وأما السنة فأجمع الصحابة رضوان الله تعال عليهم على وجوب العمل بما
صدقه . وتعينت دلالة الشرع في الكتاب والسنة بهذا الاعتبار .
ثم ينزل الاجماع مزلتهما لاجماع الصحابة على التكير على غالفيهم »
ولا يكون ذلك إلا عن مستند لأن مثلهم لا يتفقون من غير دليل ثابت »
مع شهادة الأدلة بعصمة الجماعة » فصار الإجماع دليلاًثابتاً في الشرعيات +
ثم نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة » فإذا هم
يقيسون الأشباه بالأشباه منهما » ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم »
وتسليم بعضهم لبعض في ذلك » فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله
وسلامه عليه لم تتدرج في النصوص الثابتة » فقاسوها بما ثبت » وألحقوها بما
نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق » تصحح تلك المساواة بين الشبيبين أو
المثلين » حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد » وصار ذلك
واتفق جمهور العلماء على أن هذه هي أصول الأدلة » وإن خالف
بعضهم في الإجماع والقياس ؛ إلا أنه شذوذ .
واعلم أن هذا الفن من الفنون المستحدثة في الملة » وكان السلف في غنيه
عنه ؛ بما أن استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد مما عندهم من
الملكة اللسانية » وأما القوانين التي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصاً
فمنهم أخذ معظمها » وأما الأسانيد فلم يكونو يحتاجون إلى النظر فيها لقرب
العصر وممارسة الْقَلَةَ وخيرتهم بهم ٠
فلما انقرض السلف وذهب الصدر الأول ؛ وانقلبت العلوم كلها
صناعة » واحتاج الفقهاء ولمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد
لاستفادة الأحكام من الأدلة » كتبوها فنا قاتماً برأسه سوه ١ أصول الفقه » +
تعريف أصول الفقه :
هو مركب إضافي ؛ كل واحد من جزئيه وضع لغة معنى ثم نقل عن
مفهومه الإضافي وجعل عَلَّماً لهذا العلم .
المركب موقوفة على معرفة أجزائه .
والأصول جمع أصل » والأصل في اللغة : ما يتى عليه الشيء من حيث
ييتنى عليه ؛ ثم نقل الأصل في العرف إلى معان أخر مثل : الراجح والقاعدة
الكلية والدليل » وكلها تناسب المعنى اللغوي .
وذهب بعضيم إلى أن المراد به هنا الدليل » وذهب بعضيم إلى أن النقل
خلاف الأصل ولا ضرورة في العدول إليه ؛ لأن الابتناء ا يشمل الحسي
كابتناء السقف على الجدار » يشمل العقلي أيضاً كابتناء الحكم على الدليل »
فيحمل عل المعنى اللغوي » وبالإضافة إلى الفقه يعلم أن المراد الابتناء
العقلي » فيكون أصول الفقه ما بيتني هو عليها ويستند إليها » ولا معنى لمستند
والفقه في اللغة : الفهم » ومنه قوله تعالى : يج ما نفقه كثيراً مما تقول »
أي : ما نفهم . قال ابن عطية في تفسيره : يقال فقه الرجل بحركات القاف
إذا صار الفقه له سجية .
وفي الاصطلاح : العلم بالأحكام الشرعية الفرعية الاستدلالية
بالتفصيل » والعلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع » ويطلق على الاعتقاد
الراجح الذي هو القدر المشترك بين اليقين والظن +
الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية توصلاً قرياً .
واعلم أن القاعدة والقضية والأصل والضابط والقانون بمعنى واحد ؛ وهو
أمر كلي منطبق على جزئياته ليعرف أحكامها منه » نحو الأمر للوجوب » فإنه
أمر ؛ وكل أمر للوجوب » وهذا للوجوب +
وموضوع أصول الفقه : الأدلة السمعية الكلية من حيث يستنبط منها
الأحكام الشرعية .
والغرض من هذا العلم : هو تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشرعية
الفرعية من أدلتها الأربعة أعني « الكتاب والسنة والإجماع والقياس ) ٠
وفائدته : استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة .
واستمداده : من علم التوحيد والعربية والأحكام الشرعية +
أما التوحيد : فلتوقف إفادة الأدلة لأحكامها على معرفة الله تعالى
وصفاته وأفعاله ؛ وصدق الرسول فها جاء به » وغير ذلك مما لا يعلم في غير
علم التوحيد .
وأما العربية : فلتوقف معرفة دلالة الأدلة على العلم بموضوعاتها لغة » من
الحقيقة والمجاز » والعسوم والخصوص » والإطلاق والتقبيد » والمنطوق
ولمفهوم » والاقتضاء والإشارة » والصريخ والكناية ؛ وغير ذلك .
وأما الأحكام : فلآن الأدلة تتوقف على تصور الأحكام بحقائقها »
لتقصد ويتمكن من إيضاح المسائل بالشواهد .
والمراد بتصورات الأحكام تصور الوجوب والحرمة » والندب والكراهة »
والصحة والفساد » والأداء والقضاء ؛ ليتمكن من إثباتها ونفيها بالدليل »
لاستحالة كون الأمر للوجوب مثلاً بدون تصور الوجوب » وكذا الباقي .
هذا والغرض من تعريف سائر العلوم نما هو امتياز المعرف عن جميع
ماعداه بحسب الوجود » لا إعطاء الحقيقة لأنها مسائله » وهي لا تعلم إلا
بالوقوف عليها ٠
( الفرق بين الأصول والفقه )
يمكن أن تحصر الفروق بينهما في النقاط التالية :
-١ من حيث التعريف : فالأصول هو إدراك القواعد التي يتوصل بها
إلى استنباط الفقه .
أما الفقه : فهو إدراك الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية +
؟ - ومن حيث الموضوع : فموضوع أصول الفقه الأدلة السمعية
الكلية ؛ من حيث إنها تستنبط عنها الأحكام .
أما موضوع الفقه : فهو أفعال العباد ؛ من حيث ما يثبت لها من
الأحكام الشرعية .
© - ومن حيث الثرة : فالغاية من أصول الفقه هي تطبيق القواعد
الكلية على الأدلة التفصيلية » لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها »
أو الموازنة والترجيح بين الآراء الفقهية .
أما الغاية من الفقه : فهي الفوز بالسعادة الأبدية في الدارين باتباع
الأوامر واجتناب النواهي .
فائدة هذا العلم :
١ - هو العلم الكفيل بالنظر في الأدلة الشرعية » كتاباً وسنةٌ وإجاعاً
؟ - وهو العاصم لذهن الفقيه من الخطأً في استنباط الأحكام الشرعية
© - وهو عمدة أيضاً لأصحاب التخريج + الذين عنوا بتفريع الأحكام
الفقهية » وتخري الوقائع والحوادث الوقنية على أصول تبنى عليها وتؤخذ من
النظر في دلائلها .
4 - كا هو عمدة أيضاً لأصحاب الترجيح من أتباع الأثئمة ؛ فإنه
قواعد الأصول .
٠ - تصدى لصناعة التخرييج والترجيح كثير من الفقهاء فها دونوه من
كتب الأصول والشروع لتحقيق مذاهب الأئمة ؛ والترفع بها عن مداخل
الشك والوهن » فكانت حاجتهم إلى علم الأصول كحاجة الفقيه المجتهد »
وإن كانت حاجة الفقيه إليه في الاستنباط +
+ - ذا العلم فائدة جليلة في معرفة مآخذ الأئمة ؛ ومثار اختلافاتهم »
ومواقع اجتهاداتهم .
١ - من تمكن من هذا العلم يعلم أنه ليس ثم حكم شرعي يثبته الفقيه
المجتهد بمحض الرأي » بدون أن يكون له مستند شرعي عام أو خاص 6
وذلك أن الشارع يعتبر المجتهد مبيناً للأأحكام اما مقام النبوة
فلا
ومن فوائد هذا العلمتمكين المسلمين من العمل بشريعتهم :
وكل من أحاط بعلم الفقه وأُنقن أصوله أمكنه الوصول إلى الغاية الشريفة
وهي معرفة أحكام الله تعال © إيصالها إلى عامة المسلمين للتمكن من العمل
با ؛ وإن كان الغرض الأصلي من معرفة علم الأصول هو تحصيل ملكة
استنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية على وجه معتد به شرعاً ٠
وإن مرتبة الاجتهاد من أعظم المناصب الدينية التي حث الشارع على
القيام بها في كل عصر وزمان » عند توفر شروطه وتحقق أركانه ؛ مع أن
الاجتهاد في ذاته من أفضل الأعمال التي رغب الشارع في تحصيلها ؛ كيف
وقد اعتيره الشارع مدركاً من مدارك الشرع » يفسر النصوص » وييين وجه
فمتى توفرت شروطه في أي شخص وجب عليه أن يسلك طريقه .
هذا بالنسبة للمجتهد » وأما غيره ففائدة هذا العلم هي الوقوف على
مدارك الأئمّة ومستنداتهم في الأحكام التي استنبطوها ؛ وبه تذعن النفس
ويطمئن القلب إلى أقواهم » وبذلك تحصل الطاعة والانقياد للأحكام
الشرعية ؛ التي هي مناط السعادة في الدارين .
ومن فوائده أيضاً تحقيق مقاصد الشريعة :
إدخال الناس تحت سلطتها »؛ بل وضعت لتحقيق مقاصد الشارع في قيام
مصالحهم في الدين والدنيا مع » وروعي في كل حكم فها :
١ - إما حفظ شيء من الضروريات الخمسة ( الدين والنفس والعرض
والعقل والمال ) التي همي أسس العمران المراعاة في كل ملة » والتي لولاها لم
تجرٍ مصالح الدنيا على استقامة » ولفاتت النجاة في الآخرة
؟ - وإما حفظ شيء من الحاجيات » كأنواع المعاملات » التي لولا
ورودها على الضروريات لوقع الناس في الضيق والحرج .
© - وإما حفظ شيء من التحسينيات » التي ترجع إلى مكارم
الأخلاق ؛ ومحاسن العادات .
4 - وإما تكميل نوع من الأنواع الثلاثة بما يعين على تحققه ؛ ولا يخلو
باب من أبواب الفقه - عبادات ومعاملات وجنايات وغيرها - من رعاية
هذه المصالح » وتحقيق هذه المقاصد التي لم توضع الأحكام إلا لأجلها .
ومعلوم أن هذه المراتب الثلاث تتفاوت في درجات تأكيد الطلب
لإقامتها ؛ والنهي عن تعدي حدودها » وهذا بحر زاخر + يحتاج إلى تفاصيل
واسعة » وقواعد كلية لضبط مقاصد الشارع فيها » من جهة قصده لوضع
الشريعة ابتداء ؛ وقصده في وضعها للإفهام بها ؛ وقصده للتكليف
بمقتضاها ؛ وقصده في دخول المكلف تحت حكمها تحقيق هذه المقاصد »
وتحري بسطها » واستقصاء تفاريعها واستارها من استقراء موارد الشريعة
فيها » هو معرفة سر التشريع » وعلم ما لا بد منه لمن يحاول استنباط الأحكام
ولا يكفي النظر في الجزئيات دون اعتبار كلياتها :
ولا يكفي عند الاجتهاد النظر في الأدلة الجزئية ؛ دون النظر إلى كليات
الأمر ء إذا لم يكن في يده ميزان مقاصد الشارع » ليعرف به ما يأخذ منها
وما يدع » فالواجب إذاً اعتبار الجزئيات بالكليات » شأن الجزئيات مع
ثقله عن الشافعي » بعد بيان مفيد فها يراعيه المجتهد في الاستنباط » حيث
قال : ويلاحظ القواعد الكلية أولاً ؛ ويقدمها على الجزئيات .
خطة التحقيق
عملت في إخراج نص هذا الكتاب مراعياً أمرين أساسين » هما دعامة
التحقيق :
أ الأمر الأول : الجانب العلمي :
-١ فإن كان النص مشتملاً على آية قرآنية عزوتها » أو حديث شريف
» - وإن كان في النص لفظ غريب بينته ٠
إخراج هذا الكتاب ؛ وقومت النص على طريقة ( النص انختار ) مبيناًالراجح
بالأدلة والمحاكمة .
العلمية ؛ ووضعت هذه الزيادة بين معقوفين » مع التعليق عليها بالتوجيه
وذكر المصدر .
٠ - أدخلت الأصل ( مختصر المنار ) وقسمته وألحقته في موضعه
المناسب » وزدت عناوينه بين معقوفين ٠
ب - الأمر الثاني : الجانب الفني :
عملت على تيسير النص وتوضيحه بالطرق الفنية لمتبعة في قواعد تحقيق