فمحله المنطقٌ المشوبُبكلام الفلاسفة الباطل .
ومن المعلوم أن فن المنطق منذ تُرجم من اللغة البونانية إلى اللغة
المنطقيين في ما جاؤوا به من الباطل إلا من له إلمام بفن المنطق -
وقد يعين على رد الشبه التي جاء بها المتكلمون في أقيسة منطقية؛
فزعموا أن العقل يمنع بسببها كثيرًا من صفات الله الثابتةٍ في الكتاب
والسنة؛ لأن أكبر سبب لإفحام المبطل أن تكون الحجة عليه من جنس
ما يحتج به؛ وأن تكون مركبة من مقدمات على الهيأة التي يعترف
الخصم المبطل بصحة إنتاجها.
ولاشك أن المنطق لو لم يترجم إلى العربية ولم يتعلمه المسلمون
ولكنه لما ترجم وتُكُلّم؛ وصارت أقيسته هي الطريق الوحيدة لنفي
بعض صفات الله الثابتةٍ في الوحيين» كان ينبغي لعلماء المسلمين أن
نفيهم لبعض الصفات؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم
وإلزامهم الحق.
واعلم أن نفس القياس المنطقي في حد ذاته صحيح النتائج» إن
ذلك الملزوم» مع أنه لا ملازمة بينهما في نفس الأمر البتة.
يخالف النقل الصريح +
وإيضاحه باختصار أن القياس المنطقي نوعان:
الأول ووجهٌ الحكم العقلي بصحة إنتاج الشكل الأول هو أن الحد
الأصغرٌ إذا اندرج في الحد الأوسط + واندرج الأوسط في الأكبر لزم
عقلاً اندراج الأصغر في الأكبر» وهذا أمر عقلي لاشك فيه؛ ولا يتغير
بتغير الزمان؛ لأنه حكم عقلي قطعي ثابت.
واستثنائية فلا يُنتج منه إلا ضربان» وحاصلهما بالتقريب للذهن أن نفي
)١( وهو النوع الثاني من نوعي القياس» وسيأتي إيضاحه ص ١58 وما بعدها.
وكلاهما حكم عقلي قطعي ثابت لا يمكن تغيّره.
والمركب من شرطية منفصلة'" إن كانت حقيقية مائعةً جمع وخر
الآخر» ووجودٌ كل واحد منهما يستلزم نفي الآخر» وهذه أحكام عقلية
قطعية لا تتغير بحال.
والمركب من مانعة الجمع المجوزة للخُلْرَ يقطع العقل بصحة
إنتاج ضربيه المنتجين؛ لأن مائعة الجمع المذكورة لا تتركب إلا من
كان إثبات كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر؛ لأن إثبات ما هو
أخصنُ من النقيض يستلزم إثبات النقيض ؛ لأن ثبوت الأخصنٌ يستلزم
ثبوت الأعم بلاعكس .
وإذا ثبت النقيض عُلم انتفاءً نقيضه قطعاً؛ لاستحالة اجتماع
النقيضين» فتعين أن ثبوت كل واحد من طرفيها يقتضي نفي الآخر
الصحيح يقطع بصحة إنتاج الضربين المنتجين منه؛ وهما العقيمان في
الذي قبله؛ لأن مانعة الخلو المجوزة للجمع لا تتركب إلا من قضية
(1) يعني مع الاستنالية؛ انظر ترضيحه ص4 17
كل واحد منهما يقتضي وجود الآخر بلا عكس ؛ لأن نفي ماهو أعمُ من
لاستحالة عدم النقيضين مما .
فتبين أن نفي كل واحد من طرفيها يستلزم ثبوت الآخر بلا عكس»
وكلٌّ ماذكر بحكم العقل”''» وأنه لا يتغير بتغير الزمان.
وبعد الانتهاء مما لابد منه من فن المنطق نذكر جملا كافية من
آداب البحث والمناظرة؛ تُعين من تعلمها على تصحيح مذهبه وإبطال
مذهب خصمه. مع الآداب اللازمة لذلك» ثم نطبق ذلك في مسائلٌ من
القوادح في أصول الفقه؛ ومسائلٌ من مسائل الكلام التي نفى فيها
المعطلون بعض الصفات؛ ونوضح كيفية تصحيح الحق في ذلك
وإبطالٍ الباطل ؛ لأن تطبيق ذلك عملياً يفيد الطالب إفادة أكبر »
ونختتم الكلام بالمقارنة بين ما يسميه المتكلمون مذهبّ السلف
ومذهبٍ الخلف. مع إحقاق الحق وإبطال الباطل على الطرق المعهودة
بطريق المناظرة.
وهذا أوان الشروع في ذكر ما لابد منه من المسائل المنطقية .
المؤلف
١ أي وتبين أن كل ما ذُكر ثابت بحكم العقل.
مقدمة منطقية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
أنواع العلم الحادث
جل وعلا -؛ فإنه لا يوصف بصفات علم المخلوقين.
اعلم أولاً أنا تركنا الأبحاث في تعريف العلم ومناقشتها اختصاراً؛
ولأن طالب العلم يفهم المراد بالعلم.
اعلم أن العلم الحادث ينقسم أربعة أقسام؛ لأنه إما علم تصورء
فالمجموع أربعة؛ من ضرب اثنين في اثنين .
الثالث : علم تصديق ضروري»
الرابع : علم تصديق نظري ٠
واعلم أن علم التصور في الاصطلاح هو «إدراك معنى المفرد من
غير تعرض لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه»ء كإدراك معنى اللذة
ومعنى الكاتب.
فإدراك كل مفرد مما ذكرنا ونحوه - أي فهم المعنى المراد به ذلك
المفرد من غير تعرضٍ لإثبات شيء له ولا لنفيه عنه هو المسمى في
الاصطلاح بعلم التصور» وهو تفعّل من الصورة؛ فكأن صورة المفرد
والإدراك في الاصطلاح هو : «وصول النفس إلى المعنى بتمامه»؛
فإن وصلت إليه لا بتمامه فهو المسمى في الاصطلاح بالشعور.
وأما علم التصديق فهو «إثبات أمر لأمر بالفعل»؛ أو نفيه عنه
بالفعل» وتقريبه للذهن أنه هو المسمى في اصطلاح البلاغيين بالإسناد
الخبري؛ وفي اصطلاح النحويين بالجملة الاسمية التي هي المبتدأ
والخبر » أو الفعليةٍ التي هي الفعل والفاعل » أو الفعل ونائب الفاعل .
وإنما سمي تصديقًا لأنه خبرء والخبر بالنظر إلى مجرد ذاته
يحتمل التصديق والتكذيب؛ فسكّوه تصديقًا؛ بأشرف الاحتمالين.
وكون التصديق - الذي هو إدراك وقوع نسبة بالفعل أو عدم
وقوعها بالفعل - من أنواع العلم هو قول الجمهور؛ وهو الحق. وقد
واعلم أنه لا يمكن إدراك نسبة وقوع الأمر أو عدم وقوعها فعلاٌ إلا
بأربعة تصورات هي :
الأول : تصور المحكوم عليه الذي هو الموضوع .
الثاني : تصور المحكوم به الذي هو المحمول.
الثالث: تصور النسبة الحكمية التي هي مَؤرد الإيجاب والسلب
زيد؛ فإنه يتصور معنى زيد؛ ويتصور معنى القيام؛ ويتصور معلى نسبة
وجمهورهم يقول: إن التصديق بسيطء وهو التصور الرابع
وحده؛ والثلاثة قبله شروط فيه .
وقال الرازي”"": التصديق مركب. يعني أنه مركب من أربعة
يقولٌ هو بسيط يقول: توقفه على التصورات الثلاثة من توقف الماهية
على شرطهاء ومن يقول هو مركب يقول : هو من توقف الماهية على
)١( فخر الدين؛ محمد بن عمر بن الحسين الفرشي؛ توفي سنة 105ه؛ انظر سير
أعلام النبلاء (000/71).
فلم أن كل تصديق تصور وليس كل تصور تصديقاً.
واعلم أن الموضوع في اصطلاح المنطقيين هو المعروف في
المعاني بالمسند إليه؛ وفي النحو بالمبتداء أو الفاعل والنائب عن
الفاعل .
وفي النحو بالخبر» أو الفعل .
وإنما سمي الموضوع موضوعًا لأن المحمول صفة من صفات
لابد له من فاعل» فالأساس الذي وضع لإمكان إثبات الصفات أو نفيها
وسُمّي الآخر محمولاً لأنه كسقف البنيان» لابد له من أساس يبنى
يسند إليه من صفات وأفعال محمولاً؛ لأنها لا تقوم بنفسهاء فلابد لها
من أساس تُحمل عليه.
وإذا عرفتَ المراد بالتصور والتصديق» وأن كل منهما يكون
+87 انظر للأهمية ما سيذكره المؤلف عن الموضوع والمحمول ص )١(
ضرورياً ونظريّاء فاعلم أن الضروري في الاصطلاح: «مالا يحتاج
إدراكه إلى تأمل»؛ والنظري في الاصطلاح هو : «ما يحتاج إدراكه إلى
فالتصور الضروري كتصور معنى الواحد ومعنى الاثنين.
والتصديق الضروري كإدراك أن الواحد نصفُ الاثنين» وأن الكل
أكبر من الجزء.
والتصور النظري مثل له بعضّهم بتصور الملائكة؛ والجّنّة؛ فإنه
[نظري]!'"» ومن أمثلته: تشخيص الطبيب لعين [المرض]!"؛ فهو
تصور له بعد بحث وتأمل ونظر.
والتصديق النظري كقولك: الواحد نصف سدس الاثني عشر»
ورب ع عشر الأربعين. ِ
والنظر في الاصطلاح : «الفكر المؤدي إلى علم أو غلبة ظن».
والفكر في الاصطلاح: «حركة النفس في المعقولات»؛ أما
واعلم أن الطريق التي يُتَرَصَّلُ بها إلى إدراك التصور النظري هي