وبين الشعر اقرأ معي كيف صاغ أبو الطيب في أبيات ستة ملامح استراتيجية سيف
الدولة في الحروب :
فوت العنو الذي بمحته ظفر | في طيهأسف في طيه نهم
قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت لك المهابة ما لا تصنع الم
ألزمت نفسك شيئاً ليس بلزمها ألا يواريهم أرض ولا علم
عليك هزمهم في كل معترك وما عليك بم عار إذا النزموا
من خلال التصوير والتعبير والإشعاع الفني نعيش تجربة الحرب ونحس
عظمة هذا الأمير العربي الذي يذود عن الدولة العربية ذوداً » ويحارب الروم
والشعوبيين وبرفع راية العروبة والإسلام وكان المتنبي يذكر كل هذه البطولات
لسيف الدولة » ليعتذر لنفسه عن تعلقه به وحبه له » ولهذا لا نظن انتقال المتنبي
من الحديث الذاقي الحزين إلى هذه المعارك خروجاً على وحدة الجو النفسي للقصيدة
اللوحة إن هذه الخطوط وتلك الخيوط جزء من نسيج القصيدة الفني ومن أجل
هذا نراه بعد البيت الأخير يعاود الحديث عن علاقته بسيف الدولة في لهجة عتاب
حادة تلامس التقريع :
يا أعدل النناس إلا في معامطتي | فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
أنام ملءجفوني عن شواردما وسهر الخلق جراها ويختصم
في هذه الأبيات الخمسة ينتقل أبو الطيب بين عتاب سيف الدولة وتقريعه
والفخر بنفسه وكأنه يقول له من أنت حتى تعاماني هذه المعاملة » وتستقبل خصومي
طبقت شهرته الآفاق وهز الدنيا وأمعت كلماته من به صمم
ولعل هذا المشهد يؤكد لنا الصورة الحقيقية لأبي الطيب » وكيف أنه رجل
يشتغل بالحياة العامة والسياسية من خلال هذا الشعر وليس مجرد شاعر مداح
بنتظر رفد سيده وهل يعقل أن يكون كذلك وهو بخاطب الأمير بهذه الحدة ؛
ويقول له يا أعمى كيف تسوي بيني وبين هؤلاء السوقة الذين يلمون بلاطك طلباً
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأضواء والظلم
نام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم
الشعر يشتغل بالحياة العامة وبخوض المعارك
هذه الأبيات الخمسة - إذن - تصور مشهداً ؛ يعطي الصورة الحقيقية لقيمة
أبي الطيب في مقابل المشهد السابق الذي رسمه لسيف الدولة
فإذا كان سيف الدولة أميراً فارساً يخوض المعارك والحروب فهو فارس
شاعر يحلم بتغيير الدنيا وإذا كان بلاط سيف الدولة يغص بالشعراء الطامعين ؛
بالحكم ؛ + فكيف يسوي سيف الدولة بينه وبين مؤلاء الأذناب والأفاقين
ومع أن سيف الدولة كان يحتر م المتنبي وبعامله معاملة كريمة 6 ويعرف
قدره » فإن ذلك كان في حدود تكريم شاعر كبير ومن أجل هذا كان المتنبي
في بعض الأحيان يضرب عن قول الشعر وإنشاده حتى يلفته إلى أنه فارس يشتغل
بالحياة العامة ويشاركه الطموح والآمال » لا مجرد شاعر كبير كل مهمته أن يقول
الشعر في بلاط سيده وينشده » وكان سيف الدولة بالفعل - يشعر أن الدولة
العظيمة ؛ لا بد لها من شاعر عظيم كالمتنبي ولهذا كان بغيظه كلما أضرب عن
قول الشعر © ويجيء بشعراء آخربن ينشدون الشعر أمامه © وبقعون في عرض
المتنبي وكان له حساد كثيرون ومنافسون أكثر من انصاف الموهوبين من الشعزاء
إلى مشهد آخر بجيء بعد المشاهد السابقة مشهل خاضك لانن بيع >» بهفاد: فيه
أبر الطيب » كل هؤلاء المرتزقة والحافدين والمنافسين يبدأ بقوله :
إذا ريت نيوب ليث بارزة فلا نظن أن الليث مبتسم
ويستغرق هذا المشهد سبعة أبيات من البيت السابع عشر إلى البيت الثالث
والعشرين » وقد ارتفعت في هذا المشهد نبرة التهديد الحاسم إلى الذروة وانعكس
ذلك على المقاطع والجمل والعبارات » فهي في معظم الأحيان قصيرة زاجرة ؛
تسمع فيها صليل الحروف ودوي المقاطع وهدير الجمل ؛ وضراوة الصور 2 بهدد
هؤلاء الذين تجاهلهم ومد لهم في حبال الصبر وحلم عليهم ؛ بأنه سيبطش بهم :
فانظر إليه كيف يعبر عن ذلك في الشطر الثاني من البيت الأول من هذا المشهد
العنق والفم مزق الفريسة فهو يهبددهم بدق أعناقهم وتمزيق أشلائهم » وتتداعى
المعاني فيسخر منهم ويؤكد لهم أن نيوب الأسد البارزة لا تعني أنه يبتسم » بل إنه
يمزق فريسته وتنصهر التجربة الفنية في التجربة الشعورية ويمتزج التصوير والتعبير
باحتدام المشاعر ونحن نلاحظ أنه يلجا إلى التعبير بالصورة في هذا المشهد المحتدم
المتوهج كله ١ نيوب الليث البارزة » « يد فراسة » وفي بقية أبيات هذا المشهد
حرم » هذا الجواد لسرعته وحسن مشيه كان رجليه رجل واحدة » ويديه واحدة
لا يكلفك تحريك يديك بالسوط والرجل للاستحثاث على السير :
رجلاه في الركض رجل ؛ واليداذ يد وفعله ما تريد الكف والقدم
ويعبر عن سيفه بالمرهف الذي يسري به بين الجحفلين يضرب به ١ وموج
فالخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ويقول لهم : إنه فارس قديم لا تستذله القصور والترف والثراء » فقد عاش
في الصحراء والقفار وصحب الوحوش » واخترق الأرض ذات الحجارة السوداء
وتسلق الجبال » وخبر الحياة الشاقة وتغلب على الطبيعة القاسية :
صحبت في الفلوات الوحش منفرداً حتى تعجب مني القور والأكم
ولعل ختام هذا المشهد العاصف بهذا البيت تهديد خفي نكا لسيف الدولة
بأنه على استعداد لأن يعود مرة ثانية إلى تلك الحياة ولكن المشهد على أية حال
كان موجهاً إلى منافسيه وحساده في الدرجة الأول » وكان قد أحس غروب
الأحلام » وانطفاء الأمال ؛ وسودت حياته قسوة الشعور بالفشل وتيقن أن سيف
الدولة أن بمنحه ولاية » ولن يمكنه من تحقيق هدفه الأول في الحياة ولذلك
اتخذ قرار الانتفصال عنه ومغادرته وكان هذا هو التحول النفسي الثالث في حياة
أبي الطيب الباطنية وهو أسى تحول نفسي صادفه في حياته
وأحس بعد هذا الغضب الهادر بالراحة والسكون والاستسلام الحزين
وخصوصاً بعد أن استقر رأيه على أن يغادر سيف الدولة وشعر باليأس الحائر
والضياع الممتد وجل ذلك قٍِ المشهد الأخير الذي كان بمثابة القرار للقصيدة
كلها ا مات أ علا ملعي كل لان ال كي اجا تسد وات لا كل
المشاهد الماضية + مع إحساس جديد طرأ عليه فجأة + بعد قراره الارتحال عن
سيف الدولة وهو هذا الشجن لهذا الفراق ولهذا بدأ هذا المشهد الأخير ب
البيت الممض الدامع العميق الشجي للفراق :
كل شيء يتحول إلى العدم الحياة والناس والأحلام والآمال » وتأمل شحنة
قضية من أهم قضايا الإبداع الفني وهي العبقرية في الفن وبدون التعرض للإجابة
عن هذا التساؤل ؛ فإني أعتفد أن انشغالنا بتحليل العمل الفني واختبار صوره
والتعبيرية ليس إلا اشتغالاً بظواهر العمل الفني وَصتق جوهزة هرا من أعنق
أسرار الموهبة الفنية يستعصي على التحليل والتعليل ومما يؤكد هذه الفكرة » ما
نحسه حيال هذا البيت الخالي من الزركشة اللفظية » والتركيب البياني + ومع ذلك
يتسرب إلينا وبسري في كياننا فيهز النفس هزاً وبثير أعمق ألوان الحزن والشجن
وتحول المشهد الأخير من تلك القصيدة إلى مجرد معان متداعية ليس بينها رباط
منطقي صارم » حتى لنشهد مشهداً كا فيه كل عناصر المشاهد السابقة ولكن
بصورة أخرى ففيه عتاب جياش لسيف الدولة ومكاشفة له بأنه أهمله وأبعده
بالسهام الجارحة » فإنه لا بشعر بالألم للجرح الذي يرضيه ؛ ولكنه يطلب إليه
أن برعى ما بينهما من معرفة فالمعارف ذمم وعهود بين أصحابها ثم يفتخر بنفسه
وينفي عنه النقص والعيب :
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة
إن كان سركم ما قال حاسدنا
ويتالت رعيتم ذاك معرفة
كم تطلبون لناعيساً فيمجزكم
ما أبعد العيب واللقصان عن شرفي
لو أن أمركم من أمرنا أسّسم
إن المعارف في أهمل النهى ذنم
وبكره الله ما تأتنوا إن والكرم
أنا الثريا وذان الشيب والهرم
ويختلط في هذه الأبيات العتاب بالفخر والكبرياء باللوعة والحسرة بالانهيار
النفسي
وفي الأبيات التي تليها يتحول الأمر كله إلى مونولوج داخلي + ينسى فيه سطوة
سيف الدولة على نفسه » ون لم ينس لوغة الفراق ؛ فيتحدث عن البعاد الذي سيكلفه
الأهوال » وكيف أن الرحلة التي سيقطعها لا تستطيعها الإبل والنياق المسرعة في
قريب من دمشق يعني أنه لو رحل إلى مصر ليُحدثن ندماً هؤلاء الذين تركو
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة لا تبتقل بها الوخادة الرسم
لان تركن ضميراً عن ميامننا ليحدن لمن ودعلهم ندم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم
ولعل هذا البوح الحزين قد شفاه بعض الشيء ؛ فيّاسك وعادت له حدته « الي
رأيناها في المشاهد السابقة © فحتم هذا المشبد بأبيات ثلاثة اختلطت فيها الحدة
الحاسدين والحاقدين ؛ وتتحول فيه النعمة إلى نقمة وتسبتوي فيه النسور والرخم ثم
يسفر في سبّه لمؤلاء المنافسين ويصفهم بالزعانف ويلوم سيف الدولة لأن أمثال
شر البلاد مكان لا صديق به وشر ما يكسب الإنسان ما يصم
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة | مجوز عندك لا عرب ولا عجم
ومجيء في الختام بيت يفسر طبيعة هذه القصيدة وكيف أنها عتاب مبعثه
الحب والمودة :
سوى بينه وبين تلك الزعانف التي نقول شعراً لا هو عرلي ولا هو أعجمي
ونعاود قراءة القصيدة مرة ثانية فثرى نري قد استخدم كل طاكت اليتية في
التعبير والتصوير » ففيها التعبير اتلقاني النابع من الأعماق الذي يهز النفس هزاً ؛
وفيها الصور الحية المشعة ٠+ وفيها الصور المركبة التي تحتاج إل تأمل عميق لإدراك
القطرية على إشاعة الجمال في حروفه وكلماته وجمله وعباراته وكأنه صائغ ماهر ,
يحول أسلاك الذهب وسبائكه إلى حلى دقيقة الصنع رائعة الجمال
وكأنه يصبر حروف اللغة ويعيد تركيبها من جديد ونحن نقف في تحليلنا
للتجارب الفنية عندما تعارف عليه الأقدمون من وسائل الصنعة ؛ فهذه استعارة وتلاك
كناية ؛ أو تشبيه ليغ وهنا إيجاز وهذا حذف وهنا تقديم وهنا تأخير وهذا
احتراس وذلك جناس أو طباق أو نوري , ولكننا نلمح شيئاً آخر لاتفسره كل
هذه المصطلحات البلاغية على أهميتها وقد أشار القدماء إليه إشارات غامضة كما
حاول النقاد المحدثون تفسيره من خلال مصطلحات أخرى كالصورة والرمز
من مصطلحات البلاغة القديمة ولكننا لا نزال نرى في العمل الفني شيئاً يستعصي
قبل ونقول هذا سر العبقرية الفنية
من فصول هذه الدراسة إلى أن أيا الطيب يتميز بجاذبية الشخصية وإشعاعها ؛
ونضع له اسماً يسهل تداوله ليدخل ضمن المصطلحات الفنية والجمالية ونستخدمه
في الدراسة الفنية + وَنعَمم هذا الاستخدام ُ وأعتقد أن المشهد الأخير من هذه
القصيدة لا يمكن تفسير ما فيه من جمال وروعة وتأثير عاطفي محتدم ؛ إلا من :
خلال هذه الفكرة ولنطلق عليها مصطلح « الإشعاع الفني » وهو أثر جاذبية
من مشاهد هذه القصيدة ؛» وندرك أسرارها الفنية
هناك مصطلح آخر يمكن أن نستخدمه ولتؤجل صكه الآن في تعبير محدد
ولكنه على أية حال مصطلح موجود بالمعنى وقد أشرت إليه في مواضع متعددة
من هذه الدراسة عندما قررت أن المتنبي يستخدم في بناء قصائده طريقة الفتانين
مجال بناء القصيدة لتتحول إلى مصطلح جمالي » نفسر على ضوئه طريقة أي
الطيب في بناء القصيدة على طربقة اللوحة وبذلك نلمح الوحدة الحية في كثير
من القصائد التي تبدو للوهلة الأول مفككة لا تربطها وحدة واحدة » مثل هذه
القصيدة التي معنا وقد نطلق على الفكرة مصطلح « التشكيل الفني بالكلمات ؛
أو نطلق اسماً آخر + المهم أن نختبر من خلال هذا المصطلح الشعر الذي تتناوله
بعد الآن وهذا المصطلح ألزم لقصائد المتنبي الي سميناها اللوحات
لمتنبي شكلها بطريقة تختلف عن تشكيل « القصيدة اللوحة » الي تحدثنا عنها
أسلوب الكتل اللونية كل كتلة تمثل مشهداً من المشاهد التي شرحناها » ولكنه
لاحظ التناسنب الفني بين تشكيل هذه الكتل مع بعضما
فالمشهد الأول الذي يبدأ من أول القصيدة ويستغرق خمسة أبيات يمثل كتلة
نحس أنها من اللون الأسود القاتم
وفي المشهد الثاني الذي يبدأ من البيت السادس « فوت العدو الذي يممته ظفر»
وينتهي عند البيت الحادي عشر « أما ترى ظفراً حلوا الخ » نراه بشكل كتلة
أخرى من اللون الأحمر وهو لون ساخن مثل اللون الأول
وعند البيت الثاني عشر حتى البيت السادس عشر يبدأ مشهد آخر يشكله
الشاعر من خلال اللون الأصفر الباهت الذي يدل على الخريف والغروب والحزن
ثم تبدأ كتلة أخرى يشكلها من خلال اللون الأحمر القاني » وهي تبدا من البيت
السابع عشر حتى البيت الثالث والعشرين وهكذا تتوالى هذه الكتل والمساحات
اللونية التي يتفنن أبو الطيب في استخدامها والتأثير من خلالها ونحن نلاحظ أنه
يراعي تشكيل اللوحة العام بحيث تعطي في النهابة شعوراً بالفشل والهزيمة ولهذا
يمكن أن نطلقى على هذه القصيدة اللوحة « الهزيمة ؛ أو ١ الفشل »
المقالة الخامة
لوحة الزمن
السابقتين ؛ مدخلاً إلى عالم التنبي وهي قصيدة « ليالي بعد الظاعنين شكول
مباشرة مع فكرة الزمن بجوائبها المتعددة كما تحدث عنبا الفلاسفة والمفكرون
وعلماء الرياضة والطبيعة ربما لأنها تصور وقع الزمن على نفس المتنبي منذ
مطلعها وي المشهد الأخير منها عبر عن فكرة الزمن أدق تعبير وربما لأنه يمزج
فيها بين الأزمان الثلاثة ؛ الماضي والحاضر والمستقبل ؛ وبخلط بينها » وفي لحظات
قليلة منها يمزج بين الزمان والمكان ولهذا سأطلق على هذه القصيدة « لوحة الزمن »
وقد لفتتني هذه اللوحة إلى أن أفرد «فكرة الزمن عند أبي الطيب ؛ ببحث مستقل
في هذه الدراسة التي تتناول عالم المتنبي من خلال « رؤية فنية » ولا أظن هنا
البحث يخرج عن الإطار الفني فالمتنبي يستغل فكرة الزمن في بناء لوحاته استغلالاً
وفي هذه اللوحة الي كتها في جمادى الآخرة من عام 347 هجرية وأنشدها
أمام سيف الدولة ؛ نحس وقع الزمن على نفس المتنبي + إحساسا حاداً يتجل
في إحساسه بتلك الليالي البطيئة المتشابهة وكأنها ليلة واحدة ونحس زحف الزمن
ببطء على وجدانه فقد بدأها بمشهد من تسعة أبيات » يصور فيه فكرة الزمن
التي وقم في قبضتا وفي هذا المشهد بختلط عنده الزمان بالمكان وتمتزج الأرض
بالمماء ويختلط الواقع بالحلم وتشتبه فكرة الحبيبة بالآمال البعيدة النائية وتتصارع
الرموز الفنية وتتداعى الأفكار ونشعر بعد كل هذا أن أبا الطيب كتف كل حياته