لقد اقتضت حكمة الله عز وجل - أن يستخلف بنى آدم على هذه
ليحقق الإنسان مهمة الاستخلاف فيها بإعمارها : ف هُو ناكم من
بدن 94 .
فأنزل الله للإنسان شرعاً ينظم أموره ويرسم طريقه بواسطة الرسل :
1 فى فطرة البشر قابلية التفكر والتدبر :
ومن جوانب هذه القابلية إدراك العلاقة بين المؤثرات وأسبابها ؛ وبين الأمور
وعللها والإحساس بالتشابه والاختلاف وبالتمائل والتنافر » وتفهم الربط بين
أو غير مادية ٠
ولهذا شاءت قدرة الحكيم أن لا يجعل شرعه بعيداً عما فطره فى عقول البشر من
اكتشاف العلاقات بين الأشياء وأسبابها » أو التشابه بين الأمور ونظائرها لتقوم
(1) البقرة :30 +
(2) هود : 61
(4) النساء : 65)
(5) آل عمران : 191 +
«الاببسمسسييسب يبب سس قب
الحجة على العقل بالنص ؛ وليتمكن العقل من إدراك حكمة النص والمقايسة عليه
بعد بذل الجهد ضمن ما يشرعه الله +
ولهذا فقد جاءت أحكام الشريعة الإسلامية معللة مربوطة بأسبابها ؛ وقد تكون
العلة مما أخبرنا الشارع به » أو قد تكون مما تدركه عقولنا بالاجتهاد » وربما تخفى
بعض العلل مما استأثر الشارع بها » لتحقيق العبودية والطاعة الكاملة لله عز وجل -
من دونما حظ للعقل المحدود فيها » ولكى تبدو عبودية الإنسان كاملة لله عز وجل -
ينبنى عليها الثواب والعقاب
ولقد أدرك جل علماء الأمة فى الماضى والحاضر على مختلف مذاهبهم وآرائهم
ومللهم على أن معظم أحكام الشريعة معللة سواءتم إدراك العلل بالنص أو
بالاجتهاد ؛ على اختلاف يسير فى بعض الأمور » وقد شذ البعض عن هذا النهج
ولاعبرة بشذوذهم سواءً من كان منهم مخلصاً أراد بحسن نيته الدفاع عن
النصوص » وآله اتباع البعض الهوى » أو تقديس العقل بحجة العلل ومقاصد
التشريع » فقاده هذا الأمر إلى الإفراط بإلغاء التعليل جملة ؛ أو من شذ من هذه
الطائفة بسبب سوء نيته وحبث طويته ؛ ليفسد على الناس أمر دينهم بزعمه أن
الشريعة جمع نقائض فهذا مما أبطن الكفر ؛ ولا عبرة مما قال +
ويأتى هذا البحث تبياناً لتعليل الأحكام فى الشريعة الإسلامية » فنورد الآن
خطة البحث وأهدافه .
2- موضوع البحث وخطته :
يشتمل البحث على مقدمة وأربعة أبواب وخاتمة تنظم جميعاً تحت ست فصول
باعتبار المقدمة والخاتمة فصلين ؛ وينقسم الفصل إلى عدة مباحث أماالمبحث فقد
تندرج تحته بضعة أمور ؛ والأمر قد يحتوى على عدة فقرات تحمل كل منها رقماً
عددياً ؛ يمثل الرقم الأول رقم الفصل أو الباب » والرقم الثانى يمثل رقم المببحث فى
الفصل » أما الرقم الثالث فيمثل رقم الأمر المندرج تحت هذا المبحث » وإذا تعددت
الأمور المندرجة تحت المبحث فيحمل الأمر حيتئذ إضافة إلى الأرقام الثلاثة حرفاً
تتكون المقدمة من بيان المعانى اللغوية والاصطلاحية لما ورد فى كلمات
العنوان » لتحديد المعنى الاصطلاحى للبحث .
ثم اردف ذلك بموقف العلماء من تعليل الأحكام سواءٌ أكان العلماء من أهل
السنة والجماعة أو من المبتدعة أو من الزنادقة ثم بتحقيق محل الخلاف فى ذلك .
أما الفصل الثانى فهو التعليل قبل التأصيل إذ تناول النصوص الواردة فى العلية
فى القرآن أو السنة » ثم تناول التعليل عند الفقهاء من الصحابة والتابعين +
أما الضّصل الثالث فتناول العلة وما قد يلتبس بها كالشرط والحكمة ؛ أو ماقد
يراد منها » أو ماله علاقة بها جزئية كانت أم كلية ؛ بغض النظر عن إجماع
الأصوليين أو عدمه فى المسألة الواحدة » إذ أن الفصل تبيان لكل ما قد يلتبس مع
العلة بشكل من الأشكال أو يرادفها .
وتناول اللّصل الرابع بعض أحكام التعليل كأوصاف العلة وشروطها ؛ سواء
والفصل الخامس قد تناول مسالك العلة المتفق عليها أو المختلف فيها ؛ مع
ذكر آراء الأصوليين فى كل مسلك وقد ورد فى الفصل الكلام حتى عن
أضعف المسالك .
ثم جاء الفصل السادس وهو الخاتمة المشتملة على بعض النتائج التى يوصل
إليها هذا البحث وأمثاله ؛ كإثبات أن الأحكام معللة ؛ وأن القياس حجة فى الشريعة
الإسلامية إضافة إلى مايبين من صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان لمرونتها
ولقواعدها المفتوحة لاستنباط أحكام لكل ما يستجد فى دنيا البشر فى أمور دينهم
أما الهوامش فقد تناولت ذكر المراجع وعزو الآيات وتخريج الأحاديث جهد
الإمكان .
الأول : قوادح العلة ؛ ومفسداتها » وما يحيط بهذا الأمر من متعلقات خوف
الإطالة ؛ ولضيق الوقت المحدد للبحث ٠
الثانى : كثرة التمثيل فى بعض المواطن » فقد نكتفى بذكر بعض الأمثلة فقط
فى بعض الأمور ؛ وضرب الصفح عن غيرها ؛ ولكننا نذكر مراجعها للرجوع
إليها » إذ لا فائدة من الإطالة بلا مبرر » ولا منفعة باستنساخ ما فى الكتب الأخرى .
الثالث : تحقيق محل النزاع بين العلماء فى بعض الأمور لخروجها عن غرض
هذا البحث المحدود بالوقت .
ونحن نذكر هذه الأمور لأجل الاعتذار عن عدم تكامل البحث » آملين فى
المستقبل _ بعونه تعالى من استكماله وسد نقائصه .
3 أهداف البحث :
يهدف هذا البحث إلى تحقيق أمرين :
الأول : الاستفادة من موضوع تعليل الأحكام » وتفهم ما يحيط بالعلة +
وبالتالى إدراك طرق القياس أوسع أبواب الاجتهاد فلا غنى لطالب العلم والباحث
فيه من تفهم هذه الأمور .
الثاقى : تعلم منهج البحث ؛ ولهذا فالبحث معد كجزء من موضوع ( قاعة
البحث ) فى الدراسات العليا بكلية الشريعة » وإذ نقرر هذا الأمر » فهو لطلب العذر
من القارىء أن يتجاوز عن الخطأ الهين ؛ وينبه عن الخطأ المشين ؛ وهو فى الوقت
نفسه اعتذار عن النقص والزلل ؛ وعن عدم تكامل الموضوع ؛ فهو ليس كما يريده
أهل هذا العلم » أو مما يرغب فيه أفذاذ هذا الشأن » ولكنه خطوة منا على الطريق +
ولكن نبصر الدرب على يقين ؛ على كواشف أضواء نقد الآخرين ٠ ٠
وحسبنا الله ونعم الوكيل +
1-1 ) البيان في ممردات العنوان ؛
لابد لكل باحث من تحديد عنوان بحثه » ليكون والقاريء معاً علي بصيرة فيما
يحتويه البحث ويتضمنه » ويتميز به عن غيره ولكي يعرف الباحث مادة
أما عنوان البحث فهو : ( تعليل الأحكام في الشريعة الإسلامية ) وهو قول
مكون من مضاف وهو ( تعليل ) ومضاف إليه وهو ( الأحكام ) وكذلك من تكملة
من جار ومجرور » والمجرور ( الشريعة الإسلامية ) ؛ وقد يطلق اسم ( العلة
وآثرها علي الأحكام في التشريع ) فنحن باعتبار العنوانين إزاء ثلاث مفردات أماما
يشتق منها إلا وهي : « العلة والتعليل » الأحكام » الشريعة والتشريع » فلابد من
شرح معانيها اللغوية والاصطلاحية » وسوف تتناولها بالترتيب العكسي لسهولة
المأخذ من جهة ولعدم معرفة المضاف قبل معرفة المضاف إليه ٠ وسنتعرض لكل من
الأحكام وللشريعة والتشريع باختصار ونقدم العلة بشيء من التفصيل لعلاقتها
العميقة بالبحث .
يبحث
1-1-1 ) الشريعة لغ واصطلاحاً +
الشريعة لغة : ( الماء وهي مورد الشاربة ) " وقيل : ( مورد الماء الذي يستقي
منه بلا رشاء » والشريعة العتبة )© .
( والشريعة والشراع والمشرعة المواضع الذي ينحدر إلي الماء منها . . . والشريعة
موضع علي شاطيء البحر تشرع فيه الدواب ) © .
(1) مختار الصحاح : 335
(2) المعجم الوسيط 1/ 479+
(3) لسان العرب 50/ 175 176+
- 14 سبببببببببببببب______ا لقدمة -
وقد تحول هذا المعنى إلى « ما شرع الله لعباده من الدين » والشرعة : الشريعة
لعباده من العقائد والأحكام ؛ والشريعة الطريقة ذنُم عَلَى شَرِيعَة مَن الأَمرِ
وقال الليث :
« وبهااسمى ما شرعه الله للعباد شريعة من الصوم والصلاة والحج والنكاح
أما الفعل « شرع » فهو ممعنى سن وبيّن 9" » ومنها قوله تعالى - :ل شرع لَكُم
ولهذا فمعنى التشريع سن وتبيان الأحكام » ويأتى لغة مرادفاً للشريعة ومنه المثل
المشهور ١ أهون السقى التشريع » 8 .
وخلاصة الأمر : أن الشريعة والتشريع مترادفان ؛ والمعنى الاصطلاحى
لهماعلى وجه العموم : « ماشرعه الله لعباده فى العقائد والعبادات
والأخلاق والمعاملات ونظم الحياة فى شعبها المختلفة لتحقيق سعادتهم فى
الدنيا والآخرة » ©
وكذلك « فإنه ينتظم كل ما شرعه الله من العقائد والأعمال 006 .
2-1-1 ) الأحكام لق واصطلاحاً
الأحكام جمع ( الحكم ) ؛ والحكم لغة : « القضاء . . . والحكم أيضاً الحكمة
من العلم 0136
() المائدة : 48+ (2) مختار الصحاح / 335
(4) المعجم الوسيط 1/ 479
(5) لسان العرب 50/ 175 + (6) المعجم الوسيط 1/ 479+
الشوري : 13 (8) لسان العرب 175/50
(9) التشريع والفقه في الإسلام /10 + (10) فتاوي ابن تيمية 19/ 306 +
(11) مختار الصحاح / 184+ (12) المعجم الوسيط 1/ 190 +
وفى الحديث فى بعض رواياته ( إن من الشعر لحكما ) (3
وكذلك أورد صاحب اللسان « الحكم : العلم والفقه والقضاء بالعدل ومنه
الحديث ( الحلافة فى قريش والحكم فى الأنصار ) *" ومن مشتقاتها المهمة الواردة فى القرآن
الكريم الحكم بمعنى الحاكم لقوله تعالى : فر الله أبتعغى حكما » 5 .
أما تعريف الحكم اصطلاحاً ففيه أقوال منها : ( مدلول خطاب الشارع ) ٠
وقال الإمام أحمد : ( الحكم الشرعى خطاب الشارع وقوله ) !9 +
وعرفه كثير من العلماء ما هو أصرح من ذلك وأخص وهو قولهم :
( الحكم الشرعى خطابه المتعلق بفعل المكلف ) 8
وخرج بهذا التعريف خطاب غير الشارع إذ لا حكم إلا للشارع © » وخرج
بقوله : ( المتعلق بفعل المكلف ) خمسة أشياء : الخطاب المتعلق بذات الله وصفته
وفعله وبذات المكلفين والجماد "ل » والمراد بالتعلق الذى من شأنه أن يتعلق من باب
تسمية الشىء بما يؤول إليه '!!" ومثل هذا تعريف المحلى « خطاب الله المتعلق بفعل
المكلف 026.
والمراد بفعل المكلف الأعم من القول والاعتقاد لتدخل عقائد الدين والنيات فى
(1)عرم :12 (2) لان العرب 50/ 140
(5) الأتعام : 114 + (6) النساء : 65 +
(7) شرح الكوكب المنبر ص 333 + (8) المرجع السابق ص 334 +
(9) المرجع السابق ص 335 وكذلك نهاية السول 1 39 » والعضد علي ابن الحاجب 221/1 +
(10) البناني علي جمع الجوامع ١ / 50 » ونهاية السول 1 / 40 وتيسير التحرير 2/ 129 +
(11) حاشية البناني 1/ 48 نهاية السول 1/ 40
(12) شرح المحلي علي جمع الجوامع 1/ 48
- 16 بسب تقدمة -
العبادات ؛ والمقصود عند اعتبارها ؛ ونحو ذلك '!؟ وقولهم ( المكلف ) بالإفراد
ليشمل ما يتعلق بفعل الواحد © كخصائص النبى - #له- ؛ وكالحكم بشهادة خزيمة
والمراد بالمكلف البالغ العاقل الذكرغير الملجأ ؛ ولا يتعلق التكليف
إلا بمكلف © .
وقد أورد الإمام الآمدى التعريف المذكور وأخبر أنه فاسد لقوله تعالى :
من الشارع وله تعلق بأفعال المكلفين والعباد وليس حكماً شرعياً بالاتفاق 8
وقال آخرون مثل الغزالى عن تعريف الحكم : « أنه عبارة عن خطاب الشارع
المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير 8(" ورد الآمدى هذا التعريف بقوله :
«إنه غير جامع ؛ فإن العلم بكون أنواع الأدلة حججاً » وكذلك الحكم بالملك
والعصمة ونحوه أحكام شرعية ؛ وليست على ماقيل » © .
وانتصر الآمدى لتعريفه وهو : «٠ اللفظ المتواضع عليه » المقصود به إفهام من هو
( والمتواضع عليه ) احتراز عن اللفظ المهمل و ( المقصود به الإفهام ) احتراز عمًا ورد
فى الحد الأول » وقولنا ( لمن هو متهيئ لفهمه ) احتراز عن الكلام لمن لا يفهم كالنائم
(1) شرح الكوكب المنير 1/ 337 » تيسير التحرير 2/ 129 +
(2) نهاية السول 1/ 41+
(3) شرح الكوكب المنير 338 » نهاية السول 1 / 42 » تيسير التحرير 131/2 +
(4) الصافات : 96
(9) الزمر : 62+
(6) الأحكام للآمدي 1/ 135 -
(7) التوضيح 13 وقال ( وزاد بعضهم أوبالوضع ) » الحصول 1 / 107 +
- المقدمة 7ب
والمغمى عليه ونحوه » أما إذا عرف معنى الخطاب فالأقرب أن يقال فى تعريف
الحكم الشرعى أنه ( خطاب الشارع المفيد فائدة شرعية )(!" وأضاف البعض على
تعريف نحو الغزالى فقالوا :
« خطاب الله المتعلق بفعل المكلف اقتضاء أو تخييراً أو وصفاً » 2 .
2-1-1 ) العلة لغة واصطلاحاً :
نابل » وقيل : وهذا علة لهذا أى سبب ؛ وفى حديث عائشة : « فكان عبد الرحمن
يضرب رجلى بعلة الراحلة أى بسبيها »40 .
أما معناها بالمصطلح الفلسفى فهى : « كل ما يصدر عنه أمر آخر بالاستقلال
أما قولهم « علل الشىء » أى : بين علته وأثبته بالدليل » وبهذا يكون معنى
التعليل ( عند أهل المناظرة ) تبين علة الشىء » وما يستدل به من العلة على المعلول
أما اصطلاحاً فقد نقلت من التصرف العقلى إلى التصرف الشرعى فجعلت لمعان
ثلاثة :
أ ما أوجب حكماً شرعياً أى ما وجد عنده الحكم لا محالة أى قطعاً ؛ وهو
المجموع المركب من مقتضيه أى من مقتضى الحكم وشرطه ومحله وأهله © وهذا
التعريف هو للتشبيه بأجزاء العلة العقلية الأربعة ( المادية » والصورية » والفاعلية +
(1) مسلم الثبوت1/ 54+
(2) مختار الصحاح 451+
(3) لسان العرب 471/46
(4) المعجم الوسيط 2/ 23 وانظر شرح الكوكب المير 1/ 438 +
(5) المعجم الوسيط 2/ 623 .
(6) شرح الكشاف المخير 441 » مختصر الطوفي 31 » شرح المختصر 66 +