وساتناول فى هذا الكتاب بدايات أمور شتى ؛ بادا من مسائل عادية نسبيا
وتحدث كل يوم , ثم أنتقل تباعا إلى مسائل أبعد مدّى وأعم دلالة ٠ حتى نصل فى
النهاية إلى النظر فى الوقت وفى الأحداث التى يمكن أن تكون قد وقعت فى بداية
الكون ذاته .
وسيكرس كل فصل من الفصول التالية لبداية شىء ما وسيكون اسم هذا الشىء
عنوان الفصل المعنى , وسنبدأً عملنا بتكنولوجيا إنسانية محددة موثقة توثيقا كاملا »
بحيث لا تثير لنا أى مشكلة .
الات
طيران الإنسان
فى مدينة كبرى - مثل نيويورك أو شيكاغق أو لوس - يستطيع الإنسان
فى أى ساعة من النهار أو الليل أن ينظر إلى فوق ؛ فيرى طائرة أو أكثر ( أو يدى
أنوارها ليلاً ) تتحرك فى السماء , والمنظر مالوف إلى درجة أن أحدا لايلتفت إليه ٠
ولكن , عندما كنت صبيا صغيرا فى عشرينيات القرن العشرين , كانت رؤية
طائرة فى سماء نيويورك أمرا نادرا إلى درجة أن الناس كانوا يهرعون خارج بيوتهم
لمشاهدة المنظر والإعجاب به ؛ ومن ثم لابد أن الطائرات بدأت تطير قبل العشرينيات
بمدة غير طويلة ؛ فمتى بدأت فعلا ؟ متى بدأ الإنسان يطير ؟
قد تبدو الإجابة يسيرة : ففى ١١ ديسمبر 18١7 أنجز مخترع أمريكى يدعى
أورقيل رايت ( 14/1 - 1448 ) أول طيران لطائرة فى التاريخ فى قرية كيتى هوك
ولم تقطع تلك الطائرة سوى 85٠ قدمًا » وهى لا تكاد تبتعد عن سطع الأرض ؛ ظلت
ذلك أول طيران تاجح فى طائرة » ويمكن القول إنه يمثل بداية طيران الإنسان +
فهل انتهت بذلك القصة ؟ هل بإمكاننا أن ندع جانبا مسألة طيران الإنسان
ونتتقل إلى موضوع جديد ؟
فعالم الفلك الأمريكى صمويل بييريونت لانجلى ( 1874 - ١1 ) بدأ يجرب
الطائرات سنة 1847, وقام قبل طيران الأخوين رايت بثلاث محاولات لجعل طائرته
تطير , وكاد ينج فى المرة الشالثة , لكنه لم يوفق تماما , وفى 1418 كانت طائرته
الثالثة مزوّدة بمحرك أقوى ونجح طيرانها , غير أن لانجلى كان قد توفى ٠
حسنا , فهل يمكن القول إن طيران الطائرات بدأ بنصف النجاح الذى حققه
لانجلى ؟
بوسعنا أن نجيب عن السؤال كما يلى : من المؤكد أن لانجلى جزء مشرف من
تاريخ طيران الإنسان , وكذلك كان باحشون سابقون اشتغلوا بصنع ات تطير +
والفنان الإيطالى ليوناردوداقنتشى ( 1257 - 54٠ ) رسومات لافتة لآلا
بر ذكى لقوانين الميكانيكا . بل ! قدماء الإغريق ابتكروا - قبل ذاك بألقى
سنة - قصصا خيالية تور حول صنع أجنحة ذات ريش تمكن المرء من الطيران ٠ بيد
أن البداية الحقيقية ينبغى أن تنسب إلى أول طيران تاجح تلته حالات أخرى ناجحة من
الطيران +
إنسان نجع فى أن يطير . لقد كان أول من طار بمركبة أثقل من الهواء : مركبة طارت
برغم أنها ما كانت لتطفو فى الهواء , ولكن ما شأن المركبات التى تطفو فعلا
١7 ) فى القيام بأول طيران , وقفت خلاله جندولة قادرة على احتواء كائنات
بشرية , معلقة أسفل كيس فى شكل سيجار , مملوء بالهيدروجين , وقادر على الطقق
فى الهواء , كان هذا الجهاز بالونا قابلا للتوجيه أو منطادا ؛ ويما أن مثل هذا الجهاز
حتى ضد الريح ؛ وأطلق أيضا على تلك الأجهزة اسم " مناطيد تسيبيلين " من اسم
مخترعها , كما سميت " سفن هوائية ” , لأسباب واضحة .
وقد بنيت مناطيد إضافية واستخدمت للطيران التجارى قبل الطائرات , وفى
العشرينيات والثلاثينيات كان يبدو أنها تمثل الاتجاه الذى سيسلكه طيران الإنسان +
فما السبب إذن فى أن بدء طيران الإنسان ينسب دائما إلى طيران طائرة رايت فى
٠١٠ وليس إلى طيران فون تسيبيلين الذى حدث سنة 1900؟
الجواب هو أن المناطيد خسرت السباق ؛ فى نهاية المطاف؛ فالكيس المعلوء
بالهيدروجين كان شديد التعرض للاحتراق , كما حدث لل « هندبرج » ؛ وهو أضخم
منطاد بُنِى فى يوم من الأيام ؛ عندما انفجر مشتعلا وهو راس فى ليكهرست +
فى ولاية نيوجرسى يوم 7 مايو 1477 ١ وحتى المناطيد التى استُخدم غاز الهليوم فى
نفخ أكياسها كانت شديدة التعرض لأخطار الأعاصير ؛ اذلك اختقت المناطيد من
المسرح قبل الحرب العالمية الثانية , فى الوقت الذى ازدادت فيه الطائرات
وسرعة باطراد .
فالمناطيد بوصفها المنافس الفاشل فى طيران الإنسان , تميل إذن إلى الانزواء
لكن لنعد خطوة إلى الوراء فى الزمن
فى 1867 , أى ثمان وأريعون سنة قبل تسيبيلين . وضع مهندس فرنسى اسمه
هنرى جيفار ( 1416 - 1841 ) محركا بشاريا فى جندول تحت بالون فى شكل
بق ”. وجعله يدير مروحة بحيث يتستى له التحرك فى أى اتجاه مرغوب بسرعة 7
أميال فى الساعة +
فهل يمكن اعتبار ذلك أول طيران يقوم به متطاد ؟ كلا , لأن جهاز جيفار لم يسفر
آخرى من نفس النوع ٠ ى الحدث الذى " ثبت أقدامه *:
ولاذا ثبت اختراع تسبييلين قدمه , فى حين أن اختراع جيقار لم يفمل 4 لسبب
واحد ؛ وهو أن تسيبيلين لم يكن يعمل بمجرد كيس من الهيدروجين ؛ بل أحاط الكيس
باغلفة من الالومنيوم الرفيع , الأمر الذى جعله أقوى ميكانيكيا بكثير وسمح بجعله
انسيابيا بصورة أكثر كفاءة بحيث تسنى له التحرك بسرعة أكبر , كذلك استخدم
تسيييلين محرك احتراق داخلى وليس محركا بخاريا , فكان الأول أكثر كفاءة , ومع
لا يصح أن يؤخذ عليه بشدة عدم الإفادة من تلك الأشياء .
على أنه - حتى بغض النظر عن جيفار - يبقى أن البشر كانوا يطيرون -
بنجاح وعمليا - قبل الأخوين رايت وقبل فون تسيبيلين - فى أجهزة لم تكن طائرات
ولا مناطيد ؛ ذلك أن الطائرات والمناطيد على السواء ؛ هى فى نهاية المطاف أجهز:
مزودة بطاقة وتستطيع شق طريقها فى عكس اتجاه الريح , ولكن ما القول فى الأجهز
غير المزودة بطاقة والتى لا تستمد الطاقة المحركة لها إلا من الرياح ؟
بعيدة. خاصة إذا استفادت من تيارات الرياح الصاعدة ؛ وقد طار الأخوان رايت
فى الواقع لا تزيد كثيرا عن كونها طائرة شراعية محسنة ومزودة بمحرك احتراق
داخلى .
وذلك قبل اختراع الطيران - بقوة دفع الطاقة - بمدة طويلة .
وكان المهندس الإنجليزى جورج كايلى ( 11773 - 1861 ) أول من درس دراسة
الج , ويهذا أسس علم الديناميكا الهوائية . لقد كان أول من أدرك أن الشىء الذى
متحركين ( مثل أجنحة الطيور ) ؛ فابتكر الشكل الأساسى الذى يمكن أن تجىء عليه
الطائرات فى حالة اختراعها - جناحان وذيل وهيكل انسيابى ودقة - وأدرك أنه إذا ما
تسنى صنعها خفيفة بما فيه الكفاية فإن الريح سوف تحمل الجهاز عبر الهواء فى
رحلات طويلة. وأدرك أيضا أن ذلك الجهاز سوف يحتاج إلى محرك ومروحة كى يتسنى
له أن يتحرك فى عكس اتجاه الريح , لكنه كان يعلم أنه ان يكون من بين المحركات
الموجودة آنذاك محرك خفيف بالقدر الكافى وقوى بما فيه الكفاية.
وعلى كل فقد شيد فى 1807 أول طائرة شراعية قادرة على حمل رجل فى
الهواء , كان عمره حينئذ ستين سنة , ولم يشعر أنه قادر على المغامرة بالقيام
من الخدم أن يطيعوا الأوامر ؛ اذا أمر كايلى سائق عريته بان يركب
الشراعية فى أول رحلة لها , رغم اعتراضات الرجل المسكين الشديد؛
نفذ السائق الأمر وعاش بعدهاء
كان ذلك بعد مضى سنة على أول رحلة قام بها البالون المزود بالطاقة الذى ايتكره
جيفار , لكن طائرة كايلى الشراعية غير المزودة بالطاقة أحرزت بعض النجاح ؛ ثم
ُصنعت طائرات شراعية أفضل ؛ وقرب نهاية القرن التاسع عشر أضحى الطيران
الشراعى رياضة شعبية لدى الشباب والمغامرين , وكان أشهر متحمس للطيران
الشراعى آنذاك مهندسا ألمانيا يدعى أوتّوللينتال (/144 - 1893) توفى من جراء
ولكن كانت هنالك - قبل طائرة كايلى غير المزودة بالطاقة - بالونات غير مزودة
بالون ( منفوخ بالهواء الساخن ) فى ه يونيو 1747 ؛ ولكن لم يتم إلا فى 3١ توفمير
7 صنع بالون كبير بما فيه الكفاية لحمل إنسان , بل شخصين فى واقع الأمر +
والآخر الماركىدا رلائد : فكان المذكوران أول من طار من بنى البشر فى الهواء فى
جهاز من صنع البشر ؛ أى أول « ملاحين جويين » ؛ وذلك قبل الأخوين رايت
وفى !ا يناير 1746 عبر بيلاتر دى روزييه بحر المانش على متن بالون , وعندما
حاول العودة ببالون يوم ١ يونيو احترقت المادة المصنوع منها البالون بعل الثار
المستخدمة لتسخين الهواء الموجود داخل البالون ( للاحتفاظ بوزنه أخف من وزن الهواء
العادى ) , وسقط على الأرض جثة هامدة من ارتفاع ميل تقريبا؛ هكذا كان أول ملاح
جوى هو أول من لقى حتفه فى كارثة ملاحة جوية.
ولعلك ترى من هذا السرد أن الت فى مجرد لحظة البداية لظاهرة حديثة جدا
ليس من السهولة بمكان ؛ ولو توافرت لديك كل التواريخ , وعليك أن تكون واضحا
بشأن تحديد ما تسعى لتتبع بدايته - أهى الآلات الأثقل من الهواء والمزودة بط
الآلات الأخف من الهواء والمزودة بطاقة ؛ أم الآلات غير المزودة بطاقة ؟ وعليك أن تقرر
ما إذا كنت ستأخذ فى الاعتبار المحاولات غير الناجحة ؛ أو المحاولات الناجحة التى
وثمة نقطة أخرى يمكننا طرحها ألا وهى أن البدايات قد تكون غير واضحة بعض
الشىء ؛ لأن التغييرات تحدث دائما عبر عملية تطور ؛ أى تراكم تغييرات »بل
صغيرة أحيانا إلى حد أنك لا تستطيع تحديد النقطة التى يسعك فيها أن تقول
» هذه هى البداية ».
بدايته فى الماضى ليس الطيران المعزز بطاقة ؛ بل التاريخ ذاته . متى يبدأ السرد
المتأنى للمعارك والصراعات ؛ والمشاكل والحلول , والشر الخبيث والخير الجهيد , الذى
سطر تاريخ الإنسانية الطويل ؟
إن كل تلميذ أمريكى صغير يستطيع أن يعود بذهنه إلى سنة 17171 حين أعلنت
(1401- 501 ) العالم الجديد . لكنّ هذا بالتاكيد ليس أقصى ما يمكن أن تعود
التاريخ يمتد إلى أزمنة أكثر إيغالا فى القدم بكثير , لم يكن الأوروبيون يحلمون فيها
التاريخ
كان غرب أوريا فى زمن رحلة كولومبو داخلا لتوّه فى « الأزمنة الحديثة »
والواقع أن سنة 1847؛ وبالتحديد لان اكتشاف كولومبو التاريخى حدث فى تلك
السنة , كثيرًا ما تعتبر البداية الفعلية للأزمنة الحديثة . وتلك , بطبيعة الحال , مسألة
تعريف . إلى حد بعيد , مثلها فى ذلك مثل كل البدايات بوجه عام . فيمكن سوق حجع
الأتراك للقسطنطينية ) أو بعد ذلك فى 1017 ( بداية الإصلاح الدينى البروتستانتى ).
بيد أننا سنأخذ بسنة ١597 دون مزيد من الجدل +
إن الوثائق المدونة المتعلقة بالازمنة الحديثة متوافرة بامتياز . ولعل سببًا واحدًا فى
الأبد وثائق حاسمة الأهمية . وثمة سبب آخر ؛ وهو أن المخترع الألمانى يوهان
اجوتنبرج ( 1748 - 1274 ) اخترع نحو سنة ١6٠ الطباعة بحروف متحركة , ويذلك
أصبعح فى الإمكان إنشاء سجلات متعددة من كل نوع بحيث استحال ضياعها
بالوشائق . ومن أسباب ذلك طول الزمن المنقضى بحيث تهيات فرص أكبر لحدوث
الخسائر والكثير من التقلبات وصروف الدهر التى تسببت فيها ؛ لا سيما فى غياب
الطباعة . ثم إنه كان " عصر إيمان " كانت فيه الأمور | بالدين أهم كثيرا من
ومع ذلك , فبرغم أن التاريخ مشوش فى حقبة الألف سنة هاته , لدينا ما يكفى
لرسم صورة لا بأس بها للأحداث التى جرت خلالها
ومثال ذلك أن إسبانيا الحديثة لم تتشكل بصورتها الراهنة على وجه التقريب إلا
قرب نهاية العصور الوسطى . أما قبل ذلك فكانت موجودة فى صورة مجموعة من
القاصمة التى أنزلها بها غزو إسلامى أتى من إفريقيا فى وقت مبكر من الحقبة . ثم
أخذت المناطق المسيحية تنمو ببطء على حساب المناطق الإسلامية فى الجنوب وائتلفت
مسيحية فى شبه الجزيرة : البرتفال إلى الغرب ؛ وأراغون إلى الشرق ؛ وقشتالة
- وهى أكبرها - فى الوسط . وفى 1474 تزوجت إيزابلا ( 1806١ - 1504 ) » وريثة
عرس قشتالة . من فرديناتد (1467 - )١١17 ؛ وريث عرش أراغون ؛ وفى ١474 +
كولومبو , استوات الملكة المتحدة لأسبانيا على آخر المناطق العربية فى الجنوب , فكان
ذلك مولد إسبانيا الحديثة .
)٠١87 - ٠١7 ( , غزا انجلترا وهزم الانجليز فى معركة " هيستنجز " بتاريخ ١6
تحكم تلك البلاد الآن , أن تثبت انحدارها من نسل وليم ؛ ويذلك يكون عمر السلالة
بل إن شكل فرنسا الراهن أوغل فى القدم إذ يعود إلى تولى هوج كابيت ( 980
- 413 ) املك فى 4877 ( ألف سنة بالضبط قبل اللحظة التى أكتب فيها هذا ) ..
وكان آخر أحفاده أوى- فيليب الأول الذى نزل عن العرش فى 1848 أى أن الأسرة
استمرت تحكم 431 سنة .
وكان لألمانيا تاريخ شديد التقلب , ظلت طوال معظمه منقسمة إلى أجزاء صغيرة
متشاحنة فيما بينها ومع أعداء غير ألمان على السواء . لكنها شكلت خلال العصور
حاكم مملكة الفرتجة المسيطرة آنذاك على غرب أورويا ؛ إمبراطورًا على يد البابا ليو
الثالث ( 15 - 417 ) فى روما يوم 5 ديسمبر سنة 2460