وطبقا للتسلسل الزمنى والموضوعى فى جمع هذا الثراث فقد رأيئا أن نبدأً
الاتصال بسواد الشعب المصرى فى غاولة مثه لتكوين رأى عام » ونجح فى
ذلك إلى حد كبير لدرجة أن لقبه البعض بأنه صحفى الفرن التاسع عشر بلا
منازع » ولقبه البعض الآخر بأنه أذكى ناقد لأوربا فى مصرل) » وفبل أن
نتعرف لهذا التراث ينبغى أن نتطرق إلى نشأة النديم ومصادر ثقافته .
ولد عبد الله النديم بالاسكندرية فى عام 1847 ونشأ فى أسرة كادحة
حيث لعب الفقر دوره فى حياته الأولى وتازرت العوامل التى جعلته يشعر بالام
شعبه فقد كان والده خبازا ب يصنع الحبز ويبيعه ويحصل من ذلك عل مقدار
الحاجة من العيش البسيط 0 » وتربى النديم فى مسكن متواضع فى
حارة ضيقة من حوارى حى الجمرك بالاسكندرية وأرسله والده إلى كتاب الحى
لتعلم مبادىء القراءة والكتاب أقرانه ؛ وظهر نبوغه حيث أعائته
موهيته على سرعة الفهم والحفظ » » ولا كانت أحوال والده لمادية ضعيفة أحجم
عن ارساله إلى الأزهر » واستبدل بذلك ارساله إلى الجامع الأنور لقربه من
منزله » ولكن النديم لم يصبر طويلا على الدراسة فى هذا الجامع حيث أحس
بجفافها وعقم الطريقة التق تدرس بها فضلا عن رداءة الكتب كما وجد فى نفسه
فخرج من الجامع إلى الشارع أو إلى الحياة الواقعية فكانت بمثابة الجامعة الى
تعلم منها كثيرا وشاهد فيها كثيرا واغترف منها ما يشبع مزاجه وهوايته فى الأدب
فاحاط بالحياة الشعبية » وسمع الأمثال والحكايات من شعراء الربابة ونوادر
الظرفاء كما ارتاد النديم المنتديات والمقاهى والمجالس الأدبية النى كانت تعقد فى
بيوت الأثرياء » وفى حوانيت التجار المحبين للأدب يتطارحون الشعر وغير
ذلك من فنون الأدب فنزل النديم إلى هذه الحلبة وفاق أقرانه وتفوق عل
بجمال الدين الأفغانى حضر مجلسه فاستهوته أفكاره الجريئة لذلك تردد على
حلقته ؛ وانخرط فى سلك تلاميذه وتعلم منه حرية البحث والنقد والجرأة فى
الدفاع عن الحق فتشيع بمبادىء الوطنية وتشرب منه مبادىء الحرية +
ولا لاحظ الافغانى فى النديم نبوغه وقوة حجته فى المناظره والجدل وسرعة
الكثير لثقته فى أنه سيكون الرجل المؤثر فى عواطف الجماهير .
وهكذا يتضح أن النديم ثقف نفسه ثقافة حرة واسعة النطاق وغير مقيدة
ممنبج دراسى أو غيره مما جعله موسوعيا فى فكره فكتب فى الأديان والحكمة
والتاريخ والأدب كما التجأ إلى النشاط السياسى وعمل على توسيع قاعدة
النضال الوطنى بتحويل المجتمع كله إلى قوة وطنية ضاربة ونتيجة لذلك قدم
النديم أفكاره عن طريق الصحافة فى محاولة منه لتكوين رأى عام يقف ضد
الظلم الواقع على ابناء مصر سواء من الداخل أو الخارج » وشجعه الأفغان
على ذلك .
وقد نالت مقالات النديم الصحفية اعجاب الناس لأنها كانت غريبة
عليهم من حيث الأفكار والجرأة فى التعبير » كما كانت جديدة عليهم من ناحية
الأسلوب الذى تناول فيه النديم الأحوال السياسية التق مرت بها مص رباسلوب
رمزى١" اتخذ فيه من بعض الكاثنات غير الإنسانية ستارا لبث أفكاره ومبلائه
حيث لم تتح له ظروف مصر السياسية ما يريد أن يقوله بطريق مباشر .
ولم يقتصر النديم على ذلك بل اتجه إلى تأسيس صحيفة تحمل إلى الناس
أفكاره » واستطاع الحصول على إذن من رياض باشا رئيس النظار فى ذلك
الوقت باصدار جريدة تحت عنوان التنكيت والتبكيت وعن ذلك قال
«إجتمعت برياض باشا فى مصر ء وقد اضمر ل الأضر فنافقته ونافقنى +
التبكيت ؛ وقصدت أن تكونٌ لسانى إذ تركت الجمعية ليكون لى فى كل بلد
وفى مطبعة جريدق المحروسة والعصر الجديد فى الاسكندرية صدر العدد
الأول من التنكيت والتبكيت فى بوم الأحد 6" يونيو 1/88١1 صحيفة وطلية
اسبوعية أدبية هزلية فى هيئة كراسة بهدف تسهيل جمعها فى مجلد فى آخر كل
سنة*» وقد كتب اسم هذه الصحيفة فى الجزء العلوى من الغلاف بالخط
اللسخ بحجم كبير » وزين العنوان هلال ونجمة ٠
ومواعظ وفوائد ومضحكات بلغة سهلة لا يحتقرها العالم ولا يحتاج معها الجاهل
إلى تفسير»!"© و «تصور لك الوقائع والحوادث بصورة ترتاح إليها النفوس
وتميل » ويخبرك ظاهرها المستحسن المستهجن بأن باطنها له معان مألوفة +
سخرية بأعمالنا فا هى إلا نفثات مصدور وزفرات يصعدها مقابلة حاضرنا
وعن أسلوب الصحيفة فقد ذكر النديم أنه ليس منمقا بمجازات
واستعارات ولا مزخرفا بتورية واستخدام » ولا مفتخرا بدقة قلم محرره +
«أحاديث تعودنا عليها ؛ ولغة الفنا المسامرة بها لا تلجئك إلى قاموس الفيروز
يكلمك مما تعلم ؛ وفى بيتك كخادم يطلب منك ما تقدر عليه ؛ ونديم يسامرك
وعن مقالات التديم فى هذه الصحيفة فقد صور فيها باسلوب سهل
سخرية ورثاء فى قسمين قسم للتتكيت ممعنى السخرية الت لحقت بالمصرين ©
وقسم للتبكيت بمعنى توبيخهم على ما وصلوا إليه من عيوب فكانت صحيفة
السهلة البسيطة » كما احتوت على قوالب متعددة نشل القصص الرمزية »
والنوادر والزجل ؛ والمحاورات ؛ والأبحاث الهادفة التى فتحت أمام الكثيرين
آفافا من فنون القول والمعرفة .
ومع أن النديم كان ينتقد ابناء وطنه فقد كان يأب أن يقلل أجنى من
شأئهم لذلك هاجم على صفحات جريدته كل من حاول أن يقلل من شان
وم تقتصر هذه الصحيفة على كتابات النديم فقد وجه الدعوة إلى كتاب
فى المشرب الذى التزمته ؛ والذهب الذى انتحلته أفكارا تحيلية ؛ وفوائد
تاريخية » وامثال أدبية ؛ وتبكيت ينادى بقبح الجهالة وذم الخرافات)90
الكثيرين من صحفى ذلك العصر لم يراع فن التبويب » واخراج الصفحات
لذلك كانت صحيفته عبارة عن صفحات مكتوبة لا يفصل الموضوع عن الآخر
إلا عدوان الموضوع التالى ؛ كما كانت موضوعاتها متداخلة فى كثير من
الأحيان » وإن كان يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية هى :
١ - موضوعات ركزت عل نقد تصرفات الحكام والأجائب » وتذكير
المصريين بامجادهم ؛ ودعوتهم إلى التصدى للعادات والتقاليد الوافدة
- موضوعات حملت على أوضاع المجتمع المصرى الفاسدة وخصوضا
الخرافات . ِ
والدين .
وعن أهم المقالات التى ركزت على القسم الأول نذكر مجلس طبى على
مصاب بالافرنجى١) و «الذئاب حول الأسدهل'') و دعرب تفرنج»"" +
وعن المقالات التى ركزت على القسم الثانى نذكر «حد من عبد الله واتكل
الجنون فنون» و «حديث خرافة؛ و رهف طلع النهاره .
وعن موضوعات القسم الثالث نذكر «إضاعة اللغة تسليم للذات» و
«سيف النصر نحو عدو مصره و دنبذة من تاريخ الحمام أحمد بك عراي» و
«المحاسن التوفيقية أو تاريخ مصر الفتاة أو زفاف الحرية فى مصر» ودوصية
وطنية .
واللافت للنظر أن النديم قد وفق فى اختيار عناوين مقالاته نجمع فيهابين
الجاذبية والواقعية إلى حد كبير مما دفع مفكراً مثل عباس العقاد إلى
بملك العناوين©!) .
وعن تحليلنا لمقالات النديم فى القسم الأول يتضح أنه عرض فى مقال
بمصر من جراء توريط الخديو اسماعيل لها وحملة مسئولية التدهور الذى وصلت
إليه البلاد ؛ موضحا أن طريق الخلاص لابد أن يأتى من داخل البلاد فصور
مصر بشخص صحيح البنية قوى الأعصاب جميل الصورة لطيف الشكل تسلل
عيناه ونشوه وجهه فأخذ يبكى وينتحب ويندب حظه ثم تنفس تنفس الضعيفٌ
ورمق من حوله بعين لا يكاد يتحرك جفنها وقال لهم بصوت خفى إنكم
تركتمونى لصاحبى يقصد الخديو اسماعيل .- يدور بى فعرضنى على من لم
أصبت بالداء الافرنكى 99 .
وبعد أن شرح النديم حالة هذا امريض أيقن بأن علاجه سيكون غليا
بقوله على لسان امريض «أعالج نفسى بحشائش ترق وعقاقير أرضى من يد
أطباء بلادى وصيادلة ديارى» .
وهكذا شخص النديم الداء فى الخديو اسماعيل الذى جلب الاجانب
الذين لا يعرفون طبيعة المصريين ولا عاداتهم » وكان بارعا فى التورية بكلمة
أما عن الدواء والعلاج فقد شخصها النديم بأنهها محليان وموجودان
داخل مصر ف النهاية .
وهكذا يتضح أن النديم ب مقاله إلى ثلاثة اقسام :
١ - مرحلة ما قبل تولى الخديو اسماعيل حكم مصر ؛ وفيها كانت مصر
صحيحة البنية قوية الأعصاب جميلة الصورة لطيفة الشكل .
- مرحلة عصر اسماعيل وتغلغل النفوذ الاجنبى ؛ واضسطراب احوال
البلاد » ووقوعها فى الديون وتسرب الافكار والعادات الدخيلة عليها .
© - مرحلة الاصلاح وفيها يمسك ابناء البلاد زمام الأمور فيشخصون الداء
ويوصون بالدواء المستخرج من أرض مصر وتربتهان"! .
وعن تنبؤ النديم بقيام حركة اصلاحية تصلح المعوج من الأحوال وتعيد
الأمور إلى نصابها كتب مقالا بعنوان «الذئاب حول الاسد» صور فيه أمجاد مصر
فى العهود الغابرة وقارها مما آلت إليه أحواها من تدهور وتأخر فشبهها فى صورة
الأسد الذى يكتب تاريخه وهو «كاسف البال باكى العين متغير اللو"
لتغلب الوحوش وصغار الحيوانات عليه حتى آل الأمر إلى أسد إستطاع راب
الصدع بعد أن كانت الأمور ختلة لدرجة أصبحت عندها تهابه الدمور وتخشاه
الفهود .
وعن خطورة تقليد الاجانب وانتقاد العادات السلبية الواردة من الغرب
كتب النديم مقالا بعنوان «عربى تفرنج» تحدث فيه عن شاب من ابناء
الفلاحين سماء زعيط ارسلته الحكومة إلى أوربا لتلقى العلم » وبعد أن اتم
بالحضن قبل شأن الوالد المحب لولده » وم يكتف بذلك بل أخذ يذم أهله
صغيرا ؛ ول يعرف حقوق وطنه ؛ ولاح لغته ؛ ولا قدر شرف أمته ؛ ونعته
وهكذا ومن خلال الأسلوب السهل المؤثر أوضح النديم خطورة الأحوال
التق تردت إليها مصر من جراء تسلط الخديو والاجانب عليها ؛ واستطاع أن
يبرزه فى حكايات تقبلتها النفوس وفهمها القارىء العام والقارىء المثقف
معا .
وحاربت الخرافات فقد تعرض لا النديم » وبين اضرارها فتعرض للشعوذة
والمشعوذين ؛ والاحتيال والكذب ؛ والبدع التى تسمم بها النساء العجائز
أفكار الشابات مثل الندب والصراخ خلف الميت والجلوس على المقابر والزار
السيرفى مسيرة الحضارة والتقدم «
وعن الشعوذة والمشعوذين دعا النديم الناس إلى الحذر من ضارب الرمل
بالانطلاق فى أثر الشعوب المتقدمة كما هاجم هؤلاء الشعوذين وحذرهم من
أنهم سيكشف امرهم بقوله «مهلا أيها المشعوذ فقد جاءك التنكيت والتبكيت
تعلمت صنعة غير هذه لكانت أشرف لكم ,
وحذر النديم الأهالى من خطورة الإلتجاء إل مدعى الطب من
المشعوذين » والالتجاء إلى الأطباء الذين تلقوا العلم الذى يؤهلهم لعلاج
المرضى ؛ وذلك فى مقاله «أماتك من اسلمك للجهالة؛ الذى أوضح فيه أن
أحد شبان زفت قد أصيب بالجنون بسبب إدمانه للحشيش فاستحضر له والذه
دجالا من مدعى الطب » ول يستمع إلى نصيحة من نصحه باستدعاء طبيب
من البندر بقوله «خليها بالبركة شى لله يا سيد ؛ الحكيم رايح يعمل ايه؛""
وقد قام الدجال بدق ثوم ووضعه فى اذن المريض كما «وضع محرقة على ظهره »
رأسهم") حتى ساءت حالته وقد استنكر النديم ذلك وانتقد والد المريض »
ووصف ما فعله بالجهل وبالغرابة الخارجة عن التصور الانسانى السليم +
وحول هذا الموضوع أيضا » ورغبة من النديم فى تحذير ابناء وطنه من
على ذلك قائلا أن رجلا مقييا فى ميت غمر «حفر بركة وأشاع أن ماءها يشفى
من كل داء » فهرع إليه الناس من كل بلد حتى ضاقت ميت غمر بالوفود +
وكان يعطى الابريق بعشرة قروش ؛ ويأخذ الخادم عشرة فروش ؛ وعشرة
قروش أخرى ثمن البن » ونذر الشيخ عشرة قروش ثم يظهر التعفف ؛ ويقول
أنه يعالج الناس ابتغاء مرضاة الله ؟ وقد امتدت شهرة هذا الرجل فقصده
الناس من كافة الأرجاء وأغرب ما روى من علاجه للعاقر دأنه يأمر المرأة أن
تنام على ظهرها ثم يضرب . . . بيده ويقول (أنت مأذون لحل وما علا
صيت هذا الرجل ؛ وعرفت الحكومة به أمرت بطرده والتنبيه عليه بابطال هذه
الأكاذيب وقد علق النديم على ذلك بقوله دهل بمثل الجهالة نضارع الأمم
وعن خطورة الدجالين على تقدم المجتمع أوضح النديم فى مقاله المعنون
«شيخ زفتى أو جاهلها» فذكر أنه بعد دعوته لإنشاء المدارس اثناء تجواله بزفق
وميت غمر خرج من هؤلاء رجل يدعى أنه من أهل العلم صار ير فى الطرقات
والمجامع ويقول «المدارس من محدثات الأمور » وكل محدثة بدعة ؛ وكل بدعة
ضلالة ؛ وكل ضلالة فى النار !"ثم أخذ يخوف الناس من المدارس بقوله أنها
«تريغ العقائد وتفسد الأخلاق فتبعه خلق كثيرون من أوباش زفق ورعاعها
يؤيدون قوله وينشرون مفترياته»" .
وقد ناشد النديم أمثال هؤلاء الناس بالكف عن الخرافات الى أفسدت
العقول والأخلاق .
وعن الكذب والتخريف وتخريب عقول الناس بابعاد أدبهم الشعبى عن
هدفه هاجم النديم مروجى هذه الآفات فكتب تحت عنوان «تخريفة الجنون
فنون» مقالا ذكر فيه أن أحد المحتالين جلس على قهوة وأخذ يقرأ تخاريف
سماها قصة عنترة «فاجتمع إليه عدد كبير من الرعاع والهمج الذين ولعوا