة البيئيّة في الأردن من خلال إبراز أهم المواقع السِّياحيّة البيئيّة والجهات الناشطة فيها، وكيفية بناء المسارات السِّياحيّة البيئيّة في الأردن، سواء أكان ذلك في المحميّات الطَّبيعيّة أم الغابات أو الصحاري أو الجبال مع تسليط الضوء على عملية الدمج بين هذه المواقع وبين المواقع التُّراثيَّة والأثرية القريبة منها.
وآخر ما يتناوله الكتاب، استعراضٌ للجهود المبذولة لحماية المواقع الطَّبيعيّة وأهم التشريعات الموضوعة للحفاظ عليها ومنع العبث والتخريب فيها كتلك التي تنظّم استعمالات الأراضي وعمليات حماية المواقع الطَّبيعيّة بواسطة إنشاء المحميات الطَّبيعيّة، ووضع الانظمة التي ترسم مسارات محدّدة للسياح داخل المواقع الطَّبيعيّة للتقليل من التأثير السلبيّ الناجم عن الحركة السِّياحيّة على المواقع الطَّبيعيّة.

---

---