المقدمة
بقلم المرحوم الأستاذ السيد إبراهيم الواعظ
الأستاذ الأديب عبد الكريم العلاف أحد أولئك الكثيرين الذين
تخرجوا على يد أستاذهم الكبير والعالم المتضلع والفقيه الممتاز والشاعر
الأديب الشيخ عبد الوهاب النائب عليه رحمة الله ورضوانه فان هذه
المدرسة وهي مدرسة جامع الفضل وقد أسست على العلم والتقوى وكان
علمها المفرد وعيلمها الفذ الأستاذ النائب مستمرا على التدريس فيها ليلا
رجالات العلم والأدب ببغداد فمن أديب لايجارى وأديب لا يبار وشلعر
ملهم وكاتب بليغ وخطيب مصقع وفقيه متضلع ومفس محقق ومحدث
صادق ومدرس حاذق وقد اصبح كثير من المتخرجين من هذه المدرسة
ذوي مناصب مرموقة وشهرة ذائعة في الأوساط العراقية وقد كان
للأستاذ العلاف صفة خاصة من المتخرجين وله ولع فهئ الموسيقى
وتحبير المذكرات عن الحوادث المختلفة فمن جملة ما ألف وكتب كتابه
الفريد في بابه (الطرب عند العرب) طبع هذا الكتاب واصبح مرجعا
مهما للموسيقى العراقية والموسيقيين وكتاب (المواهب في ذكرى عبد
الله واخيرا لم يرد أن يختم حياته بدون أن يخلدها تخليدا يبقى على كر
العصور ومر الدهور فقد وضع هذا الكتاب الذي أقدمه اليوم الى قراء
العربية عامة والعراقية خاصة فقد جمع في فصوله وبين سطوره
حوادث لم تكتب وقضايا لم تسجل وصورا عن الحالة الاجتماعية
والمعاشية في بغداد خاصة والعراق عامة تعيد الى الكهول والشيوخ
ذكريات قيمة مرت عليهم مرور صور السينما وكأنها لم تقع
وتوضح للشباب العراقي ما كانت عليه بلاده في السنين الماضية
الكتاب القيم الى القراء الكرام اكبر في المؤلف الفاضل هذه الهمة
القعساء والجهد العظيم الذي صرفه في جمع ما جمع بين صحائف هذا
الكتاب رغم المرض الذي لم يزل يلازمه وقد عطل يده اليمنى التى
كانت ناصره وعضده في التأليف والكتابة سائلا المولى تعالى أن يشفيه
مما هو فيه ويوفقه لاخراج أمثال هذه النوادر اللطيفة والمواضيع
السيد إبراهيم الواعظ
الحمد لله الملك المتعال الدائم بلا زوال والصلاة والسلام على سيدنا
وملاذنا محمد وعلى اله وصحبه اولي الرفعة والكمال.
وبعد لقد عنى المؤرخون بتدوين أحوال سكان بغداد منذ أول
تشييدها واتخاذها عاصمة وعنوا بتدوين تطوراتها الاجتماعية والسياسية
الضخمة التي حفلت بأخبار بغداد وما يتصل بأحوال أهلها وولاتها
وحكامها وعلمائها. وامتلات بطون الكتب بأحاديث شتى عن تصوير
وقائعها وكانت الأجيال تتناقلها حتى اليوم وتستزيد منهاء غير أن فترة
قصيرة من أيام العهد العثماني في بغداد تدون عنها الأخبار بما تتنفع
الغلة وتشفي العلة واخص تلك الأيام والعهد ما يبدا من سنة 17485 ه
يقابلها سنة 1819م حيث كان مدحت باشا المصلح الشهير واليا عليها
فلا تجد آلا نتفا قليلة من أوضاع سكان وأحوال هذه المدينة التاريخية
الخالدة وما فيها من ثقافة وعادات وتقاليد واعمال وأزياء ومدارس
ومعاهد وعمارات وطرق وطوائف واجتماعات ومجالس ومقاهي
ونوادر ومتاجر ومصانع واسواق وخشية أن تظل هذه الفترة مجهولة
لدى الأجيال القادمة انتهزت الفرصة لجمع ما تفرق من أخبارها
والاستماع إلى روايات المعمرين من الجيل الماضي واحاديث ممن
في تلك الفترة والرسائل المتفرقة المخطوطة والمطبوعة وجمعتها إلى
بعضها وصنفتها وحصلت على تصاوير شمسية(فوتغراف) للتعريف
ببعض ثلك الأحوال وأولئك الرجال لعلي أكون قد خدمت الناحية
التاريخية للباحثين والمتطلعين إلى معرفة شئ من هذه الحقيقة في تاريخ
بغداد حتى لا تنقطع سلسلتها وتنطوي صفحات كتابها ولعلي أيضاً قد
بذلت جهدا في هذا السبيل يحقق الغاية المتوخاة ويلقي ضوءا في ظلام
التاريخ القريب والله من وراء القصد .
تأريغ بناء مدينة بغدآد
ومن الأسماء التى أطلقت على مدينة بغداد اسم بغداذ وبغدان
ومغدان وبغداد والمنصورية نسبة لمؤسسها الخليفة المنصور واشتهرت
كذلك بدار السلام والزوراء ومما جاء في تاريخ الأمم والملوك للطبري
أن مدينة بغداد حين أمر المنصور ببنائها أراد أن ينظر إليها عيانا فأمر
أن تخط بالرماد ثم أقبل يدخل من كل باب ويمر في فصلاتها وطاقاتها
ورحابها وهي مخطوطة بالرماد ودار عليها ينظر إلى ما خط من
النفط فنظر إليها والنار تشتعل ففهمها وأمر أن يحفر الأساس على ذلك
الرسم ثم ابتدئ في عملها ء وقيل إن أبا جعفر لما أمر يحفر الخندق
وإنشاء البناء واحكام الأساس أمر أن يجعل عرض السور في أسفله
عام 6 ١ه وجعل أبوابها أربعة على تدبير العساكر في الحروب
وبنى قصره في وسطها والمسجد (الجامع) حول القصر ءوان الأستاذ
من البنائين كان يعمل يومه بقيراط فضة و(الروزركاري) أي العامل
اليومي بحبتين إلى ثلاث حبات وقد عمل في البناء نيف ومئة الف عامل
وتوسط قصر الخليفة (باب الذهب) أو (القبة الخضرآء) ولم يلبث
المنصور إن بنى قصر الخلد ؛ والواقع أن المنصور هو باني القسمين
الغربي والشرقي من بغداد على كلتي الضفتين وتوالى خلفاء العباسيين
قبلة العلماء ومحطا للناظرين+
ولعل أصدق وصف لما بلغته بغداد من شأو في ذلك الزمن ما جاء
في كتاب (الأعلاق النفيسة) لابن رسته إذ يقول إنها وسط الدنيا وسرة
الأرض والمدينة العظمى التى ليس لها نظطير في مشارق الأرض
ومغاربها سعة وكبرآ وعمارة سكنها أصناف الناس من جميع البللدان
وهي مدينة بني هاشم ودار ملكهم ومحل سلطانهم وباعتدال هوائها
حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والنظر والتميز ٠
وذكر الجاحظ في بغداد على لسان بعض الجند إنها الدتيا كلها
ووصف ابن خلكان وابن الأثير لشارع أبي جعفر انه أحسن ما
يكون واحفله من الشوارع واتساع بلغ آنذاك أربعين ذراعا طوله مسن
دار الخلافة إلى محلة باب الشام على استقامة واحدة ليس في الإمكان
انتج متهاً,
وجاء في مقدمة ابن خلدون وصف لبغداد في ذلك العصر ولبغداد
ذلك نزهة متصلة من المساجد التي يخطب فيها وتقام فيها الجمعة أحد
عشر مسجدآ منها بالجانب الغربي ثمائية وبالجانب الشرقي ثلاشة
بغداد كثيرة وهي من أبدع الحمامات وأكثرها مطلية بالقار مسطحة به
فيخيل لرائيه انه رخام اسود وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة
والبصرة تنبع أبدا به ويصير في جوائبها كالصلصال وفي كل حمام
حائطها مما يلي الأرض والنصف الأعلى مطلي بالجص الأبيض
الناصع الضدان بها مجتمعان مقابل حسنهما ؛ وفي داخل كل خلوة
حوض من الرخام فيه أنبوبان أحدهما يجري بالماء البارد ٠
هذا قليل من كثير مما جاء عن بغداد في كتب التأريخ وقد أرخت
عام بناء مدينة بغداد بقولي :
بغداد مشرقة وفي إشراقها عمّ الصفاء
فيها الخلافة والتق٠ فة والضيافة والسخاء
قد شادها المنصور لما ضاق بالوطن الفضاء
وسعى لنهضتها فلم يوقفه كدُ أو عناء
فالكرخ يزهو والرصا فة منعش فيها الهواء
غتت بمربعها القيا ان وقد سما فيها الغناء
وبنى الحصون لكي تؤ من في المقاصير النساء
مذ راق صرح بنائها تاريخها نجز البناء
سيرة الولاة العثمانيين وإصلاحات
انتزع العثمانيون بغداد من أيدي الفرس الذين حكموها من سنة
احتلالها من قبل الجيش البريطاني وقد تولى ولاة كثيرون وهم في
الغالب من ذوى العقليات الصغيرة الضيقة ولم يكونوا من ذوى النزعة
الإصلاحية فتركوا بغداد في غمرة من الفقر والجهل والمرض والحالة
الاقتصادية المتدهورة وكان الشعب يعاني ألوانآ من الاضطهاد
والاستبداد والتعسف ولم يكن هم الولاة إلا جباية الضرائب وجمعها
وإرسالها إلى عاصمة السلطنة العثمائية أستانبول ٠ ولكن بعض الولاة
وهم أفراد قلائل يبذلون جهودآ في نشر العلم وتكريم رجاله كما أن
أغلبية الشعب كانوا كالبقرة يستدر لبنها ويؤكل لحمها لا إرادة لها في
شئون السياسة ولا سلطان لهم في حكم أنفسهم ولا يرتفع لهم صوت إلا
في النادر وقد كان مصير من يدعو إلى الإصلاح والتحرر الاضطهاد
والسجن والنفي فكانت طبقات هذا الشعب من علماء وحكام وتجار
وزارعين وملاكين وفلاحين وعمال مسخرين جميعا لخدمة السلطة
والعمل على تثبيت قدمها وليكن الشعب بعد ذلك في ظلام دامس ونوم
عميق وسبات مطبق حتى ظهور الوالي مدحت باشا في عهد السلطان
عبد العزيز بن السلطان عبد المجيد.
وفي 8١من شهر المحرم سنة 7ه يقابلها سنة 1854م
استقبلت بغداد طلائع عهد جديد أعقبه تباشير نهضة شاملة انتشرت
بسرعة في أطراف العراق.
مشاريع مدحت باشا:
قام مدحت باشا في أول يوم تسلمه منصة الحكم بحملة إصلاحية
واسعة النطاق مستنيرا بعقله الراجح وثقافته العالية؛ وبذر بذور صالحة
في تربة بغداد البكر فقامت في غضون ثلاث سنوات من حكمه مشاريع
عمرانية وثقافية دلت على عظمته وحسن إدارته وسنذكر هذه المشاريع
واحدة بعد الأخرى.
كان لمدحت باشا مشاريع لها مكانتها تستحق الذكر وقد أراد أن
يدون ما يقوم به من المشاريع النافعة والأعمال الخالدة فاصدر جريدة
باسم الزوراء في وقت كان العراق لا يعرف عن الصحافة شيئا وقد
صدر العدد الأول منها في بغداد نهار الثلاثاء #ربيع الأول سنة
١ه يقابلها سئة 1874م وكانت تنشر في اللغتين التركية والعربية