وإذا حاولنا استجلاء عظمة القرآن وخلوده وشموله
وعالميته ودلائل سلطانه وهيمنته على جميع الكتب والشرائع فى
مختلف الأعصار والأزمان ؛ تبين لنا على ضوء الفهم الإنسانى
على رسالة النبى محمد بَِثةٍ كلها مؤقتة بوقتها . وبحياة الرسل
بعد وفاة صاحبها ؛ نما ينفى عنها صفة الشمول ويحدد فاعليتها
الأخرى ؛ ويسلكها فى عداد الشرائع الممهدة لما بعدها +
والمنسوخة بالتالية لها ؛ لا يمارى فى هذا صاحب عقل سليم .
على الإسلام الذى جاء به النبى بم وافية بحاجات الإنسان »
ولاميرة لمواهبه كلها ؛ فقد كانت معجزة موسى من جنس
السحر الذى اعتقده قومه عاملًا من عوامل حمايتهم من الغوائل
فى الأمور الشخصية والسياسية على السواء , ولذلك كان
سبب فزعهم : أن يخرجهم موسى من أرضهم بسحرة ؛
ويذهب بطريقتهم المثلى التى اختاروها لإسباغ مظهر القوة
والهية عليهم وعلى مملكتهم . ٍِ
وأبطل موسى فريتَهُم فى اعتقادهم السحر حارساً للحدود
السياسية ؛ ومصدرا من مصادر القوة الشخصية . وزودهم
بأسفار وشرائع كانت صالحة لعصر موسى الذى بُعِتَّ فيه
(ا) صورة المومل 43 ( سورة الإسراء :98
اليهود بها شريعة موسى ؛ واعتقادهم فى أنفسهم أنهم الشعب
المختار , والسور الشامخ الذى أحاطوا به أنفسهم بحيث
وكانت معجزة المسيح من جنس الطب الذى يعنى بصحة
وفع المسيح ؛ وبطلت فاعليتها » واستمسك بنو إسرائيل بعالم
الوهم فأسبغوا على أحبارهم ورهبانهم خصائص اللَّه تعالى
محاولين أن يتشبثوا بأذيال البقاء تحت لواء شريعة منسوخة 6
ومن هنا فقدرا ' سمة الصيانة لوحى اللّه عن أهواء النفس 6
وشطط العقل ؛ فلم تعد شريعتهم صالحة لقيادة العالم
ولالإصلاح الخلل المُتَمكنْ فى قلوبهم .
ثالفاً : اتجه القرآن الكريم إلى بناء شخصية جديدة أنسان
حضارة الإسلام تتميز بالعمل والفدائية والقوامة على الأجيال .
لم يكن القرآن معجزة تهئ لأتباع محمد بَثه أن يعملوا
فى الدنيا على مقتضى الخوارق دون عمل إيجابى من جانبهم
كما صنع الله لبيه موسى حين شق البحر له ولقومه » وأغرق
لهم عدوهم - فرعون وملأه - بل كان القرآن يعمل على بعث
القوة المعنوية فى داخل الإنسان المسلم © ويزود المجتمع
بالتشريعات التى تجعل منه قوة لا يقهرها غالب من بنى الإنسان
إن هو أحكم سلوكه على هداه . وأعلن اللَّه تعالي أنه لوشاء
لانتصر للمسلمين من عدوهم : ل ولكن لبلا بسكم
بِبَعْضٍ ». أى : أن الإسلام والقرآن جاءا ليؤكدا القيمة
+ 4: سورة محمد )١(
العملية للبشر الموصول بحبل الله المتين ؛ من حيث كان الإنسان
المؤمن مسيراً بمحض الإرادة الإلهية فى الشرائع السابقة على
الإسلام فى موضوع الجهاد فى سبيل الله .
حياة للنفوس وكاشفاً عن مواهب المؤمنين ؛ وسجلًا جامعاً
للشرائع النابعة من فطرة اللَّه فى الإنسان حيثما كان وأينما
وُجِدَ ؛ ودام القرآن بعد انبى محمد بلَدِ بنفس القوة والفاعلية
والصيانة من العبث ؛ وغزا جوانب الفكر العالى كله +
وكان حياة للروح من حيث يبلى الجساء » لاسيما وأن وعد الله
بحفظ القرآن من عبث الهوى وشطط العقل قد تحقق بطريقة
منهجية عجية على يد أبى بكر » إذ كرد لجنة من كبار
حياة الرسول عت للقرآن » ثم أعيد تحقيق المخطوطات القرآنية
لتداولة فى الأمصار مرة أعرى على عهد عثمان ؛ واتفقت
الكلمة على تدوينه بلهجة قريش » وإلغاء ما ذُوْنَ منه بلهجات
أخرى , لتلا يختلف المسلمون فى المعانى لاختلاف اللهجة فى
مستقبل الزمان البعيد .
رابعاً : ومن وجهة المزلة الخاصة للأنبياء والتى تتبع
رسالاتهم ومعجزاتهم فقد كانت منزلة النبى محمد لل فوق
كل المنازل . فلئن كان موسى كليماً فقد صعق حين تل ريه
للجبل , وقرب اللَّه رسوله محمداً يدِ للنجوى ليلة المعراج دون
أن يصعق ؛ ولئن كان المسيح أحيا الأجساد فقد أحيا النبى عََِهِ
بالقرآن موات النفوس . وهدى حائر العقول ؛ ولئن سخر
للَّه الريح لسليمان فقد اخترق محمد بَِثةِ السبع الطباق » ولئن
انشق البحر لموسى فقد عبر القرآن امحيطات ؛ واجتاز الوعر
والسهل .
اللَّه ؛ ومن ثم تكون مكانة العاملين على خدمته ؛ الدائبين على
الكشف يكون استمساك اتباع القرآن به ؛ ويكون إصرارهم
على العمل بمقتضاه ؛ ويكون لهم من قوة الإيمان ما يؤهلهم
للمهمة التى كلفهم اللَّه تعالى به : أن يكونوا خير أمة أخرجت
للناس ؛ وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر على المستوى
المحلى والعاللى على السواء +
فالقرآن هو الذى بقى من الكتب السماوية منضبطاً فى
صورته ؛ واضحاً فى معالمه ا كل الغلبة على محاولات
التزييف فى الشكل أو المعنى رغم الجهود المضنية التى بذلت فى
مأخذ الحفظ والعلم والعمل » فأحاطوة رهم وجداناً +
ولقد أراد اللّه تعالى أن بيقى القرآن وثيقاً كل الوثاقة فى
نصوصه ؛ وسلوك الصحابة على صراطه ؛ لأنه منهاج دعوة
ودستور حياة للفرد والدولة جميعاً . فهو منهاج دعوة من حيث
نزوله على مدى عشرين عاماً من الزمان على مقتضى الظروف
والأحوال التى يقتضيها بناء أمة قرآنية مجاهدة مظفرة ؛ ترتفع
من حضيض الشرك والفوضى والإثم إلى قمة الإيمان والنظام
وطهارة القلب واليد والجسد ؛ ولم يكن بناء هذه الأمة على
هذه الصورة إلّ ثمرة للقدوة السلوكية والدعوة مجتمعين .
وترك لإبقاء الإيمان فى القلوب على درجة من القوة والفاعلية
ترفع طلائع الإسلام إلى الدعوة بالقول والعمل . فالعبادة فى
الحقيقة وسيلة تربية وإعداد وبناء لإنسان الحضارة القرآنية ؛
نفس ولاغيرة من لسارها وهو انحراف عن السئن المشروع
الذى علّمه الرسول حر لأصحابه فى صدر الدعوة ؛ ثم بات
ُرُ (التقوقع ) والانزواء فى عصر التابعين وفى حياة المعمرين
من الصحابة أنفسهم . ومن أمثلة ذلك ما روى الشعبى ٠: أن
ماحملكم على ما صنعتم ؟ فقالوا : أحينا أن نخرج من غمار
الناس تتعبد , فقال عبد اللَّهِ : لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم +
الرسول جلث ؛ ومن تجربة ممائلة حاول القيام بها عثمان بن مظعون
الصحابى 0 من أصحابه فنهاهم الرسول بن ؛ وأنار
لهم طريق القرآن الحق .
لن يكون الإنسان المسلم التابع للقرآن عاملا بأمر ربه إلا إذا
ا "م إلى الله 0
بل إن الإمام الشاطبى لم يجعل من قاعدة فرض الكفاية فى
(ا) سورة الأحزاب ؛ 145 (1) سوزة قصلت :ل
الدعوة ذريعة إلى قعود الباقين عنها إذا أقامها البعض حين قال فى
مرافقاته : ١ القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة ؛ فهم
مطالبون بسدها على الجملة ؛ فبعضهم قادر عليها مباشرة ©
على إقامة القادرين . فمن كان قادرا على الولاية فهو مطلوب
بإقامتها ؛ ومن لا يقدر عليها مطلوب بإقامة القادر وإجباره على
القيام بها » إذ لا يتوصل إلى القيام إلا بالإقامة » من باب
وإذا كانت تجزئة القرآن فى النزول على أكثر من عشرين
عاماً كافية لدراسة منهج الدعوة القرآنية من خلال هذا امنهج
النزولى لإنشاء أمة مؤمنة لم تكن مؤمنة من قبل فإن جمع
القرآن فى المصحف على ترتيب آخر غير ترتيب النزول بأمر
الوحى هو دستور حياة الأمة التى استجابت وآمنت بالفعل ©
ومنهاج دعوة فى أوساط تلك الأمة التى قامت دعائمها بالفعل
على أساس من الإسلام . ومن تأمل فى ترتيب النزول وترتيب
المصحف أذهله العجب من تلك الدقة البالغة فى كلا المتهجين +
وهو الأمر الذى سوف نحاوله إن شاء اللَّه فى الدراسة المقدمة
لكتاب ( أسرار ترتيب القرآن ) .
ولكن هذه الإشارة العابرة ؛ وما سوذ
ماهو إلا ضوء قليل على الطريق ؛ نرجو أن يواصله القادرون
من المؤمنين ؛ ويتعهدوه بالدرس والبحث والنشر لخدمة القرآن
الذى لم تكشف كل أسراره بعاد .
الدراسات القرآنية وأهميتها :
لقد أجاد الباحثون فى أرجاء القرآن فيما عدا الباحثين عن
إعجازه فإنهم لم يصلا إلى تقظع الصراب: فى هذا المضمار .
لقد أجاد اللغويون بحث القرآن من وجوه العربية إجادة
مثلة فى تفسير أبى السعود العمادى , وأثير الدين أبى حيان »
وجار الله الزمخشرى , وأجاد الباحثون فى الأحكام إجادة
مُمثَلٌَ فى تفسير القرطبى وشيخه ابن عطية ؛ والتخصصون فى
أحكام القرآن كابن العربى والجصاص والكيا الهراسى
(ولا زال كتابه مخطوطاً » . وأجاد الباحنون فى أخبار القرآن
وسننه النبوية ؛ وكان رائدهم فى هذا الباب ابن جرير الطبرى
مخطوطاً ) كما أسهم علماء الفلسفة والكلام فى فهم القرآن
من وجهة نظرهم فهماً مثلًا فى تفسير فخر الدين الرازى +
وأدلى الصوفية بدلائهم أيضاً ؛ فكان تفسير القشيرى وحقائق
التفسير للسلمى . وروح البيان للشيخ إسماعيل حقى وإعجاز
البيان للقونوى ؛ وتفسير النخجوانى
وهكذا الشأن فى جميع العلوم والفنون ماعدا إعجاز
جهودهم للكشف عنه .
ولقد حاول أبو السعود العَمادى , وأثير الدين أبوحيان +
وجار اللَّهِ الزمخشرى الكشف عن بعض جوانب الإعجاز فى
القرآن المناسبة لمن نزل عليهم القرآن من فصحاء العرب -
هم المقصودون أل بالإعجاز - فوْفُْوا فى حالات معدودة ؛ ثم
تكلموا عن عظمة الأساليب القرآنية من وجوه غير وجوه
الإعجاز فى باقيها ؛ وإنما من وجوه البلاغة التقليدية . ومع
دون أن يطبقه على تفسيره كله وذلك حين يقول : ١ إن جميع
القالات المقولة فى القرآن الكريم إنما تحكى بكيفيات
واعتبارات لايكاد يقدر على مراعاتها من تكلم بها حتماً »
وإلَّ لأمكن صدور الكلام المعجز عن البشر » .
لايشذ منها اعتبار واحد ؛ ولا كيفية واحدة هو مقطع الحق فى
مسألة الإعجاز دون مراء .
وتلك الاعتبارات والكيفيات قد تكون ذات جوانب
الذوق من كل نفس ؛ فيكون منه حبور وارتياح لا نجد له نظي
فى أسلوب آخر لا تراعى فيه تلك الكيفيات وقد تكون نفسيّة
تتصل بحركات النفس وانفعالاتها ؛ وقد تكون من باب
التشريع والتقنين وغير ذلك من الاعتبارات ولكن الهم هو
استقصاء القرآن لإثبات أنه أسلوب لم يشذ مرة واحدة عن
الكلام البشرى ؛ وذلك الكلام الذى لا يوجد من أنموذج واحد
فيه هنات من إغفال اعتبار ؛ أوإهمال كيفية .
وهذا المقياس من مقابيس الإعجاز هو المقياس الذى
لاتختلف فيه الطوائف . فمقياس علم البيان مما تختلف فيه
الأذواق ؛ ومقياس التشريع ما تختلف فيه الأجناس بالطواعية
والعاد » اللهم إل هذا المقياس الذى أشرنا إليه والذى يستبطن
مقياس الموسيقى اللغوية ؛ فهو ما تتفق فيه الآراء ولا تقوى أعتى
الطبائع عناداً على إنكاره وعدم الاستجابة لجمال البيان فى
لقد أنكر كفار مكة مميزات القرآن , ولكن أثره فى الذوق
هو الذى جعل الوليد يعلن على الملا : « إن له لحلاوة » وإن
بقول البشر » ٠
فهل كان إحساس الوليد هذا نابعاً من عظمة التشريع
أومن جودة التشبيه أو نضرة الاستعارة ؟ لم يكن شىء من هذا
هو مصدر إعجاب العرب ممثلا فى الوليد » بل هو الذوق الذى
سنتحدث عنها عدد الحديث عن كتاب البرهان أوأسرار
على أن هذا الباب ليس هو الباب الوحيد الذى يلوح منه
إعجاز القرآن , فهناك إعجاز الترتيب الذى يجده القارئً
مفصلًا إن شاء الله فى الدرامة المقدمة لكتاب « أسرار ترتيب
القرآن » للسيوطى ؛ وهناك إعجاز العقول البشرية كلها فى
تاريخها الغابر واللاحق بصلاحية القرآن وحده للقيادة السياسية
والاقتصادية والاجتماعية فى جميع البيئات ؛ وضلال الفكر
الإنسانى المجرد فى هذا الصدد » وهناك إعجاز القرآن من حيث
هو الفطرة التى لاتتبدل ؛ والتى يقاس بها الفكر البشرى
للتعرف على الخطأ والصواب ؛ إلى غير ذلك من نواحى
الإعجاز التى يصعب حصرها فى هذه العجالة -
وإذا تفجرت القوة من مظنة الضعف كان ذلك أدخل فى
باب الإعجاز » وأعلا كعباً فى باب البلاغة والتحدى ؛ ولا نعلم
مظنة للضعف أظهر من التكرار وهو الباب الذى حاوله
الكرمانى تاج القراء فى « كتابه البرهان » فأجاد بحق وأفاد .
أقول : إن العصر بحمد اللّه عصر قد أقبل فيه الإيمان
وأدبرت فلول إلحاد كانت قد تسللت كما تتسلل الجرذان بين
الخرائب وأكداس القمامة لا يحلو لها إلا أن تسكن العفن من
العقول وتستمكن إلا من دنس الطباع ؛ وقد أراد اللّه تعالى أن
يتفجر نور الإيمان من جديد فى أرجاء أرض الإسلام ؛ ولكن