للناس من الخاصة والعامة. وأطلق عليهن اسم «الغلاميات» كما يقول
المسعودي في كتابه «مروج الذهب».
وكان الفسق يتطور تطوراً خطيراً حتى انتهى_الأمر بالمحتسب في
اللاذقية؛ وهو والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن يجمع القحاب
والغرباء من الفُسّاقَ في حلقة كما يقول القفطي في «أخبار الحكماء» وينادي
المطران» ليكون حجة بيدها من تعقب الوالي لهاء وإذا وجد خاطىء مع
بخروج النساء مع الجندء ولكن الخراسانيين وعلى رأسهم أبو ملم منع هذه
الخليفة العربي - على الرغم من الأبهة والجلال المحيطة به كان في حقيقة
أمره أداة في يد الفرس الذين جاءوا بالعباسيين بعد انقلاب قام به أبومسلم
الخراساني . وعلى الرغم من المذبحة التي وجهها الرشيد نحو أعيان الفرس
استفتاء العلماء على القول بخلق القرآن» ولكنه كان استفتاءً قهرياً يراد به
تقرير القول بخلق القرآن» ومن ثم ينطلتق المخطط نحو هدم قدسية القرآن»
وإخضاعه للمشيئة الإنسانية شأنه شأن كل شيء خلى من أجل الإنسان.
لقد اشتدت هجمة الفرس على عقيدة الإسلام بقيادة قاضي القضاة
أحمد بن أبي داؤد؛ وأرغموا الخليفة المتوكل بعد المأمون على 'ضرب
المعارضين من العلماء للقول بخلق القرآن. وكان ضرب الإمام أحمد بن
حنبل في الحقيقة انتصاراً معجزاً للإسلام الشامخ العتيد من جهتين:
أولاهما: أن السلاح الفكري الذي احتج به الفرس لخلق القرآن كان
واهياً لا يثبت أمام النقاش والفحص, ولذلك كان الضرب في مجال الفكر
دون الحجة والبرهان إفلاساً واضحاً وهزيمة فكرية ظاهرة.
حنبل» بل كان صمود الإسلام الذي تغلغل في كيان أحمد بن حنبل فتكلم
بلسانه؛ أو منحه من القوة ما يصمد به أمام الجلد والتعذيب فكان صمود
الإسلام باسم أحمد بن حنبل وهزيمته لجبابرة السلطان موازياً لصمود الإسلام
وهزيمته لمعاول الهدم الساحرة التي تعمل في ضراوة لإسقاط أصلب عقيدة
عرفها التاريخ الديني والسياسي جميعاً. ولكن الهزيمة الثانية كانت لقوى
الإلحاد في العالم كله وعلى المستوى الشعبي لدولة بني العباس بصفة
خاصة؛ بقيادة كبار العلماء وأطهرهم سجية وسريرة.
وكان الهجوم على المستوى الشعبي ممثلً كما يروي حنبل بن إسحاق
في كتابه المخطوط «محنة أبي عبد الله بن حنبل» في أن أحمد بن أبي داؤد
بعد هزيمته أمام العلماء لجأ إلى وسيلة شيطانية يؤسس بها عقيدة خلق القرآن
من جيل آخر من المسلمين» فأصدر منشوراً يلزم معلمي القرآن في
«الكتاتيب» أن يقرروا على الصبيان حفظ عقيدة القول بخلق القرآن إلى جانب
ولكن صف أهل السنة كان قوياً لا تقوى عليه هذه الأوهام الوافدة على
صورة ثقافات ومذاهب ومترجمات وبدع وأهواء تلقن مشافهة؛ أو تملي على
طامع من القراصنة المحترفين.
وزاد من قوة أهل السنة انحياز المدرسة الجديدة التي تمزج بين نص
السنة وروحه في أعمى مراتبها وهم العلماء الزهاد الأوائل الأبرياء من كل
دخيل من النظريات أو الأقوال الموهمة المتشابهة. وكان رأس. هذه المدرسة
الحقيقي هو: الحارث المحاسبي الذي سبق الغزالي. بمزج الفقه الإسلامي
لم نعرف له نظيراً سبق عليه ولا لحى به في مضماره كمنهج عميق من
التحليل النفسي لأول مرة في التاريخ» واستخدام هذا التحليل النفسي في
خدمة شريعة الإسلام لأول مرة في الفكر الديني على الإطلاق.
ولكن الحارث على أي حال فتح عينيه على الحياة فرأى أياه من رجال الفكرء
مما كان له بالتأكيد أثره على اتجاه الحارث نحو الفكر هو الآخرء ولكن لا
على وجه التقليد الأعمى» وإنما كان اتجاهه يكشف عن شخصية مستقلة»
وعقل يأبى إلا العمل والدوران في أفلاكه حتى يرسم معالم طريقه بنفسه؛ ولا
لفتوة الإسلام في الحقيقة؛ وفجأة تبدأ أول البوادر الفريدة في شخصية
الحارث المحاسبي الفريد هو الآخر. فلقد اختار الولد طريق السنة معارضاً
قوياً لأبيه. وظهرت تلك المعارضة علانية عند «باب الطاق» في بغدادء إذ
أمسك الحارث بأبيه هناك وجمع حوله الناسء وقال له على مسمع منهم:
لم تمنعه حشمة الأبوة عن إعلان رأيه؛ وإنذار أبيه؛ ما دام الأمر يتصل
بالإسلام الذي بدأ يسري في أوصال الحارث» ليجعل منه هو الآخر صورة
متحركة مجاهدة قويمة قوية الحركة والكلمة؛ صادقة صدق الإسلام؛ ونقية
نقاءه» ومنصورة بنصر الله القاهر.
ملامح شخصيته:
يكون تقليدياً كغيره من أهل السُنةَ من العلماء: : يعني بالرواية والدراية في
الحديث؛ وينسلك في إطار مذهب من المذاهب الأربعة» وغاية ما يصل إليه
مطلقة لا تتقيد بأفكار إمام بعينه. وكان يمكن أن يلجأ إلى حلقات بغداد
فيحدد الفرع الذي يتخصص في دراسته بتوسع من بين فروع العلم السني
المعروف» من الحديث أو التفسير أو الأصول أو غيرهاء ثم لا شيء وراء
دون أن يتقيد بخلاف العلماء في كفر القدرية فيلتمس لأبيه وجهاً من وجوه
الإسلام على أساسه؛ هذا الفتى ليس هو الذي يندفع مع صف الطلاب حتى
يختار مكانه في الصف دون بحث ولا فحص ولا تدقيق .
وجوهه؛ ويحاول أن يجد مكانه في صف أهل السنة بشروط محدودة هي :
-١ أن يكون متفقاً تمام الاتفاق مع أفاعيل الصحابة ومسالكهم.
وبحث طويلً. وانتهى به البحث إلى أن حلقات الحديث يسيطر على
أهلها الإعجاب وحب الشهرة. وأن علماء الفقه يعيشون بين دوامة الخلاف»
وحب الانتصار للرأي» وأن علماء الآخرة من أهل السلوك ليسوا كما يريد:
تؤثر التواضع والخفاء», ولا تميل إلى الشهرة» وتعني بالجوانب الروحية عنايتها
بالجوانب الشرعية. وكان مطلباً عزيز المنال. طال به الزمان في البحث عنه»؛
حتى أصيبٍ بما يشبه أن يكون أزمة «اكتئاب نفسي» حددها في مقدمة كتابه
وبعد بحث طويل اهتدى إلى من يريده مرشداً له في طريق الآخرة ممن
ويبدو أنه درس كل العلوم التي لا تحتاج إلى السند بنفسه. دون أن
تتحدد شخصيته المستقلة في :
-١ أنه كما يقول أستاذنا الدكتور عبد الحليم محمود - طيب الله ثراه - :كان
الصلاة» لا يتفق ََ الوضوء كما حدده مذهب من المذاهب الأربعة» بل
إنه تتبع أسلوب الوضوء عند الرسول في وعند أصحابه؛. وسجل من
مجموع ذلك صورة متكاملة لا شأن لها بالصور التي حددها الأئمة الأربعة
أنه عني بتدوين «فقه ما لم يدونه الفقهاء» في أبواب من كتبه؛ مثل: من
سرور المسلم؛ ومذاهب السلف عند غلبة الحرام على المطاعم؛
ومذاهب الورع» واغاليط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» إلى غير
ذلك من الأبواب التي أغفلها الفقهاء؛ ولا يدونها إلا مجتهد مطلق مستقل
أنه نقد بشدة نفس المدرسة التي آثرها وهي المدرسة الروحية في كثير
من آرائهم؛ ورماهم بالغلطة والجهل بالأخبار فيما يتصل بالمكاسب
المدرسة التي انتسب إليها كما هو شأن الغالبية العظمى من العلماء.
على المشاهدة الشخصية؛ ومن أجل هذا عني المحاسبي بدراسة أحوال
والقراء والصوفية في كتابه «آداب النفوس» إذ أنه لم يصدر حكماً إلا بعد
مشاهدة وسماع شخصي؛ وهو سبق لم نعهده في الفقهاء ولا في علماء
أن ذاته الداخلية كانت من القوة
علماء بغداد ومدارسهاء وذلك على الرغم من أن اجتماع تلاميذه به في
حلقة درسه كان على صورة لم تعهدها مدارس العلم» إذ كان الوقت
المختار له ولهم هو: ما بعد العشاء الآخرة حتى صلاة الفجر. وهذا
عمل كان يمكن استغلاله في الدعاية والشهرة. ولكنه لم يفعل لغناء ذاته
الداخلية عن كل شيء إلا الإيمان والحب والنصح وغيرها من مقومات
الشخصية السوية المستقيمة.
لم يكن كغيره من العلماء يحاول الانتصار لنفسه بما يشبه الحق من
قال الحارث: عملت كتاباً في المعرفة فأعجبني فدخل علي شاب
عبد اللهء المعرفة حق للخلق على الحق+ أو حق للحقى على الخلق؟
قلت: حقى للخالق على الحق. قال: هو أولى أن يبذلها لمستحقيها.
قلت: بل حتى للحى على الخلق. قال: هو أعدل من أن يظلمهم.
فاخذت الكتاب وحرقته» وقلت : لا أعود أتكلم في المعرفة أبداً.
وجه للدفاع عن نفسه وعن كتابه» لأنه يتحدث عن المعرفة من حيث
التربية والشريعة والأمر والنهي» أما الشاب فيقصد المعرفة من حيث
القسمة الإلهية الأزلية وهي الحقيقة. فاختلف الوجهانء وكلاهما
من الغرور والإعجاب.
لم يكن عالماً متخصصاً يغلق فكره على فرع معين من فروع المعرفةء
وإنما كان رجلا متعدد المواهب. مجيداً في كل ما اقتحمه من ميادين
خبير بالمجتمع وتحركاته الظاهرة والخفية» متطلع إلى مذاهب غيره من
الفقهاء والمفكرين في أرجاء الإسلام» ناقد بصير لا سيما في قضايا
جهل بالحديث والأخبار» وغلظة في إصدار الأحكام .
القدرية؛ وليس بين أهل ملتين توارث. ورغم الخلاف في كفر القدرية؛
والغريب في أمر المحاسبي» والذي لم أستطع له تفسيراً يقوم على سند
مكتوب ومأثور هو أنه نجا من محنة القول بخلق القرآن. وكان معاصراً لهاء
وكان رأساً من رموس العلم» وصاحب مدرسة كبرى يمكن أن يفيد منها
القاضي أحمد بن أبي داؤد.في نحلته التي انبرى لنصرتها.
المعنزلة وغيرهم من أسباب الخلاف بينه وبين الإمام أحمد بن حنبل؛ حيث
كان يرى أحمد إهمال هؤلاء المارقين» ويرى الإمام المحاسبي الهجوم
ونحلة القول بخلق القرآن كانت نحلة اعتزالية في أصلها وفرعهاء وهذا
عدو من أعدائهاء فلماذا لم يحمل مع من حمل للمحنة؛ ولماذا يتعرض
للتعذيب كما تعرض غيره من العلماء.
ولكي نجيب على هذا التساؤل يجب أن ندرك أن غير المحاسبي من
ذوي الشأن في ذلك العصر لم يتعرضوا هم الآخرون لأذى السلطان في شأن
من أصحاب مدارس التصوف ولكن الفرق ثابت بين هؤلاء وبين المحاسبي؛
فلا السري ولا الحافي ولا غيرهما من رجال التصوف كانوا يهاجمون المعتزلة
كغيره من هؤلاء لم يكونوا موضع اهتمام السلطان في شأن المحئة قول غير
مستقيم؛ من جهة أن المحاسبي إمام مجتهد محدث متكلم له باع طويل في
تسفيه المعتزلة أفزع الإمام أحمد نفسه.
الذي كان قد ثار بين أحمد وبين المحاسبي فظنت أنه لا خطر من
المحاسبي. . .. أو أنهم عرفوه بما اشتهر عنه من الصلاح وحب الخفاء
النصف الآخر اقترب مني لما أنست بقربهم».
كان المحاسبي مغناً بإصلاح البواطن» وكان أحمد بن حثيل مغياً
أنه رجل حديث وفقه وكلام وهجوم على كل من انحرف عن خط أهل السئة.
ولكن جمهور الرواية والدراسات الفقهية جمهور عريض لا يتهيا مثله في اتساع
محاولات لتشويه المحاسبي:
إنه داء قديم في البشرء هو أن يستظهر الإنسان برأي كبير من العلماء
ليهدم عالماً آخر. ... ولكن الله تعالى إذا أراد إبطال حجة هذا الهادم
المخرب أجرى على لسانه وقلمه دليل خطئه.