تايا جا يوسن
منهج ابن قيم الجوزية في تزكية النفس
أولا- السيرة الذاتية لابن القيم:
هو العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن أبي بكر بن أيوب
بن سعد بن حريز الزرعي الاصل تم الدمشقي ابن قيم الجوزية. ولد سنة
وتربى رحمه الله في كنف والده الشيخ الصالح قيمَ الجوزية؛ وأخذ عنه
علم الفرائض".
تلقى ابن قيم الجوزية -رحمه الله- العلم على كثير من المشايخ
من أمثال عيسى المطعم والقاضي سليمان بن حمزة؛ والشهاب النابلسي
الهندي وتفقه في المذهب وأفتى ". وأكثر شيوخه أثرا في حياته: والده
قَيِّم الجوزية رحمه الله؛ وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد لازمه؛
(١٠7ه) حتى توفي شيخ الإسلام سجِيئًا في قلعة دمشق (78/أه).
كما تتلمذ على يديه عدد من العلماء المبرزين منهم: ابن رجب
الحنبلي صاحب طبقات الحنابلة. ومنهم ابن كثير حيث يقول: "وكنت من
أصحب الناس له وأحبّ الناس إليه'
وعُرف عن ابن قيم الجوزية -رحمه الله- الرغبة الصادقة
المادة العلمية في مؤلفاته؛ والقدرة العجيبة على حشد الأدلة". وقد ظهر
منهج ابن قب الجوزية في تزكية اللفس. د. رقية بنت له جاير العلوائي بين
أثر ذلك الإطلاع الواسع والنهم العلمي الهائل؛ في الآثار العلمية المتعددة
والمتنوعة التي خلفها وراءه في مختلف العلوم والفنون فألف في الفقه
والسيرء ونقد علم الكلام والأصول وغير ذلك من فنون.
وكان رحمه الله صاحب شخصية فذة حرّة في البحث والرغية
في التوصل إلى الصواب والسير معه أينما سارت ركائبه؛ يناقش في
المسائل ويرجّح ويبدي رأيه وإن خالف في ذلك غيره من العلماء ".
والأخذ بها نحو مصاف الترقي والسمو على هدى ونور وبصيرة علمه
عدد كبير من المؤلفات والتصانيف في مختلف الفنون والعلوم. وعلى
الرغم من تنوع القضايا المطروحة في كتبه ومؤلفاته المختلفة؛ إلا أنها
تميزت بالتقيد بمنهج لا يحيد عنه الشيخ في كتاباته قاطبة. ذاك هو منهج
التمسك المطلق بالكتاب والسنة وإخضاع القضايا المختلفة لذاك المنهج
ولا يخفى على المتتبع لآثاره العلمية؛ منهجه في محاربة
مقاصد الشرع وغاياته فكانت ولا تزال مؤلفاته؛ شاهدة على أهمية
إخضاع الواقع المتغير بظروفه ودواعيه لأحكام الشرع وتعاليمه وليس
للعالم الحكيم المداوي لهموم بيئته وقضايا عصره في غير خضوع
الأعراف جائرة أو مجاراة لتقاليد سائدة.
وقد لاقى رحمه الله صنوفا من المحن والخطوب بسبب تعرضه
64 مجلة جاممة أم الغرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابهاء ج014 ع71. رمضان
لأدواء عصره ومحاولة إصلاحه لك لما خالف الشرع وأحكامه. فاغتقل
مع شيخه ابن تيمية رحمهما الله في القلعة بعد أن اهين وطيف به على
جمل مضروبا بالدرة فلما مات شيخه أفرج عنه".
فقد عاش ابن قيم الجوزية في الفترة الواقعة ما بين نهاية القرن
السابع والقرن الثامن الهجري؛ في فترة من أكثر الفترات اضطرابا من
الناحية الفكرية. وانتشرت البدع واختلطت الممارسات البعيدة عن تعاليم
الشرع بتقاليد الناس حتى باتت جزءا من أعرافهم وسلوكياتهم المألوفة؛
رغم كل ما تحمله من تجاوز لأحكام الشرع؛ وسلطة لأعراف وتقاليد
الإسلام بتشريعاته السمحة وهذّب أعرافهم وأبطل العادات والتقاليد
المنافية لمنهجه بحكمة وروية.
كما تضافرت على العالم الإسلامي ظروف متداخلة؛ من وفود
أعداد هائلة من مجتمعات متباينة في بنيتها وتكوينها الفكري والاجتماعي
الإسلامي تحت وطأة الاعراف والتقاليد المخالفة للدين من جديد.
من هنا كان دور ابن القيم رحمه الله يتسم بالصعوبة والوعورة
في مواجهة سيل من التيارات الفكرية المتغلغلة في أعماق الكثيرين من
أفراد المجتمع آنذاك. إلا أنه رحمه الله شق طريقه وفق منهج واضح
المعالم يلتزم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يحيد عن
منهج ابن قب الجوزية في تزكية اللفس. د. رقية بنت له جابر العلوائي بن
بالتوازن والموضوعية.
وقد قام رحمه الله بتوصيف الحالة التي كان يعيشها في مجتمعه
آنذاك أبلغ توصيف حيث يقول في ذلك:
"الوصول إلى المطلوب موقوف على هجر العوائد وقطع
العوائق؛ فالعوائد السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه
من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع بل هي عندهم
أعظم من الشرع؛ فانهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا
ينكرون على من خالف صريح الشرع وربما كفروه أو بدّعوه وضللوه
أندادا للرسول يوالون عليها ويعادون؛ فالمعروف عندهم ما وافقهم
والمنكر ما خالفها. وهذه الأوضاع والرسوم قد استولت على طوائف بني
آدم من الملوك والولاة والفقهاء والصوفية والفقراء والمطوعين والعامة؛
فربى فيها الصغير ونشاً عليها الكبير واتخذت سننا بل هي أعظم عند
أصحابها من السنن الواقف معها محبوس والمتقيد بها منقطع. عمّ بها
المصاب وهجر لأجلها السنة والكتاب من استنصر بها فهو عند الله
مخذول ومن اقتدى بها دون كتاب الله وسنة رسوله فهو عند الله غير
مقبول وهذه أعظم الحجب والموائع بين العبد وبين النفوذ إلى الله
والمتأمل في كلام وتوصيف ابن القيم رحمه الله لأدواء مجتمعه؛
يلحظ أوجها متعددة للتشابه بين ما حدث ويحدث في كثير من المجتمعات
والفعالية والصلاحية لهذا الزمان.
مجلة جاممة أم الغرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابهاء ج14١ ع31. رمضان
ثانيا- مفهوم النفس وزكاتها عند ابن قيم الجوزية
المطلب الأول: طبيعة النفس
النفس جوهر الإنسان وحقيقته فالإنسان في الإسلام ليس كائنا
أحادي الكينونة بل هو كائن ذو أبعاد. فهو مكون من روح وجسد؛ ولكل
ومقاصد تشريعاته ذلك؛ فأعطى للبدن حاجاته وهذّب متطلباته وفق نظام
معين؛ كما أعطى للروح ما تحتاج إليه للارتقاء إلى الكمال الإنساني؛
فكان التوازن وتحقيق التكامل بين الروح والجسد من أهم المطالب التي
راعاها الإسلام ودعا إليها.
وقد اهتم المفكرون والفلاسفة القدماء بقضية طبيعة النفس
البشرية؛ فتحدث سقراط (7195 ق.م) عن طبيعتها وذهب إلى أن النفس
ذات روحية قائمة بذاتها وهي جوهر الإنسان الحقيقي والبدن أداة لها.
كما ذهب أفلاطون (758 ق.م) إلى أن النفس هي العنصر الجوهري في
الإنسان وهي ذات مستقلة فالإنسان مركب من جوهرين نفس وبدن. أما
أرسطو (77© ق.م) فقد ذهب إلى انها صفة ذاتية توجد داخل البدن
وسماها بالكمال فوجودها شرف وكمال للبدن''. واهتم فلاسفة الإسلام
كذلك بالحديث عن النفس ومنهم مسكويه؛ الذي كان يرى أن مشكلة
الأخلاق في النفس؛ وأن معرفة النفس هي السبيل الأقوم لتحصيل الخلق
الفاضل وعلى الإنسان معرفة مايزكي النفس فتفلح وما يدسيها فتخيب"'.
وتعرض اين القيم رحمه الله لمسألة طبيعة النفس البشرية في
منهج ابن قبع الجوزية في تزكية اللفس. د. رقية بنت له جاير العلوائي 7
كتابه الروح؛ وخصص له المسألة التاسعة عشرة'. وذهب إلى أن
جمهور العقلاء على أن الإنسان هو البدن والروح معا و الروح جسم
مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نورانى علوي
حي متحرك؛ ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها. ثم ساق الأدلة
من النصوص القرآنية والسنة النبوية والعقلية على إبطال الأقوال
والمذاهب المخالفة لذلك في مائة وستة عشر دليلا"'.
ولانجد لابن القيم رحمه الله في ذلك النهج؛ بحثاً يغرق في
الواضح على أقوال الفلاسفة والعلماء من معاصريه ومن سبقه بقرون.
وهذا يؤكد سمة العملية والواقعية في فكره ومنهجه الإصلاحي وبعده عن
الخوض في مناظرات ومجادلات فلسفية لا يترتب على الخوض فيها
8 مطلة جامعة أم الغرى لعلوم الشريعة واللعة العردية وآدابهاء ج11١ ع١ ؟. رمضان
المطلب الثاني
أنواع النفس عند ابن القيم
انطلق ابن القيم في تحديد أنواع النفس من النهج القرآني الذي
حدد أنواع التفس في ثلاث: المطمئنة والأمارة بالسوء واللوامة ..*' .
وهي نفس واحدة ولكن لها صفات فتسمى بإعتبار كل صفة بأسم فتسمى
والتوكل عليه والرضا به والسكون إليه عن حب ما سواه وبذكره عن
وتسمى لؤّامة وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في
طاعة الله مع بذله جهده فهذه غير ملومة؛ وهنك نفس لوّامة ملومة وهي
التي يلومها الله عز وجل وملائكته. وتسمى أمارة وهي المذمومة التي
تأمر بكل سوء؛ فهي نفس واحدة تكون أمارة ثم لوامة ثم مطمئنة وهي
ويرى ابن قيم رحمه الله أن النفس بذاتها أمارة بالسوء لأنها
خلقت في الأصل جاهلة ظالمة إلا من رحمه الله والعدل والعلم طارىء
عليها بإلهام ربها وفاطرها لها ذلك فإذا لم يلهمها رشدها بقيت على
ظلمها وجهلها فلم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم فلولا فضل الله
ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة '.
ويرى رحمه الله أن سبب الظلم ناجم عن واحد من أمرين: إما
اجهل وإما حاجة والنفس في الأصل جاهلة؛ والحاجة لازمة لها فلذلك
ذلك لا يعني خلو طرف الإنسان من عملية الترقي بنفسه والوصول بها
إلى مصاف النفس المطمئنة ( كما سنرى من منهج ابن القيم في ذلك).
منهج ابن قب الجوزية في تزكية اللفس. د. رقية بنت له جاير العلوائي 4
المطلب الثالث
تزكية النفس ...المفهوم والمصطلح
تأتي تزكية في معنيين: الأول بمعنى المديح والثناء عليها
وهذا النوع منهي عنه بدليل قوله تعالى: ( ألم تر إلى الَّذِينَ يُرَكُونَ
بالماء وطهرها. ومن هنا جاءت النصوص القرآنية تحض على التزكية
(الأعلى؟ .)١ وهنا تزكية النفس تأتي بمعنى تطهيرها.
ومفهوم التزكية بهذا المعنى من المفاهيم الأصيلة في القرآن
الكريم والسنة النبوي فقد أكد القرآن الكريم على الربط بين تزكية اللفس
وق حَابَ مَّن تَسَاهَا»ِ (الشمس7-٠) فهي عنصر مهم في رسالة
٠ مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها.
وتزكية النفس تدعو إلى التخلي عن الأخلاق الثميمة
والسلوكيات السيئة؛ وإحلال الأخلاق الفاضلة محلها لتصبح النفس
طاهرة نقية؛ ويكون صلاحها في الفرد عنوان صلاح المجتمع. وقد جاء
تعبيّر ابن القيم رحمه الله عن تزكية النفس بمصطلحات متعددة منهاء
التزكية'؟؛ وجهاد النفس'"؛وأحيانا زكاة القلب الذي خصص الباب الثامن
في كتابه إغاثة اللهفان للكلام فيه .
أما مفهوم التزكية عنده؛ فينصرف إلى أنها عملية كسبية يصل
بها المرء إلى كمال النفس المطلوب وسعادتها. وقد أكد في غير موضع
أن الوصول إلى كمال النفس؛ هو غاية سعادتها وشرفها.
ثم إنه ناقش وردّ مختلف المذاهب والأقوال الفلسفية التي ذكرها
الفلاسفة حول كمالات النفس التي لا بد منهاء وأوضح جوائب الخال
والقصور فيها. فقد ركزت تلك المذاهب على أن غاية كمال النفس هو
استكمال قوتيها العلمية والعملية؛ فاستكمال قوتها العلمية عندهم بانطباع
صور المعلومات في النفس واستكمل قوتها العلمية بالعدل. فهم يرون أن
النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية ولها تصور وعلم بقوتها العلمية؛
فقالوا كمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحكم والشجاعة وكمل
القوة النظرية بالعلم و التوسط في جميع ذلك بين طرفي الإفراط و
التفريط هو العدل. وقد رد ابن قيم رحمه الله أن غاية ما عندهم من العلم
والعمل؛ ليس فيه بيان خاصية النفس التي لا كمال لها بدونه البتة وهو
ما ينبغي لجلاله وما يتعالى ويتقدس عنه و معرفة أمره ودينه والتمييز
بين مواقع رضاه وسخطه و استفراغ الوسع في التقريب إليه وامتلاء