تجمع هذه الوقائع والقوانين بقصد تحديد العلاقات المتداخلة بين هذه القوانين
بعضها والبعض الآخر وينتهي به الأمر إلي وضع تصور عام يعتمد علي
القوانين التجريبية بالنسبة لموضوع الدراسة في هذه النظرية.
وتستمد النظرية قوتها أو ضعفها من خلال قدرتها علي التفسير
والتنبؤٌ وحل المشكلات التي تواجه الإنسان في مجال معين؛ وهذا يصدق
فالأمر هنا يختلف؛ ومرد الخلاف يرجع إلي أن طبيعة الظاهرة السلوكية
هناك احتمالات كثيرة للخطأً في التفسير وضعف ملحوظة في القدرة علي
التنيؤ وفشل محتمل في حل المشكلات المتعلقة بها.
وننتهي مع ما ذهب إليه الدكتور سيف الدين فهمي حيث ينتهي إلي
خليط من الأفكار الميتافيزيقية والأحكام القيمية والنتائج النظرية القائمة علي
أسلوب تجريبي أمبيريقي حديث وهي لا يمكن حتى الآن أن ترقي لمستوى
النظرية في مفهومها العلمي الخالص كما نشاهدها في العلوم الفيزيائية
والكيميائية فهي لا تتضمن أي بناء تصوري متميز في خصائصه المنطقية
فسرت مفهوم الطبيعة الإنسانية مع بيان أن كل من كتب عن مفهوم الطبيعة
الإنسانية من الفلاسفة المسلمين وغير المسلمين قد ركز علي جوائب وأهمل
جوانب أخرى؛ وقد استطاعت الدراسة الحالية أن تتوصل إلي مكونات
المفهوم الشامل للطبيعة الإنسانية في القرآن الكريم؛ حيث أكد المولى عز
وجل أن الإنسان كائن بشري يتكون من جسم وعقل ونفس وعاطفة وروح»؛
إلي جانب أنه كائن اجتماعي. وأنه خليفة الله في الأرض؛ ولديه القدرة للتعلم
والعمل والجدل؛ وأنه جبل علي العجلة والتسرع وأنه حمل الأمانة وغيرها
من المكونات الأخرى التي تكون مفهوم الطبيعة الإنسانية في القرآن الكريم.
وبتحليل آراء الفلاسفة حول مكونات مفهوم الطبيعة الإنسانية نجد أن
آراءهم تدور حول أربعة محاول هي:
1- هل مكونات الطبيعة الإنسانية ثنائية أم أحادية؟ وستتم دراسة هذا المحور
عند قدماء المصريين وفي الحضارة الصينية القديمة؛ وفي الفكر
الإغريقي؛ وعند المسيحيين وعند فلاسفة المسلمين.
2- هل مكونات الطبيعة الإنسانية خيرة أم شريرة؟ وستتم دراسة هذا المحور
من خلال النظرة الطبيعية الإنسانية علي أنها خيرة كما نظر إليها سقراط
نظر إليها بعض رجال الدين المسيحي؛ وتوماس هويز؛ وهربرت سبنسر.
3- وهل ترجع بعض مكونات الطبيعة الإنسانية إلي الفطرة في حين ترجع
مكونات أخرى إلي الاكتساب؟؛ وستتم دراسة هذا المحور من خلال النظر
للطبيعة الإنسانية علي أنها مجموعة من الغرائز التي توجه سلوك الإنسان
وتسيطر عليه وهي تؤكد أهمية الوراثة؛ وتغفل المكونات الأخرى التي
4- هل مكونات الطبيعة الإنسائية فردية أم مجتمعية؟ ؛ وستتم دراسة هذا
المحور من خلال النظر للطبيعة الإنسانية من خلال تفاعلها في إطار
النظام الاجتماعي فالإنسان لا يمكن فهمه في نظر هذا الفكر الفلسفي إلا
من خلال التطور التاريخي الذي يمر به مجتمعه.
وستحاول الدراسة الحالية أن تستعرض أهم الآراء التي أكدها
الفلاسفة والعلماء حول مكونات مفهوم الطبيعة الإنسائية في إطار هذه
المحاور الأربعة.
النظرة الثنائيةلمكونات الطبيعة الإنسانية
أكدت هذه النظرة علي أن الإنسان يتكون من جانبين رئيسيين هما
الجانب المادي والذي يشمل الجسم أو البدن؛ والجانب غير المادي ويشمل
العقّل أو النفس أو الروح؛ ويعني هذا التمييز وجود انفصال بين هذين
وقد ميز الفرق التقليدي بين العقل و الجسم؛ واعتبر أن العقل أسمى
مثالي سماوي؛ والجسم ينتمي إلي عالم الواقع المتدني؛ ومن ثم فإن العقل هو
القادر علي كبح جماح الشهوة في الجسم؛ وأنه إذا كان العقل ينتمي إلي هذا
العالم العلوي فأنه يتفق في خصائصه معه؛ وهكذا بالنسبة للجسم فانتماؤه إلي
وتعد النظرة الثنائية من أقدم النظرات التي فصلت بين عقل الإنسان
- أو روحه أو نفسه - وبين جسده وأول من قال بها قدماء المصريين وعنهم
أخذ الإغريق وجهة النظر هذه؛ ومن هذه النظرة الثنائية لمكونات مفهوم
الطبيعة الإنسائية تولدت فكرة عودة الروح إلي الجسد بعد الموت عند قدماء
المصريين؛ وفي ضوئها بنيت الأهرام والمقابر ووضعت مع جثث الموتى
بعض أدوات الزينة عندهم ليتمكنوا من استخدامها بمجرد عودة الحياة إليهم؛
وقد ظهرت الحاجة إلي التحنيط لمحاولة المحافظة علي الجسد سليما حتى
تعود إليه الروح.
وظهرت النظرة الثنائية للطبيعة الإنسائية بعد ذلك في جنوب شرق
آسيا في الديانات الهندوصينية القديمة كالكونفوشيوسية والبوذية والتاوية؛
وكذاك الديانة الزرادشتية في بلاد فارس وانتقلت هذه النظرة الثنائية إلي
التربية؛ حيث كان هدف التربية في تلك المجتمعات هو التدريب العلمي علي
التنسك والرهبنة كبتا للجسد وشهواته وغعلاء للروح في صعودها وهبوطها
إلي السماء.
أما في الفكر الإغريقي ؛ فإن أفلاطون قسم مكونات الطبيعة الإنسانية
إلي قسمين روح متمثلة في النفس أو العقّل؛ ومادة متمثلة في البدن أو الجسدء
غير محدودة بحدود الزمان والمكان؛ بل هي كائنة منذ الأزل مع عالم
الأفكار أي المثل؛ وهذه الروح كانت تعرف الحقائق والمثل العليا عندما
كانت تعيش في عالمها المثالي؛ أما عند ولادة الإنسان فالأفكار تصبح غير
واضحة نتيجة اتصال الروح بالجسد ونتيجة انتقالها من عالم المثل إلي عالم
ويموت ويتحرك في إطار مكاني معلوم؛ ومن ثم فهو جزء من العالم المادي
يتميز مثله بعدم كمالة أو تمامة ؛ وأن الجسم هو الذي بعطل عمل العقل
ويقف حائلا بينه وبين الاتصل بالعالم الآخر وعلي الإنسان أن يقهر الجسم
وقد نظر أفلاطون إلي القوى التي تحكم طبيعة الإنسان فقسمها إلي
ثلاث قوىء الأولى هي قوة العقل وبه يتم التعلم؛ ويأتي في المنزلة العلياء
وتنزع هذه القوة للفكر والتأمل ومركزها الرأس أو المخ؛ والقوة الثائية
يتحمس بها الإنسان ويغضب؛ وتأتي في المنزلة الوسطى من القوى وتنزع
إلي القتل والحرب والدفاع ومركزها القلب أو الصدر؛ والقوة الثالثة هي قوة
الشهوة كشهوة الطعام وشهوة الشراب والشهوة الجنسية؛ وهي تأتي في
المنزلة السفلى من القوى وتنزع إلي النزوات والأهواء الدنيا ومركزها
البطن أو أسفل البطن؛ وجميع هذه القوى تتصارع وتتفاعل في النفس
الإنسانية وقد تغلب أحداهما القوتين الأخرتين فينزع الإنسان نزوعا معيناء
فإذا فازت قوة الشهوة نزع الإنسان إلي التماس الشهوة وهبط إلي مستوى
الحيوانية والشهوائية؛ وإذ غلبت قوة الغضب القوتين الأخيرتين تحقّق في
النفس النظام والصلاح وتناسب العلاقة بين القوى الثلاث ويعتبر العقل هو
الجزء الوحيد في الطبيعة الإنسائية الذي يتصل بالروح أما الجانبان الآخران
ويرى أنصار النظرة الثنائية أن الإنسان يعتبر عقلا محمولا علي
جسم وأن هذاالعقل يسمو علي الجسم بقدرته علي الاتصال بالأفكار الخالدة
المستمرة غير المتغيرة التي توجد في العالم العلوي ووظيفته ضبط شهوات
هذا الجسم ونزواته؛ كما تؤمن النظرة الثنائية بوجود أفكار عامة ثابتة مطلقة
وهذه وجدت بطريقة ما من قبل عقل عام أو روح عام أو قوة خارقة؛ وهذه
الأفكار تشمل كل ما هو حقيقي ووظيفة العقّل البحث عن المعرفة والحقيقة
المطلقة التي ينطوي عليها الكون حيث يمكن التعرف عليها من خلال
الحواس الإنسانية باعتبار أن العّل هو الأداة القادرة علي الحكم علي مدى
تطابق الأشياء لأصولها الأزلية الأولى.
الخير والحق والجمال وعلي الحقائق المطلقة؛ وأن هذا العالم بعيد عنا لأننا
وكأننا أشباح أو ظلال طالما توجد في العالم الآخر؛ فإن العالم المثالي أسسى
يعطل عمل العقل ويقف حاثئلاً بينه وبين الاتصل بالعالم الآخر؛ وأنه إذا
شهواته؛ ولذلك أصبح كل ما يتصل بالعقل ساميا وكل ما يتصل بالجسم
وقد انعكس مفهوم الطبيعة الإنسائية المنظور الثنائي علي التربية إذ
هدفت التربية إلي تنمية الجانب العقلي للإنسان؛ وأن هذه التنمية يجب أن تتم
من خلال الفكر المجرد والبعد عن الواقع والخبرة البشرية وذلك لاتصال
العقل بعالم الحقيقة العلياء وأنه نظرٌ لأن العقل الإنساني هو الصفة المشتركة
لجميع الأفراد في أي زمان ومكان وهو الذي يميز الإنسان عن سائر
الكائنات الحية الأخرى. فإن علي التربية أن تكون واحدة في جميع
المجتمعات؛ وعلي ذلك فإنه يمكن قيام نظام تربوي يعبر عن الطبيعة
الإنسائية المشتركة ولا يتأثر باختلاف النظم الاقتصادية والاجتماعية.
وبذلك يتبين لنا أن أفلاطون اتخذ من تربية الجسد وسيلة لالصعود
بالروح إلي آفاق السماء؛ إذ لا تستطيع الروح أن تنهض بدون جسدهاء ومن
ثم كان علي الروح أن تقود الجسد في الحياة لتلحق به في آفاق السماء لا أن
العقول غير قادرة علي أن تحمل أجسادها -في نظر أفلاطون - لتحلق بها
الأحرار القادرة بطبيعتها علي التحليق وأن اختلفت إمكانياتهاء وطبقة العبيد
التي "لا تستلع لشيء إنساني علي الإطلاق
ثم جاءت بعد ذلك المسيحية وأكدت هذه النظرية الثنائية للطبيعة
الإنسان أقرب إلي الشر والخطيئة لأن الطبيعة المادية للجسم فرضت عليه
ذلك في حين أن الروح لابد لها أن تتطهر من هذا الشر عن طريق
الخلاص؛ وترتبط هذه الفكرة عند المسيحية بخطيئة آدم الكبرى وأن زله آدم
يستحق عذاب الله الأبدي؛ وعليه فمن الضروري أن يكفر عن خطيئته
ولرحمة الله سبحانه وتعالى به فقد أرسل الله ابنه المسيح ليخلص الإنسان
وليغسل خطيئته وذلك بموته علي الصليب فداء له.
وترى المسيحية أن الإنسان قد ورث عن آدم خطيئة الجسد؛ فالجسد
هو مصدر الشهوات والنزوات ويشجع الإنسان علي الفساد والضعف
علي الإنسان؛ فإنه يفقد صلته بالربء ويصبح أقرب إلي السائمة؛ وترتبط
هذه النظرة أيضا بفكرة المسيحية عن العالم السماوي العلوي والعالم المادي
التحتيء والأول أسمى لأنه يحتوي علي الحق والخير والجمال؛ أما الثاني
وخروجه من الجنة عقابا له؛ وأن العقل طبقا لهذه النظرة المسيحية للطبيعة
الإنسانية ينتمي إلي العالم السماوي؛ والجسم ينتمي إلي العالم المادي.
وانعكست تلك النظرة المسيحية للطبيعة الإنسائية علي التربية؛ حيث
أخذت اتجاها روحيا يقوم علي التنسك والرهبنة لكبت الشهوات والسمو
بالجسد حتى يستطيع أن يرتفع مع الروح إلي أعلى؛ وحول التنسك والرهبنة
كبتا للشهوات دارت فلسفة التربية المسيحية في العصور الوسطى وانطلاقا
من ذلك. فإن الجسد يعطل عمل العقّل ويحول دون وصولة إلي العالم
السماوي؛ وعلي العل إذا اراد أن يقهر الجسم ويتغلب عليه أن يسيطر علي
ذلك أن تلك النظرة المسيحية قد انعكست علي العلوم التي تدرسها حيث
أعلت من جانب العلوم النظرية التي من شأنها تدريب العقل والتقليل من شأن
الحرف والمهن التي تتطلب جهودا بدنية.
وبتحليلنا لكتابات فلاسفة المسلمين عن مكونات الطبيعة الإنسائية نجد
وإخوان الصفا والغزالي وابن رشد والرازي؛ وبصفة عامة فقد تاثر فلاسفة
المسلمين في تحليلهم لمكونات الطبيعة الإنسائية باتجاهين هما اتجاه أفلاطون
واتجاه أرسطو؛ وذلك أمر طبيعي بعد أن انتشرت حركة الترجمة عن
- اتفق كل من الكندي والفارابي وابن رشد علي تعريف النفس الإنسائية
بأنها: استكمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة وهي صورة الجسد
وهي جوهر بسيط روحاني مباين للجسد؛ علي حين ذهب ابن سينا إلي
أن النفس الإنسائية هي:
إستكمل أول لجسم طبيعي آلي ينمو ويتغذى ؛ بينما ينظر الغزالي
للنفس الإنسائية علي أنها "الكمل الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل
الأفاعيل بالاختيار العقلي والاستنباط بالرأي من جهة ما يدرك الأمور الكلية؛
وفي معرض إثبات الغزالي لوجود النفس فأنه ذهب إلي أننا نصائف الأجسام
كلها مشتركة في صفة الجسمية بحيث نستطيع أن نفرض فيها جميعا الأبعاد
الثلاثة. الطول والعرض والعمق؛ غير أننا نلاحظ أن هذه الأجسام تتمايز