يُجتث ويخترم؛ وحبل الإيمان أن ينقطع ويصطلم؛ وعقر دار المؤمنين أن يحل
في قلوبهم مرض أن ما وعدهم الله ورسوله إلا غروراء وأن لن ينقلب حزب الله
ورسوله إلى أهليهم أبداء وزين ذلك في قلوبهم» وظنوا ظن السوء وكانوا قوما
بوراء ونزلت فتنة تركت الحليم فيها حيران؛ وأنزلت الرجل الصاحي منزلة
السكرانء وتركت الرجل اللبيب لكثرة الوسواس ليس بالنائم ولا اليقظان»
وتناكرت فيها قلوب المعارف والإخوان؛ حتى بقي للرجل بنفسه شغل عن أن
يُغيث اللهفان. ومّيز الله فيها أهل البصائر والإيقان من الذين في قلوبهم مرض
أقواما إلى المنازل الهاوية؛ وكفر بها عن آخرين أعمالهم الخاطئة؛ وحدث من
أنواع البلوى ما جعلها قيامة مختصرة من القيامة الكبرى.
يغنيه. وكان من الناس من أقصى همته النجاة بنفسه؛
الأهل والمال؛» وآخر فيه زيادة معونة لمن هو منه ببال. وآخر منزلته منزلة
الشفيع المطاع. وهم درجات عند الله في المنفعة الدفاع. ولم تنفع المنفعة
الخالصة من الشكوى إلا الإيمان والعمل الصالح والبر والتقوى. وبليت فيها
السرائر. وظهرت الخبايا التي كانت تكنها الضمائر. وتبين أن البهرج من
الأقوال والأعمال بخون صاحبه أحوج ما كان إليه من المآل. و ذم سادته
كما حمد ربه من صدق ما جاءت به الآثار النبوية من الأخبار بما يكون»
أحزاب: حزب مجتهد في نصر الدين؛ وآخر خاذل له؛ وآخر خارج عن شريعة
وانقسم الناس ما بين مأجور ومعذور؛ وآخر قد غره بالله الغرور. وكان هذا
كما كان دقيقا في وصف أحوال المسلمين ومواقفهم حين غزى التتر بلاد
(1) انظر الفتاوى 328128» 327
(2) يعني سنة تسع وتسعين وستمائة للهجرة. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 410128.
لعظم البلاء؛ لا سيما لما استفاض الخبر بإنصراف العسكر إلى مصرء وتقرب
لكسروهم كسرة وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر. وهذا يظن أن أرض الشام
ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها فلا يقف أمامهم أحد؛ فيحدث نفسه بالفرار
ملكوها عام هولاكو_سنة سبع وخمسين. ثم قد يخرج العسكر من مصر
أخبره به أهل الآثار النبوية؛ وأهل التحديث والبشارات أماني كاذبة؛ وخرافات
بين الصادق والكاذب؛ ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب؛ ولا يعرف
النصوص الأثرية معرفة العلماء؛ بل إما أن يكون جاهلا بها وقد سمعها سماع
العبرء ثم قد لا يتفقطن لوجوه دلالتها الخفية؛ ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه
معارض لها في بادئ الروية.
تراجم الصبيان بالحصباء إِقَْالِكَ ابْتُليَ الْمُوْمِنُونَ وَزُأْزِلُوا زِلزَالًا شَدِيدم
أما المنافقون فلهم شأن آخرء ولهم موقف لا يختلف كثيرا عن مواقف
أسلافهم في غزوة الأحزاب حين ابتلي المؤمنون وبلغت القلوب الحناجر وظنوا
فينبغي الدخول في دولة التترء وقالت بعض الخاصة: ما بقيت أرض الشام تسكن
المصلحة الإستسلام لهؤلاء كما قد استسلم لهم أهل العراق والدخول
بجملتها أو نفصل القول في كل حدث من أحداثها - فذلك ميدانه الكتب
المختصصة- ولكن البحث سيتجه إلى بيان العوامل الظاهرة أو الخفية في دخول
التتر بلاد المسلمين؛ شاملا في ذلك أصل التتر ومعتقدهم والبواعث الأولى
(1) الفتاوى 446128 447.
(2) في صفحات عدة قارن ابن تيمية بين حادثة التتر وموقف الناس منها وغزوة الأحزاب وموقف
المؤمنين والمنافقين منها. انظر الفتاوى 464:440128.
(3) انظر الفتاوى 451128 450.
في عوامل دخلوهم ((بغداد)) حاضرة العالم الإسلامي والتي انتهت بقتل الخليفة
وإسقاط الخلافة العباسية.
ولعل الدارسة تكشف عن أدوار خفية لا تكفي كتب التاريخ المتخصصة
وحدها في كشف رموزها وتفصيل مواقف أصحابهاء وهذا يعني الإستفادة من
كتب السير والتراجم والكتب المعينة بالعقائد والأديان أو الفرق والملل والنحل»
فتلك حرية بكشف أدوار أصحاب العقائد ولا سيما الرافضة - موضع التركيز
هذه الأمة ((التترية) خرجوا من أراضيهم (بادية الصين) وراء بلاد
تركستان1»؛ وأصولهم تركية؛ بل هم من أكثر الترك عدداد.
(1) سير أعلام النبلاء 225122.
(2) الكامل لابن الأثير 359112
إنما كانت طوائف المغول بادية بأراضي الصين فقدموه عليهم .. وأول مظهره
كان في سنة تسع وتسعين وخمسمائة؛ هكذا ذكر الذهبي0.
أما ابن الأثير فهو وإن لم يذكر التتر إلا في سنة 604ه؛ فقد تحدث عن التتر
الأولى وملكهم ((كشكي خان))؛ وأن هؤلاء خرجوا من بلادهم حدود الصين
قديما ونزلوا بلاد تركستان؛ وكان بينهم وبين الخطا عداوة وحروب©.
على التتر الأولى فانشغلوا بهم عن غيرهم.
ولم يغفل ذلك الذهبي بل نقل في أحداث سنة 606ه محاربة ملوكهم للخطاء
وظفر جنكز خان وانفرد ودانت له قبائل المغول».
(1) سير أعلام النبلاء 243122 - وذكر في موضع آخر أن أول ظهور التتر كان سنة وووف
السير 225122
(2) انظر: الكامل 269112؛ 270؛ 271؛ وسيأتي تفصيل شيء من ذلك.
(3) المصدر السابق 271112
(4) السير 225122 226 227.
فهل ذلك نوع من التضارب في منقولات الذهبي» أم أنه أراد بخروجهم
الأقوياء الذين كان لهم أثر في تاريخهم وتنظيم حياتهم؛ لا سيما وقد ذكر الذهبي
أن ((جنكيز خان)) هو أول من وضع لهم ((ياسة)) - أي شريعة- يتمسكون
غيرهم في الغالب منهاء وكانوا يُرهبون عدوهم لشدتهم وشجاعتهم وكثرته» وقد
جود الموفق البغدادي وصفهم - كما قال الذهبي- حين قال: "حديثهم حديث يأكل
الأحاديث؛ وخبر ينسي التواريخ؛ ونازلة تطبق الأرض"؛ هذه الأمة لغتها مشوبة
بلغة الهند لمجاورتهم» عراض الوجوه؛ واسعو الصدور؛ خفاف الأعجازء
صغار الأطراف» إلى أن يقول: وهذه القبيلة الخبيثة تعرف بالتمرجي سكان
أما عن عقيدة التتر وعوائدهم فيقول عنها ابن الأثير:. "وأما ديانتهم فإنهم
يسجدون للشمس عند طلوعهاء ولا يحرمون شيئا؛ فإنهم يأكلون جميع الدواب
(2) سير أعلام النبلاء 227122.
حتى الكلاب والخنازير وغيرهاء ولا يعرفون نكاحا بل المرأة يأتيها غير واحد
من الرجال؛ فإذا جاء الولد لا يعرف أباه"(0.
ويرى ابن تيمية أن التتر خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة
الخوارج الذين قاتلهم علي رضي الله عندرة.
وهو لا ينفي وجود من ينتسب إلى الإسلام من عسكرهم؛ ويثبت كذلك أن
عندهم من الإسلام بعضه؛ ويفصل القول في معتقدهم وعوائدهم وقربهم أو
بعدهم من الإسلام فيقول: "هؤلاء القوم عسكرهم مشتعمل على قوم كفار من
النصارى والمشركين وعلى قوم منتسبين إلى الإسلام - وهو جمهور العسكر-
إلا قليل جداء وصوم رمضان أكثر فيهم من الصلاة؛ والمسلم عندهم أعظم من
غيره.. وعندهم من الإسلام بعضه؛ وهم متفاوتون فيه لكن الذي عليه عامتهم
والذي يقاتلون عليه متضمن لترك كثير من شرائع الإسلام أو أكثرها؛ فإنهم أولا
يوجبون الإسلام ولا يقاتلون من تركه؛ بل من قاتل على دولة المغول عظموه
قتله وإن كان من خيرا المسلمين.. ولا ينهون أحدا من عسكرهم أن يعبد ما شاء
(1) الكامل 360122
(2) الفتاوى 503128 504
من شمس أو قمر أو غير ذلك... وعامتهم لا يلتزمون أداء الواجبات لا من
الصلاة ولا من الزكاة ولا من الحج ولا غير ذلك؛ ولا يلتزمون الحكم بينهم
بحكم الله بل يحكمون بأوضاع لهم توافق الإسلام تارة وتخالفه أخرى..."0.
تستلزم الدراسة مقدمات مهمة تكشف البواعث الاولى لدخول التتر بلاد
المسلمين؛ وتوضح_بداية احتكاكهم وطبيعة علاقتهم مع بعض الدول المستقلة
الخطا- وكيف قادت هذه البداية إلى وصول بغداد وإسقاط الخلافة العباسية.
1- بين الخوارزميين وملوك الخطا:
وتبداً أحداث الخوارزم شاه مع الخطا منذ أن حاربهم أرسلان ابن أتسز بن
محمد بن نوشتكن؛ وتوفي سنة 568ه9.
ثم تلاه ابنه علاء الدين تكش بن أتسز الذي تملك بخارى وأخذها من صاحب
الخطا بعد حروب عظيمة؛ ثم توفي سنة 596ه9.
(1) انظر : الفتاوى 504128؛ 505؛ ولمزيد التفصيل في الموضوع يمكن الرجوع لما كتبه د. سعد
(3) المصدر السابق: 218122 219.