من هنا؛ فإن نشأة أمريكا كانت نتيجة اندفاعة دينية؛ بل إن مغامرة كولبس لم
والأرض الجديدة بعد أن حدثه بها يوحنا المقدس فى سفر الرؤياء وأراه النقطة التى
للبحث الروحى العظيم!*؟
بيد أن وجود قارة «شمالى أمريكا» غير مأهولة وغنية بالأرض الخصبة الشاسعة
والغابات والمعادن التى تنتظر الاستغلال» ولد اندفاعة نفعية . فالرواد المستكشفون
تحركوا من الساحل الشرقى لاجتياح الغرب الأوسط ثم الغرب الأقصى» حتى
انتهوا من فتح القارة بنهاية القرن التاسع عشر . وكانت شخصية الفرونتيير
(الحدودى) الذى اندفع صوب الغرب هى التى شكلت الشخصية الأمريكية . وكما
وكان على الإنسان الجديد (الأمريكى)» الذى استوطن قارة جديدة (أمريكا)»
يفصلها محيطان عن العالم القديم؛ أن يخطط نظامه الاجتماعى بادثا بعهد «ماى
تغير الظروف تجريب مفاهيم ومبادئ سياسية عديدة؛
فى الغالب» حتى إن ناقدً للدبلوماسية الأمريكية مثل
(«*) الاقتباس من : . 508101:1/0132.310.3,1995
على صياغة سياسة ثابتة ومتماسكة؛ لأن للدبلوماسية الأمريكية مفاهيم ومبادئ
وهذا الكتاب «أرض الميعاد والدولة الصليبية» يتناول معضلة السياسة الخارجية
الأمريكية بين المثالية والنفحية والتجريبية. . فمؤلفه «والتر ماكدوجال» يستعرض
دور الولايات المتحدة فى السياسة العالمية خلال القرنين الماضيين +
وكما هو واضح من عنوان الكتاب «أرض الميعاد والدولة الصليبية»؛ يلجأ
المؤلف إلى الاستعارة الدينية. فتعبير أرض الميعاد مستعار من العهد القديم
«اليهودى»» وتعبير الدولة الصليبية قصد به الإشارة إلى العهد الجديد وإلى الصليب
كرمز للتبشير وللتضحية من أجل خلاص البشرية . ومن ثم فإن أمريكا أرض
الميعاد؛ تعكس فكرة المهاجرين الأوائل» وكذلك الأمريكيين حتى نهاية القرن
التاسع عشر عن أمريكا؛ أما فكرة الدولة الصليبية؛ فتعكس تصور الأمريكيين عن
أنفسهم وسلوك أمريكا فى الشئون العالمية خلال القرن العشرين؛ من منطلق أن
أمريكا لها رسالة لخلاص البشرية . . رسالة لنشر الحرية والتقدم .
وممعنى اخر ؛ فإن أمريكا القرن التاسع عشر وظفت سياستها الخارجية من أجل
ولجوء ماكدوجال إلى الاستعارة الدينية» لا يعنى أنه يقدم رؤية دينية لدور
أمريكا فى العالم» ولكنه يشى بدور العامل الدينى فى السياسة الخارجية الأمريكية»
وب ركز على التمايز بين العهد القديم للسياسة الخارجية الأمريكية» والذى استهدف
الحرية فى الداخل؛ والعهد الجديد الذى حاولت فيه أمريكا توسيع دورها فى العالم
أن ينعموا بالحرية فى الداخل . وفى العهد الجديد الأمريكى بعد عام 1887 (عام
اكتمال الاستيطان حتى الساحل الغربى) تحرك الأمريكيون من أجل تشكيل العالم
وفق تصورهم» من خلال قواعد جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية » يأتى ضمنها
تبرير التوسع واستخدام القوة فى شكل أقرب إلى الحملة الصليبية لتحضير العالم
بيد أن العهد الجديد الذى من أهم قيمه «التوسعية»؛ اصطدم بميراث العهد
القديم الذى كانت قيمته العليا «العزلة؛» وانعكس ذلك فى أداء السياسة الخارجية
الأمريكية» ليحكمها التناقض بين المشالية والواقعية» بين الأخلاق والقوة» بين
القومية والعالية؛ كما حدث فى حرب ثيتنام . بل إن ذلك التناقض أصبح يسم
السياسة الخارجية الأمريكية بالتردد والعجز أحيانا؛ ويجعلها تستغلق على الفهم فى
أحيان أخرى . فمقابل الصورة الشائعة بأن السياسة الخارجية الأمريكية «شريرة»؛
وقد وصف المؤرخ الشهير آرثر شليزنجر التاريخ الأمريكى بأنه دورات من الحرب
بين الواقعية والمسيحانية» بين التجريب والقدرية . وتحدث كسينجر عن الازدواجية
بين العزلة والعالمية» بين المثالية والقوة. كما أن المؤرخ مايكل كامن وصف الشعب
إنهاء مرة أخرى» الاستطنائية الأمريكية .
إن هناك ثمانية تقاليد للسياسة الأمريكية؛ يحددها والتر ماكدوجال. فخلال
العهد القديم الأمريكى» أى حتى نهاية القرن التاسع عشرء حكمت السياسة
الخارجية الأمريكية أربعة تقاليد هى:
© الحرية فى الداخل؛ أى أن توظف السياسة الخارجية للدفاع عن حرية أمريكا .
« العزلة؛ أى أن يكون لأمريكا الحرية فى صنع سياسة خارجية باستقلال عن
مطامع القوى الأوروبية؛ وأن تقف موقف الحياد من الحروب الأوروبية إلا عندما
تتعرض الحرية الأمريكية للخطر .
القارتين الأمريكيتين مكانا صالحًا للاستعمار» أى عدم تدخل أوروبا فى القارتين
الأمريكيتين .
أن القدر فرض على الأمريكيين أن مصيرهم الاستكشاف والغزو باتجاه
الساحل الغربى وصولا إلى المحيط الهادى .
لقد انتهى العهد القديم لأمريكا عام 1848 باكتمال غزو «أرض الميعاد» فى
وخلال العهد الجديد لأمريكا» الذى بدأ منذ نهاية القرن التاسع عشرء حكمت
السياسة الخارجية الأمريكية أربعة تقاليد هى :
* الإمهريالية التقدمية ؛ بمعنى أن الأمريكيين مختارون لتحضير البشرية ونقل التقدم
إلى الشعوب الأخرى .
من أجل أن يكون العالم أكثر سلما وديمقراطية بعد الحرب العالمية الأولى» وتمثل
فى النقاط الأربع عشرة الشهيرة لويلسون.
« الاحتواء؛ وهو التقليد الذى تبلور بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة التهديد
الشيوعى دون قيام حرب عالمية.
* تحسين العالم ؛ أى التعبير الاقتصادى والاجتماعى والسياسى والثقافى فى رسالة
أمريكا لجعل العالم أحسن . وقد تجسد فى مشروع مارشال لإعادة إعمار أورويا
والنقطة الرابعةء ثم التدخل الأمريكى فى فيتنام الذى كان مثالا لمحاولة أمريكا
وإخفاقها فى أن تكون لها رسالة عالمية (النموالاقتصادى والديمقراطية)» وأن
تكون شرطى العالم.
ولكن هل كان لابد أن تتحول أمريكا أرض الميعاد إلى دولة صليبية؟
يجيبنا ويليام فولبرايت بأن كلا من تقاليد العهد القديم والعهد الجديد فى أمريكا
هى تعبير عن جانبين بارزين فى الشخصية + جائب أخلاقية النقص الإنسانى
(الاكتفاء بصلاح النفس)؛ وجانب أخلاقية الشقة فى الذات الإنسائية (إصلاح
الحالم). وبعد عام ١848 . أفسحت الأخلاقية الأولى المجال للأخلاقية الثانية
(الصليبية). ومع الإمهريالية التقدمية» أصبحت أمريكا بولس الرسول الذى ينشر
الرسالة بين الشعوب الأخرى . وبالويلسونية حاولت أمريكا أن تكون الكنيسة
بيد أن حدث أمريكا الإمبريالية مع دخول القرن العشرين» فرضه أن الولايات
المتحدة أصبحت قوة عالمية. ففى عام 1488 أصبح تعداد السكان يزيد على ١ل
مليون نسمة» وبما يفوق تعداد أى أمة أوروبية فيما عدا روسيا. ووصل إنتاج الفحم
إلى 44 1 مليون طن سنويا (مما يساوى إنتاج بريطانيا) وإنتاج الحديد ٠١ ملايين طن
سنويا (ضعف إنتاج ألمانيا؛ الدولة الثانية عالميا فى إنتاجه). وبواسطة الممخترعين
الأمريكيين مثل أديسون وبيل والأخوة رايت» والممولين مثل روكفار ودى بون»
أصبحت أمريكا رائدة الشورة الصناعية الشانية التى اعتمدت على الكهرباء
والكيمياويات والبترول .
وبتوافر النقل الرخيص بالسكك الحديدية والسفن التجارية؛ أصبحت أمريكا
ومع اكتمال غزو الفرونتيير بالوصول إلى الغرب الأقصى الأمريكى» وبدخول
القوى الأوروبية مرحلتها الاستعمارية الأخيرة» فى الوقت الذى بنت فيه أمريكا
إمبريالية تقدمية . وجاءت الحرب العالمية الأول ؛ لتقدم لأمريكا الفرصة التاريخية
لكى تصبح قائدة عصبة العالم وصاحبة دور عالمى ليبرالى» كما كان يخطط لذلك
الرئيس ويلسون.
ولكن الولايات المتحدة لم تنضم إلى عصبة الأم» وكان الفشل مصير «الحلم
1 1941-1) من الانخراط الأمريكى فى شئون العالم؛ وهو مدى زمنى يمثل
ربع عمر الولايات المتحدة. وحكم سلوك السياسة | لخارجية خلال هذا المدى الزمنى
تقليدان هما : الاحتواء لمواجهة التهديد الشيوعى» والتطورية الكوكبية من خلال دعم
النمو الاقتصادى وتشجيع الديمقراطية للحيلولة دون انتشار الشيوعية .
ولئن كان العهد الجديد متصلاً بالعهد القديم؛ فقد ظل التناقض بين المغالية
والواقعية فى السياسة الخارجية؛ وبين تقاليد الدبلوماسية الأمريكية» وظهر ذلك
بشكل أوضح فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
فالرئيس بوشء تحدث عن «نظام عالمى جديد»» كما أن الرئيس كلينتون حاول
مقاربة دور عالمى مثالى لأمريكا» وأرسل قوات أمريكية إلى الصومال والبوسنة
وهايتى» ولكن محاولته قوبلت بنقد من اليمين بأن التدخل الأمريكى فى الخارج
والواضح أن تلا من بوش وكلينتون تأثرا بالتناقض الأمريكى الرئيسى بين
الواقعية والمثالية؛ أو بين المصلحة القومية والدور العالى . وممعنى آخربين العهد
القديم والعهد الجديد» بين أرض الميعاد والدولة الصليبية +
لقد دار الجدل» الذى ميز مرحلة ما بعد الحرب الباردة» حول أى تقاليد السياسة
من تقاليد العهد القديم؛ سيظل تقليد حماية الحرية فى الداخل كوظيغة
للدبلوماسية الأمريكية» وتقليد الأحادية بجمعنى تأكيد القوة الداخلية قبل الارتباطات
الخارجية؛ ومبدا مونرو برغم غياب أى قوة أوروبية يمكن أن تهدد الفناء الخلفى
أما تقليد المصير المبين+ أى التوسعية الذى كان مضمونه «فتح أمريكا»» فقد أصبح
ومن تقاليد العهد الجديد. فإن تقليد الإميريالية التقدمية كان انتقاليا بين العهدين
القديم والجديد. ولم يزل تقليد الاحتواء الأكثر فعالية وإن أصبح ب على نطاق
إقليمى مثلما حدث مع إيران والعراق وليبيا والسودان (الدول المنبوذة) دون مجاح
الخدمة التعجارة الأمريكية وتطبيق التشريع الأمريكى خارج الولايات المتحدة؛
بذربعة الديمقراطية وحقوق الإنسان» مثل قانون بيرتون هيلمز لتشديد الحصار
على كوباء وقانون داماتو لفرض عقوبات على الشركات المتعاملة مع إيران وليبيا +
وقانون سبيكتر وولف للحرية من الاضطهاد الدينى .
غير أن الجدل حول تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية» مرتبط بالجدل حول
النظام العالمى بعد الحرب الباردة . هل هو نظام حرية السوق (نهاية التاريخ) كما بشر
به فوكوياماء أم هو نظام يتجه لأن يكون متعدد الأقطاب كما قال كيسنجر؛ أم أن
الاقتصادية كما يرى إدوارد لوتوراك. أو انتشار أسلحة الدمار الشامل ومشكلات
إن تعدد التصورات للنظام العالمى وطبيعة الصراع داخله؛ يقابله تعدد لتصورات
السياسة الخارجية الأمريكية ولخيارات التقاليد الديلوماسية» ليستمر التناقض بين
المثالية والواقعية فى السلوك الأمريكى» ولنجد أنفسنا أمام «أمريكا طيبة» أحيانا +
ودأمريكا شريرة؟ فى أحيان أخرى .
لقد كانت » وما زالت» معضلة السياسة الخارجية الأمريكية : أين تلتقى الواقعية
ولكن الاستثنائية الأمريكية» كانت تفرض دائما تناقض السياسة الخارجية
الأمريكية .
وقد نجح والتر ماكدوجال فى كتاب «أرض الميعاد والدولة الصليبية» فى تقديم
سيرة ذاتية قومية لأمريكاء من أجل استنباط التقاليد الدبلوماسية التى حكمت الدور
الأمريكى فى العالم منذ إعلان الاستقلال الأمريكى عام ١773 . وبرغم أن الكتاب
ينتمى إلى علم تاريخ العلاقات الدولية» فإن ماكدوجال حرص على كتابته كقطعة
من الأدب . وفى الحق أننا أمام كتاب يجمع بين التحليل التاريخى الرصين والأدب
الرفيع فى آن معًا.
وقد كان ذلك مشجعا على ترجمته . أما المشجع الآخرء فهو الناشر «عادل
العلاقات الدولية فى جامعة بنسلفانيا. فزملائى الجدد فى قسم التاريخ سألونى ذات
مساعد جديد فى كتابة وإلقاء محاضرات جديدة.
وفى بداية ذلك» كان لدى إلهام فى هيكلة قصة طويلة لمدة مائتى عام؛ كان
على أن أقصها. وظهر لى أنه خلال ذلك المدى» طور الأمريكيون ثمانية تقاليد
متفردة فى توجهاتهم وسياساتهم تجاه العالم الخارجى ٠
هذاء كلها تضم قدرا محددا من الإخلاص بين قسم من الشعب الأمريكى؛ بينما
العديد منها يتعايش بصعوبة داخل صدور الأفراد. وما هو أكثر » أنه ظهر لى أنها
تشرح التناقضات والتشوش الظاهر فى دبلوماسية الولايات المتحدة عبر العقود»
بشكل أفضل من الثنائيات القديمة ؛ المثالية والواقعية» الانعزالية والعالمية.
اثنان من الناس أحدهما والدى» والثانى ألان لوكستبرج من معهد بحوث
السياسة الخارجية قرأ محاضراتى واقترحا على جمعها فى كتاب . وقد رفضت
طالما أنى كنت مشغولا بتأليف تاريخى لشمالى المحيط الهادى؛ ولكن فى النهاية
ت نعم لثلاثة أسباب: الأول؛ كرئيس تحرير أوربس : مجلة العلاقات الدولية؛
فقد تابعت بغيظ متعاظم جدلنا العقيم حول أى مبادئ أو مذاهب يجب أن تحدد
السياسة الخارجية للولايات المتحدة فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة, ربما؛ كما