تحيا سعيلة ؛ متعاونة مع جيرانها من الأمة العربية » في ظلال من العدالة والإخاء
والتناصر , تجمعهم مبادئ مشتركة وأهداف واحلة.
وبعد فهذه (( عينة )) من تاريخ الأدب الكردي انتقيتها من بين صفحات مكدسة
وهديتي هله قصة .. قصة تعتبر أعظم مأساة عاطفية في تاريخ الأدب الكرري
واقعية من أول فصل فيها إلى آخر فصل » ليس للخيال فيها من شأن سوى إحياء ما أهمله
التاريخ أو تساقط منه عند نقلها مما لا يقوى وحده على ضبطه وتصويره ؛ اتخذت مستقرها
في قلب هذه الأمة وفي أجل بقعة من بقاعها . تترجم لك صورة حياتها ؛ وتكشف عن
مقدار ما أفاض الله في نفسها من عزة وشهامة ؛ ووفاء ومراس وقوة ؛ إلى جانب ما أودع
فيها أيضاً من رقة عذبة متناهية , وعاطفة غريبة ملتهبة .
ولقد سجل هذه القصة وخلدها الشاعر والأديب الكردي الكبير ((الشيخ أحمحد
وهذه التحفة التي هي في الواقع أروع ماخلده الأدب الكرمي ٠ وإن لم تكن قد
() هذا الشاعر يعد من أعظم أدباء الأكراد وشعرائهم ؛ وله مؤلفات وددواين كثيرة معظمها باللغة الكردية
» وبعضها باللغة الفارسية والتركية وله من بين تأليفه قاموس ( كردي-عريي ) وأعظم أثر له هو ديوانه في هذه
القصة التي تعتبر أعظم تحفة خلدها للأدب الكردي.
الأديب الفرنسي ( روجه لسكو ) في عام 1987, واتخذت إذ ذاك مكاناً مرموقاً بين الأدب
الفرنسي . وقد تتلمذ هذا الأديب في تعلمه اللغة الكردية على المرحوم (جلادت بك)
نجل آخر أمير من أمراء جزيرة اين عمر المرحوم ( بدرخان باشا).
هذا وقد حاولت جاهداً أن أكون دقيقاً في نقل صورة صادقة عن أسلوب الشاعر
الكردي مخلد هذه التحفة خصوصاً عند التخيلات والأحاديث التصويرية لكي تقف
بالقارئ على مقدار ما سمى أدب هذه اللغة وبيانها من الروعة والإشراق!إن كنت قد زدت
أو تصرفت في الترجمة في شيء ؛ فليس يعدو ذلك ما يقتضيه بسط النصوص الشعرية إلى
أسلوب نثري يتراآى فيه سبك القصة وروحها مما لا يتأتى توفره في الشعر بدقة.
ثم إن هذه القصة قد اشتهرت على ألسنة كثير من عوام الأكراد على نحو آخر
غير النحو الذي يقصه علينا هذا الشاعر الجليل وهي على الشكل الذي يتحدث به
هؤلاء العوام لا تزيد على أسطورة خيالية ليس لها نصيب من الواقع ٠
)١( مما ترجم أيضاً إلى اللغة الفرنسية ديوان ذلك الشاعر الجليل المعروف ب رملاي جزري ) الذي عاش في
النصف من القرن السادس وقد طبع هذا الديوان في برلين سنة 77 17ه 684٠م وتوجد نسخة منه في مكتبة
الأب انسطاسي في بغداد وشعره يسمو إلى درجة عجيبة في الرقة ويتوهج باحساسات ملتهبة من صور العشق
الشديد وآلامه ويقول بعضهم إن سبب هذه الروعة العاطفية الحية في شعره هو أنه عشق أميرة كردية وأمضى
ذلك قصانده التي تصور في روعة أسمى مراتب العشق المالي .
في محرإب الالهام
تعال ايها الساقي فاملأ هذا الجام خمرا ... املأه من تلك الخمرة الوردية التي
اعتصرت من جنى الروح , واستخلصت من ذوب سر القلوب . ثم اسقنيها من شفاء
كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح , اسقنيها نشوة تهيج مني فؤادي الغافي وتسكر
عقلي الخيران".
وأنت أيها الشادي ...تعال فاجلس الى جاني لتتم سكرة الروح بشجي من غنائك
, أسمعني أنغام الني والكمان , أطربني بوقع الدفوف والألحان .أبهجوا عيني بمرآى الورود
الوجود الذي حولي , فعسى أن تضمحل مني كثافة هذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا,
وأبقى معنى وإحساسا . وعسى أن يدكرني إذ يدركني إذذاك فيض من نور القدس ,
فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورا من ضيائه , فيصفو مني القلب
وتجلو أمام عيني أسرار هذه الحية . لكي أغدو مع كل صباح فأترجم للناس حديث النسيم
مع الأغصان , وأشرح لم مغازلة الطيور للأزهار . ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات
الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران ؛ وأردد مع العنادل والبلابل أنغام الحب
والجمال , ولكي أسكرهم من جال هذا الكون بخمر من مداد قلمي , وأطربهم من آلحانه
ببيان قلي ولسني
() الشاعر كما قلت في المقدمة صوفي اللزعة وعلى جانب كبير من الدين والعلم ... فحديثه عن الخبر
والأقداح ونحو ذلك مما يعبر به كثير من الشعراء والمتصوفة على سبيل المشاكلة والمجاز.
أحزانه , ولكي أغدو مخمورا بحرارة لذعها ويبسكر مني العقل بنشوتها.
هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرار القلوب , ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون
المعاني ودرها , وأكشف عن خلجات النفوس ووجدها , وأبين عن آلام الأفثدة وحبهاء
سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غير أوتار , سأبعثها شذى عطرا يبهج النفوس من
دون أزهار , سأبعث اليوم تاريخا من الحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام ,
سأشعل من جديد زفرات لمعت في صدور ونارا اهبت في قلوب , ثم خمدت بعد أن
أحالتها إلى رماد ! سأعيد الحية بروح من بياني إلى ( ممو ) و ( زين ) ضحيتي نار الحب
والغرام . لأدواي قلبيهما بفيض من شعري وإحساسي , إذ لم يرجمهما أحد بدواء الوصل
والإسعاد , سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلك المسكين الذي كواه الحب المستعر
وسحقه الكيد والحقد , وعن قلب تلك البريئة الطاهرة طهارة المزن بين السحب . تلك
فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحيهثم ليمر من أمامهما كل مستعرض
وناظر . فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما , وليفتتن آخرون بلطف (زين ) وجافاء
وعسى أن يسأل لي الرحمة أيضا كل من يسترحم هماء وعسى أن يدركني أنا
أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم , وعسى أن يقول أناس : رحمه الله فقد وشى
حياتهما بوشي جميل , وغرس قصتهما في بستان الخلود .
وعسى أن يتلطف الناقدون لسفري هذا في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة
الكمال ولكنه طفلي الغالي ... عزيز الى نفسي , مدلل عند قلي , جيل في عيني . وهو
وأزهار فكري ولي . وحسبهما من جهدي ما قدمت , وحسي منها ما أثمرت .
الجزيرة الخضراء
حدث ذلك في حوالي عام 17# م في جزيرة ( بوطان ) المعروفة اليوم باسم
-جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد في اتساع شاسع بين اهاب
والتلال الخضر الواقعة في سمال العراق .
واسم هذه الجزيرة يتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر
من جمال الطبيعة وبهائهاء اذ ننشعب بين ريض ة , وينعكس اليهامن شائر
جو السماء , التي تفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العام , وتنتشر
من حولها سر الخلود وآيات الجلال .
وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأمير زين اللين ) , حيث
كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهد العثمانيين منقسمة إلى علة
إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارة والقوة +
وم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب .. بل كان يتمتع إلى ذلك بغنى
واسع وممظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه من امتلاكه
العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونا بالفيبة
والإجلال لا في بوطان وحدها , بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها
وم يكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل , كقصور بقية الأمراء من
لتصميمه وتشييله وإقامة أبهتها.
مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهرات الغريبة والفاخرة!
أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان .. وممثل ذلك من أجل الجواري
غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أي واحلة من
في ذلك القصر بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال ؛ وغوذجا كاملا للفتئة
والسحر الإفي في اسمى مظاهرهما ؛ وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذا الإبداع العجيب في
ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع . ومبدع وصانع بأن الجمال إنما هو هذا ..! لا
رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع ؛ هذه فتنة تبهر القلوب وتسكر الألباب +
وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار . وشتان ما بينهما من فرق
( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة , قد أفرغ الجمال في كل جارحة من
جسمها على حنة ؛ ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ؛ فعلات شيئا
أبرع من السحر وأبلغ من الفتنة.
وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهان الدال على أن اليد الإلهية
قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختها وأ مى.
كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ؛ قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ؛ ذات
شقراء ؛ غير أن شعرها الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجهها الذي قسمت
ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن
الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا . وكانت لا الى ذلك كله رقة عجيبة في روحهاء وخفة
متناهية في دمها . فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المل والخفة واللطف.
وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلك القصر
عن معظم الأبصار ؛ فقد كان اسماهما ذائعين منتسرين في سائر أطراف الجزيرة بل في كثير
من بلاد كردستان , يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال.
وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان
لتصبحا أجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار . لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي
الزعامة فيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم . مما يجعلهم
يتحرجون من اختلاط الجنسين ألا بمقدار ... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي
مزيدا من هذه الغيرة بين جانبيه ؛ وزادها ما كانت تتمتع به اختاء من ذلك الجمال التادر
الذي أبى إلا أن يذيع ا ميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كان
من العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع ...
وتسقط الأخبار .
عيد الربيع ( التوروز )'"
كان الوقت أصيلا , والناس يودعون يوم * مارس (آذار» ليستقيلو من ورائه ربيع
غير معهود . فقد كان عليهم جميعا أن يتهيئوا ويستعدوا للخروج مع صباح اليوم الثاني
إلى ظاهر المدينة . ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة . وعلى ضفاف دجلة
الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد . فالطبيعة لها عليهم حق ومنة
وصغير ورجل وأنثى تاركين ورائهم كل آثار التصنع والتكلف التي تعج بهادنيا المدن
والعمران » الى حيث تلوح صفحات الإبداع الإلمي الساحر . فيخ شعون لا وحدهاء
ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم مس ذلك اليوم...
وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافهاء لااسيما
حول قصر الأمير . فقد كان على رجال القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوم من
تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع . وقد ينتهز الفرصة
فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته . أما داخل القصر ؛ فقد كان
أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى منه . كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا الأميرتان زين و ستي +
ترقبان ساعة الغروب وترنوان إلى الأصيل والأكام ؛ وعلى صفحة دجلة الذي يتشعب
ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة ٠
)١( عيد الربيع الذي أشار اليه الخاني هنا هوعيد نوروز .. يتفل به الأكراد والفرس في الحادي والعشرين
من آذار من كل سنة ... يفل به أبناء الشعب الكردي بالحروج إلى الطبيعة متزينين بالخلى الفلكلورية
...يعقدون حلقات الرقص والدبكات .. ويشعلون النار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل
آلاف الستين معلنا نماية الظلم والإستبداد .. رمزا للنصر والتحرر
قالت ستي: " يبدو أنني لن أعثر على الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر
فأجابتها زين : "” ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكون ذلك الرجل بالغ الذروة في
الجمال . وأين تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة ..؟ أم لعلك تحسبين أن الرجال كلهم
ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجل الذي أتخيله وأعنيه " فأجابتها زين
مستضحكة : ”” ولكن كيف تستطيعين أن تبحثي عن رجل خيالك هذا .؟ أم أنك قد
فأطرقت ستي متكئة . وهي تداعب خصلات من
شعرهاء ثم هزت رأسها وهي تقول : "” أجل ؛ فالشكلة إنما هي هذه فقط"وعاات إلى
السكوت .
وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه .. ثم أسرت إلى أختها قائلة: "لقد
أن يسمعها أحد . وأخذنت تقول: "تعلمين أن غدا هو عيد الربيع » وأن أهل الجزيرة
كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقول والرياض . ولا شك أن ذلك أجل فرصة لما
تفكرين فيه" .
مثل هذا اليوم الإمتزاج الذي تظنين .! وهل تجهلين أنه ستكون لنا أمكنة خاصة من دون
الرجال ؛ أم ٍ
فقاطعتها زين قائلة : "” ولكنني لم أقل لك الحل بعد . أريد أن أقول إن أحذا من
الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة , وسيتلاقى كلهم في هذا الفضاء فما علينا إلا أن
نتأحر عن موكب القصر غذا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي ممنعنا من الخروج ؛.حتى
إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم ؛ ثم نندس في صفوفهم ولا
طلا