السنة ومراحل تدوينها
مقدمة :
السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام » وهي تشمل
أقوال الرسول َي وأفعاله وتقريراته'" » وقد فرض القرآن على المؤمنين اتباع
الرسول كيه وطاعته في آيات كثيرة ؛ كما في قوله تعالى :قل إن كم تُحبُون الله
وال هي بيان وشرح للقرآن كما في قوله تعالى : أن لي الذكر لين
لس م نز يم »!") فهي بالنسبة للقرآن كالمذكّرة التفسيرية للدستور في لغة
هذا العصر وكالقوانين التي تعب عن المبادئ العامة التي يتتضمنها الدستور في
الأنظمة المعاصرة .
وهذا هو السبب الرئيسي الذي جعل علماء الصحابة ومن بعدهم يعتنون بها
و(الحديث النبوي) » آلاف المصنّفات » شارك فيها آلاف العلماء منذ عصر الصحابة
)١( انظر الفصول في الأصول للجّاص (3/ 178 . والإحكام في أصول الأحكام + ابن حزم
(1/1) » طبعة ثانية سنة 404 ١ه ء تحقيق : أحمد شاكر » كراتشي » وأيضاً (47/1) ٠64/17
و(74/4١) . ومجموع فناوي ابن تيمية 1/0/ )١ وإرشاد الفحول للشوكاني (؟؟)
(1) سورة آل عمران آية( )01
(©) سورة النساء م
(4) سورة النحل _آية (44) + وانظر الرسالة للإمام الشافعي (7؟)
وقد شاع رأ يفي الأوساط العلمية بين بعض المفكرين والباحئين في هذا
ولاشك أن هذا الرأي يحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء للكشف عن
مدى صحته ومطابقته للواقع ٠
وينبغي علينا أن نذكر قبل البدء في بحث هذه القضية أموراً مهمة سوف تسهم
في توضيح كثير من جزاتب هذا الموضيع :!
أولاً :هناك فرق كبير بين كلمة (تدوين) و (تأليف) و (تصنيف) من جهة +
وكلمة (كتابة) من جهة أخرى في اللغة العربية +
فالكلمات الثلاث الأولى تفيد _عند الإطلاق _أن هناك كتاباً تم تأليفه بين
فالديّوان : هو مجتمع الصحف ! » والدفتر الذي يكتب فيه" .
والتدوين : هو عمل وصناعة الديوان ٠
والتأليف :هو جمع مادة مفرقة وضمها إلى بعض بحيث تصبح كتاباً
)١( انظر : الرسالة المستطرفة للكتاني » فقد ذكر كثيراً من كتب السنة
(7) لسان العرب مادة (دون)
() النهاية في غريب الحديث (1/ 168
واحدا”" هوالمؤلف .
والتصّيف :هو التمييزا"' والترتيب بحيث يكون الكتاب (المصنّف) مقسماً
على أبواب أو فصول .
وأما الكتابة : فهي _عند الإطلاق _لاتفيد إل مجرد الخ أو الرقم على ورقة
أو لوح أو جدار . جا في اللسان :(كتب الشئ . . . خطّه) " .
ويطلق على الورقة أو الصحيفة أو الرسالة المكتوبة : كتاب 9 .
فينبغي فهم هذه الألفاظ فهماً دقيقاً ليسهل معرفة مراد كثير من العلماء القدماء
الذين تكلموا في هذا الموضوع . بل ينبغي فهم مصطلحات أهل كل فنٌ ومراعاة
تطورها واختلاف دلالانها بين عصر وآخر » لأنه المدخل الصحيح لفهم أي قضية
إذن لابد من مراعاة مدلول هذه الألفاظ عند دراسة هذه القضية ؛ فقول
ابن حجر :(ثم حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار
وتبريب الأخبار : با
)90( لسان العرب مادة (ألف) . وانظر :تعريفات الجرجاني علي بن محمد الشريف الجرجاني )١(
. حرف (التاء)
() لسان العرب
(©) لسان العرب مادة (كتب)
(©) لسان العرب مادة (كتب)
(0) سنن الترمذي (9/ 144) كتاب (العلل الصغير) المطبوع في آخر السن
(1) هدي الساري مقدمة فتح الباري (3) ٠
تفهم على ضوء ما سبق بيانه من الفرق بين مدلول هذه العبارات عند الاستخدام .
فلا تعارض بين قولهم بدأ (التصنيف) و (التدوين) في أواخر عصر التابعين » وبين
قولهم إن بعض الصحابة وأتباعهم كانوا يكتبون أو عندهم صحف وكتب (" . كما
سيأتي في البحث .
ثانياً :كما أنه من الضروري عند دراسة هذا الموضوع مراعاة الظروف
الخارجية المتصلة والحيطة به » وهي ظروف المجتمع العربي عموما » والمجتمع
الإسلامي في عصر الرسول َه وعصر الصحابة على وجه الخصوص + وتتمثل
-١ أن العرب قبل الإسلام أمَةٌأسَةٌ ؛ لاتعرف العلوم التي تشتغل بها الأمم
الأخرى » كعلم المنطق » والفلسفة » والرياضيات » والطب . . .إلخ » إنا الفن
المشهورة _كسوق عكاظ وذي المجاز _ يتبارى فيها الشعراء والخطباء من كل
القبائل » أيهم أحسن شعراً © وأبلغ خطبة!" » فتطورت الفنون الأدبية
. )374/8( سير أعلام النبلاء )١(
() ولهذا وقع د/ محمد مصطفى الأعظمي في خطأ حيث لم يفهم عبارة الحافظ ابن حجر فأخذ
يناقشها ويحاول تفسيرها » ولم يلاحظ الفرق بين معنى (دوّن) ومعنى (كتب) . انظر :دراسات في
الحديث النبوي (1/ 77-77
(©) انظر : تاريخ ابن خلدون (1/ 4 80 -805) في جهل العرب بالصناعات و(474/1) في نبوغهم
في الشعر وفتونه » وحضارة العرب - غوستاف لويون (447) (فصل (الأدب العربي) +
رول قر
(اللسانية) تطوراً عظيماً ؛ وصارت الفصاحة ؛ والبلاغة » والإيجاز » وحسن
التصوير اللفظي » ودقته » الف الوحيد الذي فتن فيه العرب غاية الافتتان ؛ حتى
وبسبب عنايتهم الفائقة (بالبيان) كانوا من أقدر الأمم على التعبير عما في
نفوسهم بأوجز عبارة ؛ وأوضح لفظ ؛ وأقدرها على فهم الكلام ومقاصده ٠
وبسبب هذه الأميّة وخلو أذهانهم من العلوم والمعارف التي كانت عند الأمم
الرسولكَق والاشتغال بها والعناية بحفظها وفهمها » إذ ليس هناك علوم طبيعية أو
عقلية تأخذ من جهدهم ووقتهم تزاحم القرآن والسنّة » ولهذا كان كل نشاطهم
العلمي الوحيد في حفظهما وفهم معانيهما .
المهارة »أيهم أكثر حفظاً لهذا التراث وأجود ضبطاً » وكان الشاعر العربي إذا نظم
() انظر : البحرامحيط للزركشي (1/ 447-444
العربية وتصبح محفوظة في صدور مئات الرجال لايكاد يقع بينهم اختلاف
كبير في روايتها ؛ وقد استمرت هذه الطريقة إلى عصرنا الحاضر بين قبائل
الجزيرة العربية ٠
*- ولم تكن الرواية طريقة مبتكرة بعد عصر الصحابة ؛ بل هي أشهر وسيلة
تعليمية وإعلامية عند العرب في الجاهلية!' » فكان لكل شاعر عربي راوية
يلازمه » ويحفظ كل أشعاره » ويتعلم منه فإذا نظم الشاعر قصيدة - وقد تزيد
أحياناً على مائة بيت - أخذ يرددها على مسامع راويته!"" وتلميذه حتى يتأكد
6 كما أن من أخلاق العرب قبل الإسلام الصدق في الحديث + والأمانة » والوفاء
يستطع أبو سفيان بن حرب أن يكذب على الرسول #
ذهب في تجارته للشام سنة 3 ه - قبل أن يسلم - وسأله (هرقل) عن أخبار
+ انظر :مصادر الشعر الجاهلي (386) ناص الدين الأسد » طبعة أولى _سنة 1470م © بيروت )١(
_ والمفصل في تاريخ العرب د/ جواد علي (4/ 1768) » طبعة أولى _سنة 47/7 ام »دار العلم
لبنان . وتاريخ التراث العرب » فؤاد سزكين » ترجمة محمود فهمي + طبعة أولى _سنة 1487م
+ )١78( نشر جامعة محمد بن سعود _الرياض ؛المجلد الأول
(؟) وهذا كله لاينفي معرفة العرب قبل الإسلام بالكتابة وتدوينهم بعض ترائهم » انظر :دراسات في
الحديث النبوي (1/ 47) ؛ وتاريخ ابن خلدون (418/1) . ومصادر الشعر الجاهلي (77)
يكذب خوف العار والفضيحة حيث قال : (والله لولا الحياء من أن يَأثُروا علي
يكذب عليه عند ملك الروم حياءً وخوفاً من العرب ٠
٠ - أن الرسول محمداً كَل كان من قريش » وهي أفصح القبائل العربية!""
حفظ كلامه » لوضوحه وجماله ؛ والعرب يسحرهم الأسلوب الجميل ٠
+ - وكان الرسول كَئِ ذا تكلّم أوجز الكلام » وأعاد الكلمة ثلاث مرات »حتى
. وكان
أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه)!"' .
مساجدهم ؛ ومجالسهم » وبيوتهم ؛ رجالا ونساءٌ ؛ لأنهم يرونه واجبآدينياً ؛
وقوله : إ لقد كان لكم في رسول ١ ب أسْوَةٌ حَسَنَةٌ »© . حتى إنهم كانوا
يحفّظون أبناءهم الحديث كما يحفظونهم القرآن كما في صحيح البخاري :
+ 00 انظر :صحيح البخاري ح رقم )١(
(1) انظر : الشفا للقاضي عياض اليحصبي /١( *1) » طبعة دار الكتب العلمية - لبنان + وانظر :تاريخ
ابن خلدون (438./1) و(947/1) + وحضارة العرب (479) فصل (اللغة العربية)
(©) انظر :تاريخ الإسلام للذهبي » قسم السيرة النبوية (477) ٠
(4) رواه البخاري في صحيحه حديث رقم (40) و (1744) ؛ وانظر :إحكام الأحكام (1/ 0174 +
والأنوار الكا:
(0) سورة النساء -
(3) سورة الأحزاب - آية )11( وانظر : مجموع فتاوي أبن تيمية (18/ 47-47)
(كان سعد - ابن أبي وقاص - يعلّم هذا الحديث بنيه كمايعلم الْعَلَمٌ
وكانوا إذا غاب أحدهم عن مجلس الرسول َي سأل من حضره من الصحابة
الآخرين ماذا قال الرسول وي - كما في قصة عمر مع جاره في تناوبهما على
حضور مجلس النبي َي -"" وبهذه المذاكرة والمدارسة اليومية بين الصحابة
رسخت في أذهانهم وحفظوا عن ظهر قلب كثيراً من أقوال وأفعال الرسول قي ؛
لأنها شرح وبيان لمعاني القرآن + خاصة أن النبي فب قد يكرر الحديث الواحد في
أماكن مختلفة وأوقات مختلفة بحسب الحاجة ©
6 - وقد عاش الرسول كَِ بعد نزول القرآن عليه ثلاثة وعشرين عاماً ؛ منها ثلاثة
عش بمكة » وعشرة أعوام بالمدينة + وهي مدَة طويلة حفظ فيها أصحابه الملازمون
ل : أطول من مد الدراسة التي يحتاجها الطالب منذ
طفولته حتى يحصل على شهادة الدكتوراه في أي تخصص في هذا العصر .
تحفيظاً حرفياً كما فعل مع البراء بن عازب عندما علِّمه حديث النوم :قال
(١)ح رقم (1877) وفتح الباري (5/ 35
(؟) صحيح البخاري حديث رقم (44) ؛ وانظر فتح الباري (1/ 188
() وانظر مجموع فتاوي ابن تيمية (17/ 14) و (14/ ؟1).
(4) صحيح البخاري حديث رقم 4100 9) » وانظر الإحكام (87/7)
ملاسم
فقد رفض الرسول أن يبدل البراء كلمة (نبي) ب (رسول) مع أن معناهما واحد
وقال جابر كان رسول الله ف يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من
وقال ابن عباس كان رسول الله في يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من
-٠ وكذلك كان الرسول كَل يعلّم الوفود التي تأتيه من قبائل العرب » كما فعل
مع وفد قبيلة عبد القيس » حيث علمهم شرائع الإسلام » ثم قال لهم : (احفظوه
١١ - كما أن الصحابة إذا اختلفوا في مسألة رجعوا إلى الرسول قي حتى يعلمهم
الصواب" » وكذا إذا أشكل عليهم شيء من القرآن أو من كلام الرسول كيه
١ - أن الرسول في أعظم شخصيّة خرجت في جزيرة العرب ؛ ولم يمت حتى
() صحيح البخاري حديث رقم (1047)
(7) التمييز لمسلم حديث رقم (184) » تحقيق :د/ محمد الأعظمي » طبعة ثالشة سنة +44 ١م ©
الكوثر - الرياض
(؟) صحيح البخاري حديث رقم (410) » وأحمد (707/4)
(؛) صحيح البخاري حديث رقم (ه38)
(5) صحيح البخاري حديث رقم (44) » وانظر : فتح الباري (18.4/1)
(1) صحيح البخاري حديث رقم )٠١7( + وانظر : فتح الباري (1/ 0147 +