صرامة مذهبها التوحيدي وثبات إيمانها الأخلاقي من شقاء حياة البداوة
والترحل» ومن التجوال العاري القائم على الغزو والنهب .
أورشليم التي سبق له أن أنقذهاء وقاد شعب إسرائيل العنيد إلى الأسر في بابل .
وبعد أن ساد كفاتح مطمئن على المدينة الأسطورية في قصفها ومجونها
وتهتكهاء بابل وبعد أن حصن عاصمته الفسيحة الأرجاء؛ وأشاد الصروح
والمباني الشامخة نحو السماء» فبلغت أوج المجد والسلطة والبهاء» وتعب من
العظمة البشرية بعد أن امتدت فتوحاته حتى حدود الجزيرة العربية التي التهمت
صحراؤها الكثير من الأمجاد» غاب في جنون العظمة وصمت التاريخ» تأركاً
امبراطوريته لأبناثه البؤساء المولودين من نساء حرمه؛ كي تنهار تلك
المسيح» فلها شواهدهاء هم الأكثر تأثيراً وفاعلية في تاريخنا المقدس» أولئك
الأنبياء ذوو العقيدة الواحدة الراسخة الذين جاؤوا على ذكر الفاتح الكلداني
فبعض هؤلاء الأنبياء يمثل أمامنا المشهد الأكثر تأثيراً في تلك المأساة
البقاء غير المتوقع للأكثر تواضعاًء والأشد ضعفاًء؛ والأكثر تجرداً في مفهوم
الكوائن البشرية. لكن الثبات على الأيمان بوحدة الخلق ووحدة الشريعة
الأخلاقية» لا بد له من أن يحقق السلام للإنسانية في يوم من الأيام.
الذي دكّر مدينة نينوى ؛ المحظيٌ من كبير الألهة مردوك» والذي صافح يد الإله
بعل» وخلق قوة عسكرية هائلة من شعب قاده نحو العلى بمهارة؛ وقيل عنه في
نبوءة حبقوق :
«ها أنذا أثير الكلدانيين» الأمة المرة الحثيثة التى تسير فى رحاب الأرض
ويطيرون كالنسر المسرع إلى طعامه. يأتون كلهم للخطف وجملة وجوههم إلى
هزءاً له ويضحك على كل حصن ويركم ترابا ويأخذه. حينئذ يتغير روحه ويمضي
ضروب العذاب» ففقاأ عيونهم بنفسه» وثقب ألسنتهم وأدخل فيها الحلقات؛
وتركهم أحياء كي تصلهم وهم في ظلمات سجولهم؛ بعض الأصداء عن
وكان فى مواجهة نبوخذنصر» الفرعون نخوٌ الذي أعاد تأسيس السلالة
المصرية» والذي حفر تلك القناة التي بفضلها تحولت تجارة البحر الأحمر نحو
وسورياء إذ كان يعتقد أن باستطاعته فتح آسيا القديمة كلها . لكنه ما أن خرج من
ويأتي بين هذين الفاتحين» ذلك الشقي المغضوب عليه صدقيًاء آخر
المتحدرين من نسل داوود» وقد كان ملكاً ضعيفاً على شعب ضعيف؛ لا موارد
له ولا أرض ذات مساحة»؛ بل كان محصوراً بين جباله» عائشاً بنعمة نظام رهباني
إن هو تفلت منه غدا هالكاً. ومع هذاء ورغم كل المتطلبات والإنذارات
مع ذلك» ها هو في عمق إيمانه المتزعزع دائماً» والمعاقب عليه دائماً
يحمل أمانة الشريعة وضمانة الأخوة المستقبلية التي» من مسافة بعيدة؛ كانت
البشرية تبسط باتجاهها يديها المتوسلتين .
وبين هذين الخصمين الكبيرين » نبوخذنصر ونخْرٌّ » كان صدقيًا يتوارى
عُثر عليها مجدداً قبل السبي الكبير ببعض الوقت» وتليث علانية في عهد الملك
يوشيّاء إنها كتاب الشريعة الموحى به من يهوه» الإله الأوحد الذي لا مكان له
ولا شبيه .
وهذه الشريعة تتعارض مع شريعة الدم والفتح والاستبداد» شريعة نحو
ونبوخذنصر» لأنها شريعة المحبة والرأفة؛ والسراج الذي كان النبي صدقيًا يسهر
على نوره. ض
وهذا النبي الناظر من سُدّته إلى دمار أورشليم» قد أنباً الشعب ولم يشفق
عليه» لأن العقاب كان ضرورياً كما جاء في سفر إرميا: ١ سأجعل هذه المدينة
من الزمن» لأنه هكذا قال الرب: « بعد انقضاء سبعين سنة على سبيكم إلى
المصرئّ باق وأن الكلداني زائل» فاتخذ موقفا بالنسبة لهاتين القوتين
المتعارضتين» وانتظر أن يعم السلام شعبه نتيجة للخصومة العنيفة بين نخو
ونبوخذنصر. واستمر بعيد النظر بصيراً حتى إلى ما بعد موته؛ فلم يستودع ثروته
الثور الكلداني» بل أبا الهول المصري .
وفي الواقع» انتهت مأساة الشخصيات الثلاث على النحو التالي : ولد من
النهرين» وحضارة النيل» وحضارة البحر الأحمرء انتهى باتحاد الحضارتين
الأخيرتين وتغلبهما. والإسكتدرية» وريثة الفراعنة ومقرٌ الترجمة اليونانية
للتوراة. كانت المنطلق للعهد الجديد .
البحر المتوسط كي ترتقي العرش .
ليوم» لا على ضوء الروايات التوراتية وحسب» بل بفضل ما حقق العلم
الحديث من معجزات» وما أماطت عنه اللثام القرارات والتفسيرات الموثوق بها
للكتابات المسماريةء فها هو نبوخذنصر ماثل أمامنا» لا كمومياء» بل كإنسان
الأسطورة المرعبة» تتأنسن وتفرض نفسها على التاريخ .
غبريال هانوتو
عضو الأكاديمية الفرنسية
قوط تيتنوى
كانت أيام شهر آب المحرقة من العام 117 قبل المسيح تتصرم ببطء؛
والسهل الشاسع لبلاد ما بين النهرين يمتد منبسطاً وضيقاً تحت وطأة الليل الذي
يحاصره. ومن ضفاف دجلة حتى تخوم الأفق» كان الدخان الأسود يتصاعد ثقيلا
ليختلط بسواد السماء التي تنيرها حزم من الشرارات المرصعة بنجوم ثائرة
مجنونة. إن مجمرة هائلة ينبعث لهيبها من الأسوار الجبارة التي انهارت» وبريقا
وفي زوايا الأفق الأربع ؛ كانت هناك مجامر قد همدت» ولم يبقّ منها
سوى الرماد المتبعث مئه بصيص من النور الشاهد على احتضار نينوى» فمدن
وعلى طول النهرء الراسي في مياهه الحمراء والنتنة خط متصل ومشؤوم
بأكثر من أربع مثة ألفٍ من الناس» مع أسلحتهم وحاجاتهم» بعضهم كان على
من استبدادها» وكل الذين طمعوا في ثرواتها» ساهموا في تصعيد دخان الحرائق
نحو السماوات الرهيبة» كأن نينوى هي الأضحية الوحيدة التي يجب أن تقدم!
وبين هذه الشعوب الفوضوية المهتاجة» التي كانت تتجمهر وتطلق
صرخات عدائية» ثلاثة شعوب بدت وكأنها هي المنظم والمنسق لهذا الأنتصار
الذي حقق لها الثأر والانتقام؛ بعد عذاب واستشهاد دام ألفا وخمس مئة سنة.
-١ البابليون ٍِ بمتيظهرهم البهي وهم يحملون الرماح ويعتمرونٌ الخوذات
المخروطية الشكل» ويلبسون القمصان المزركشة بالخراشف المعدنية
؟ السبكت» وهم الخيالة ذوو الوجوه المتوحشة؛ والشعر المشعث؛
والقمصان والسراويل الفضفاضة المصنوعة من. الجلد؛ء التي كانت تخفق في
الهواء أثناء عدوهمء وهم منحلون على جيادهم الصغيرة الهزيلة؛ ليجهزوا على
وقد لزم تحالف هذه الشعوب» أربم سنوات من القتال الوحشي المستمرء
إلى أن تمكنت من دحر نينوى والتغلب عليها'".
وها هى الآن سحب الدخان تغطى المدينة بأسرهاء وقد بلغت الحرائق
أبسطة العشب الأخضر المحيقة بالقصر الملكى» وحولت الحدائق المعلقة إلى
مجمرة تتبعث منها ألسنة الثار» وصياح الهلع والرعب!
وكان سينشاريشكون» آخر ملوك نينوى» وابن الجيل العشرين لسلالة
شهيرة؛ قد أقام على سطح قصره محرقة هائلة» وجلس هو في قاعة مقفلة داخل
فيها الموت إلى رماديمتزج برماد أفراد حاشيته وخدم قصره وأشيائه المحببة؛ غير
متأثر بصراخ الألم وصياح الهلع والرعب!
ورويداً رويداًء أخذت المحرقة الهاكلة تتخذ شكلاً أكثر قتاماً . ثم همدت
السنة النار فى كل مكان» ليخيّم هرم أسود على المدينة التي فجرتها النيران
ومن خلال الثغرة الواسعة التي أحدثها فيضان دجلة في السور الشمالي؛
تحاشياً للسقوط» بأشياء متكلسة ومنتصبة كما تنتصب الجذوع الملتوية السوداء
وأسلحتها» وقد جرفتها مياه « نحونسور » التي بلغ مستواها على طول الأسوار
يونس» اللتين لم يبق عليهما من قصور ستحريب وأصُوربانيبال وشلمنصّر»
سوى أنقاض يتصاعد منها الدخان!
ومع هذا المدّ من المياه اندفعت حشود الجنود المنتصرة وأخذت تتوزع
بين الجدران المتزعزعة بقصد الإمعان في التخريب والتدمير» وقد انضم إلى
هؤلاء الجنود جموع جشعة ومتعطشة لسفك الدماء. وكان الفرح المسعور يدفع
يتبادر إلى أذهانهم بأن ملوكاً آخرين يحلمون بالمجدء وأن مصير الشعوب
وصعد إلى القصر الملكى وحده الشاب نبوخذنصر؛ القائد الأعلى
من الرماد الأسودء يتصاعد منها الدخان وبعض ألسنة اللهب التي تلامس
بها نيلوى .
فسكّر نبوخذنصر بطرف حذائه السنة اللهب هذه» كي تقضي النار على كل
والتي تشهد على مجده هو ؛ نبوخذنصر!
لقد أسكره منظر المدينة المتغطرسة وقد أصبحت أثراً بعد عين تحت
معابد الالهة لدى الأشوريين» وهي تنهار أمام عينيه محدثة فرقعة كقصف الرعد»
سببته له متاعب المعركة قد زايله» وبأنه استعاد كامل قوته وأصبح بإمكانه القيام
بفتوحات جديدة. وفكر بحلفائه من خلال رغبته في الاستئثار بالنصر؛ فحكم
على السكيت بأنهم لا يخيفون لأنهم برابرة جهلة وسيتقاضون أجرهم من التسابق
على السلب والنهب . لكن الميديين يريدون حصة» وعلى نبوخذنصر أن يتحالف
الطموح نحو تلك الأراضي الغربية المليئة بالأسرار؟ فضلاً عن ذلك؛ ألم يتزوج
منذ سنتين اميتيس» ابنة ملك الميديين سياكسار» وفي ذلك أفضل ضمانة
لطمأنينة بابل وسلامتها؟
الذهبية التي تكسو تماثيل الألهة المنقلبة والممددة فوق الأنقاض .
ورأى نبوخذنصر فوقهم» فأل الشوم الذي أبهج قلبه؛ متمثلا بالغربان التي
حلقاتها المأثمية في السماء الوردية اللون. . . |
مسيرة نحو العرش
بعد انقضاء ثماني سنوات على حريق نينوى» طلع الصباح على بيلوز»
تلك القلعة المتقدمة على دلتا نهر النيل التي كانت حصن الدفاع عن مصرء؛ وقد
جيش الفرعون نخو عن معسكر نبوخذنصر. فوجهاً لوجه؛ وقف الجيشان
يحترزان» ويترقبان الساعة المؤاتية للالتحام الرهيب!
وكان اقتسام الإمبراطورية الأشورية» قد أعطى سياكسار» ملك الميديين؛
البلدان الواقعة إلى الشمال الشرقي من بابل» وورث نبوخذنصر؛ تلك التي كانت
في الجنوب الغربي» فأصبح الفرعون نخوء والحالة هذه» متولياً من قبله على
قد دقت» وأن الظرف ملاكم كي يرفع نير بابل عن كاهل مصر. فأعاد تنظيم
طريق كبار الفاتحين من السلالة الثامنة عشرة. فاحتل» بدون مقاومة تقريباًء
فلسطين» وفينيقيا وسوريا» وبلغ نهر الفرات عند مدينة قرقميش .
لا أستهدفك أنت» بل إن نهر الفرات هو هدفي ». ثم سحق الجيش الإسرائيلي
في ماجيدو؛ وأصبحت الطريق مفتوحة أمامه باتجاه بابل . ١