تفير ابن باديس/ الجزء الأول ب
الوهن؛ ويصلح خطأه إذا اختل ميزانه.
وكما أتى القرآن لأوَّل نزوله بالعجائب والمعجزات في إصلاح البشر»
فإنه حقيق بأن يأتي بتلك المعجزات في كل زمان» إذا وجد ذلك الطراز العالي
من العقول التي فهمته؛ وذلك النمط السامي من الهمم التي نشرته وعممته»
بالفهم عقول كعقول السلف» وتولته بالتطبيق العملي نفومنٌ ساميةٌ وهِمَم بعيدةٌ
كنفوسهم وهممهم .
النمط السخيف من الفهم السطحي» وبهذا الأسلوب التقليدي من التفسير
ويزيد أعداءهم استخفافًا بهم وإمعانًا في التكالب عليهم والتحكم في رقابهم
وأوطانهم .
تفسير القرآن تفهيم لمعانيه وأحكامه وحكّيه وآدابه ومواعظة» والتفهيم
وفهم القرآن يتوقف -بعد القريحة الصافية والذهن الثير- على التعمق في
أسرار البيان العربي» والتفقه لروح السنة المحمدية المبينة لمقاصد القرآن»
تصدير را -
الشارحة لأغراضه بالقول والعمل ؛ والاطلاع الواسع على فهوم علماء القرون
الثلاثة الفاضلة ؛ ثم على التأمل في سنن الله في الكاثنات» ودراسة ما تنتجه
العلوم الاختبارية من كشف لتلك السنن وعجائبها .
ذكرنا من القرائح والأذهان» وأسرار البيان. ومستعينين بإرشاده على فقه سنن
ولو لم يتحسر تيار الفهوم الإسلامية للقرآن بما وقف في سبيله من توزع
المذاهب والعصبيات المذهبية لانتهى بها الأمر إلى كشف أسرار الطبيعة
ومكنونات الكون» ولسبق العقل الإسلامي إلى اكتشاف هذه العجائب العلمية
التي هي مفاخر هذا العصر .
كان علماء السلف يشرحون الجانب العملي من القرآن على أنه هداية عامة
لجميع البشر ؛ يطالب كل مؤمن بفهمها والعمل بها ء وكانوا يتحاشون الجانب
بها بحث مسددمين أتى يطغم :
وللمفسرين من عهد التدوين إلى الآن طرائق في فهم القرآن» وأساليب في
أما الأساليب فقلما تختلف إلا ببعد العصور حين تختلف الأساليب
أما الطرائق فإنها تختلف باختلاف الاختصاص في المفسرين والعلوم
فالمحذدّثون يلتزمون التفسير بالمأثور» فإن اختلفت الرواية؛ فمنهم من
يروي المتناقضين ويدعك في حيرة؛ ومنهم من يدخل نظره وفكره في التعديل
والترجيح كما يفعل أبو جعفر الطبري'".
خالف نصّه قاعدة من قواعدهم ردوه بالتأويل إليها .
التحريف والتبديل» لأنه في حقيقة أمره وضع لكلام الله في الدرجة الثانية من
كلام المخلوق؛ وفي منزلة الفرع من أصله يرد إليه إذا خالفه؛ وأعظم بها زلة؛
وإن هذه الزلة هي الغالبة من صنيع المفتتنين بالمذاهب والمتعصبين لهاء
والمتكلمون في معاني القرآن معظمهم من اللغوبِين والنحاة؛ فهم
يتكلمون غالبًا على الألفاظ المفردة وأوجه الإعراب» فهم أقرب الكاتبين في
الغريب أمثال الأصفهاني'" وأبي ذر الهروي""؛ وإنما أطلقوا على كتبهم هذا
الاسم (معاني القرآن) لأن بساطة الأسماء كانت هي الغالبة في زمنهم.
والإخباريون مفتونون بالقصص فلا يقعون إلا على الآيات المتعلقة به؛
)١( هو الإمام المجتهد محمد بن جرير أبو جعفر الطيري؛ صاحب التصانيف البديعة؛ منها ؛ «التفسير»
و«التاريخ» واتهذيب الآثار». توفي سنة (١٠7ه). انظر «سير أعلام النبلاءة (14/ 137 187
() هو المعروف بالراغب» توفي سئة (9+7م). الأعلام (1/ 188
() هو عبد بن أحمد أبو ذر الهروي+ المتوفى سنة (474ه). الأعلام (7/ 164
تصدير تب
ويا ليتهم يحققون الحكمة من القصص» فيجلون العبر منها ويستخرجون
الدقائق من سنن الله في الأمم وجميع الكاثنات» ولكنهم يسترسلون مع
وأصحاب المذاهب العقلية إذا تعاطوا التفسير لا يتوسعون إلا في
الاستدلالات العقلية على إثبات انصفات أو نفيها ؛ وعلى الغيبيات والنبوات
وما يتعلق بها .
والنحاة والباحثون في أسرار التراكيب لا يفيضون إلا في توجيه الأعاريب
هكذا فعل القدماء والمحدثون بالقرآن» حكّموا فيه يُحلهم ومذاهيهم
وصرفوها عن حكمه وأسراره» ولو ذهبنا مذهب التحديد في معاني الألفاظ
القرآن»؛ ويستثيرون أسراره وجكمه معتمدين على القرآن نفسه وعلى السنة
وعلى البيان العربي كما أشرنا إلى ذلك قبلا .
(1) هو كبير المعنزلة محمود بن عمر الزمخشري» الملقب ب (جار اللَه). أشهر كتبه ١الكشاف» في تفسير
القرآن توفي سنة (978ه). سير النبلاء (78/ 181- 197) والأعلام (17/ 178)
(؟) هو محمد بن يوسف أبو حيان الغرناطي» النحوي» من كتبه «البحر المحبط» في تفسير القرآن. توفي
سنة (48لاه). الأعلام (1/ )١87
در ) يت تفسير ابن باديس/ الجزء الأول . مس
ومنهم من عمم ولكن توسّعه ظاهر في الأحكام: أحكام العبادات
وفهم الفهماء إلى أن أذن الله للعقل الإسلامي أن ينفلت من عقال التقليد
فكانت إرهاصات التجديد لهذا العلم ظاهرة في ثلاثة من أذكى علماثنا
)١( هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله ابن العربي الأندلسي» المالكي؛ صاحب «أحكام القرآن»
واعارضة الأحوذي» وغيرهما . توفي سنة (947م). سير النبلاء (10/ 4-147 -)1١
(7) هو أحمدبن علي أبو بكر الجصاص» له «أحكام القرآن» . توفي سنة (+لا7ه). الأعلام (1/ 171
(©) هو عبد المنعم بن محمد الخزرجي» المعروف ب(ابن القَرّس)؛ من علماء غرناطة. له كتاب «أحكام
القرآن». الأعلام (4/ .)١18
(4) هو محمد بن أحمد أبو عبد الله القرطبي» له «الجامع لأحكام القرآن» المعروف ب«تفسير القرطبي*
توفي سنة (17/1ه). الأعلام (8/ 777
(8) هو عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي » له «المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز». توفي سنة
(47ه). الأعلام (7/ 787)
(1) هو محمد ين علي الشوكاني» فقيه مجتهد من كبار علماء اليمن » له تآليف كثيرة منها «فتح القدير» في
التفسير» ودنيل الأوطار» وغيرهما . توفي سئة (1786ه). الأعلام (1/ 748
(0) هو محمود بن عبد الله الحسيني الآلوسي» أبو الثناء البغدادي؛ صاحب «روح المعاني» في التفسير »
توفي سنة (17170م). الأعلام 10/ 176 1107
(8) من مؤلفاته: «فتح البيان في مقاصد القرآن» في التفسير» و«الروضة الندية شرح الدرر البهية؟
وغيرهما . توفي سنة 070 17). الأعلام (1/ 13 118)
تفاوت بينهم في قوة النزعة الاستقلالية؛ وفي القدرة على التخلص من الصبغة
المذهبية التقليدية؛ ثم كانت المعجزة بعد ذلك الإرهاص بظهور إمام
المفسرين بلا منازع محمد عبده""» أبلغ من تكلم في التفسير بيانًا لهديه»
فبوجود هذا الإمام وجد علم التفسير وتم ولم ينقصه إلا أنه لم يكتبه بقلمه كما
ولكنه مات دون ذلك؛ فخلفه ترجمان أفكاره ومستودع أسراره محمد رشيد
رضا!" فكتب في التفسير ما كتب ودون آراء الإمام فيه وشرع للعلماء منهاجه
ومات قبل أن يتمه؛ فانتهت إمامة التفسير بعده في العالم الإسلامي كله إلى
أخينا وصديقنا ومنشئ النهضة الإصلاحية العلمية بالجزائر بل بالشمال
الافريقي عبد الحميد بن باديس .
كان للأخ الصديق عبد الحميد بن باديس لله ذوق خاص في فهم القرآن
والبصيرة النافذة - بيان ناصع» وإطلاع واسع؛ وذرع فسيح في العلوم النفسية
والكونية؛ وباع مديد في علم الاجتماع ورأي سديد في عوارضه وأمراضه.
المعدودون في البشر.
(1) هو دفي الديار المصرية. توفي سن (18019م) الأعلام (1/ 67 3- 107)
() هو صاحب مجلة «المنار» بث فيها آراءه الإصلاحية. له تفسير «المتار؛ مطبوع. توفي سنة
(17م). الأعلام (1/ 1776
وله في القرآن رأي بنى عليه كل أعماله في العلم والإصلاح والتربية
طريقته» وهو رأي الهداة المصلحين من قبله .
وكان يرى - حين تصدَّى لتفسير القرآن - أنَّ في تدوين التفسير بالكتابة
تسمعه الجماهير فتتعجّل من الاهتداء به ما يتعجّله المريض المنهك من
الدواء» وما يتعجله المسافر العجلان من الزاد.
بتعليم جيل وتربية أمة ومكافحة أمية ومعالجة أمراض اجتماعية ومصارعة
استعمار يؤيدها . فاقتصر على تفسير القرآن درسًا ينهل منه الصادي» ويتزود
يختم التفسير درسًا ودراية بهذا الوطن غيره منذ تمه أبو عبد الله الشريف
تفسير ابن باديس/ الجزء الأول . م
كان ذلك الأخ الصديق لله عل النفس باتساع الوقت وانفساح الأجل
إلى التفسير يتمنى علي أن نتعاون على كتابة التفسير» ويغريني أن الكتابة عليّ
)١( هو محمد بن أحمد أبو عبد الله المعروف بالشريف التلمساني. من كتبه «مفتاح الوصول إلى بناء
الفروع على الأصول». توفي سئة (1/لاه), الأعلام (8/ 77
من زياراته لي » وكنا في حالة حزن لموت الشيخ رشيد رضا قبل أسبوع من ذلك
اليوم فذكرنا تفسير «المنار»؛ وأسفنا لانقطاعه بموت صاحبه؛ فقلت له: ليس
علم رشيد؛ وسّعة رشيد؛ ومكتبة رشيد» ومكاتب القاهرة المفتوحة في وجه
تفسيرًا يغطي على التفاسير من غير احتياج إلى ما ذكرت.
ولما احتفلت الأمة الجزائرية ذلك الاحتفال الحافل بختمه لتفسير القرآن
عام )١7061( هجرية؛ وكتبت بقلمي تفسير المعوذتين مقتبسًا من درس الختم +
أيما إعجاب؛ وتجدد أمله في أن نتعاون على كتابة تفسير كامل؛ ولكن
العوارض باعدت بين الأمل والعمل سنتين؛ ثم جاء الموت فباعد بيني وبينه؛
ثم ألحت الحوادث والأعمال بعده فلم تبق للقلم فرصة للتحرير ولا للسان
فمات علمُ التفسير وماتت طريقة ابن باديس في التفسير» ولكن الله تعالى أبى
وكان ينشرها فواتح لأعداد مجلة «الشهاب» ويسميها (مجالس التذكير)؛ وهي
وأسلوبه الكتابي .
ب( )يي تفسير ابن باديس/ الجزء الأول سس
هذه المجالس العامرة هي التي تصدى الأخ الوفي السيد أحمد بوشمال'"
عضد الإمام المفسر وصفيه وكاتبه والمؤتمن على أسراره؛ لتجريدها من مجلة
«الشهاب» ونشرها كتابًا مستقلًا » قيامًا بحق الوفاء للإمام الفقيد وإحياء لذكراه
بأشرف أثر من آثاره» وها هو ذا بين أيدي القراء يستروحون منه نفحات منعشة
وشكرًا للأخ الوفي أحمد بوشمال على هذا العمل الذي هو عنوان
)١( من تلاميذ الإمام عبد الحميد بن باديس الأوائل» الملازمين لدروسه؛ وأحد مؤسسي «المطبعة
الإسلامية الجزائرية» سنة (1479م) ومدير مجلة «الشهاب»؛ انتخب عضوًا في المجلس الإداري ل
«جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» عام 1449م- اعتقل مرات من طرف الاستعمار الفرنسي+؛
كان آخرها بتاريخ 17/ 4/ 1488م وبعدها لم يظهر له أثر+ 01
انظر «صراع بين السنة والبدعة؛ -١١7 /١( 113) لأحمد حماني» ودمن أعلام الإصلاح في
الجزائر» (134/1- 171) لمحمد الحسن فضلاء
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1/ 144- 197