الرائع الذي تعيشه الأندلس في عهده ..
وهكذا فبدلا من أن توجه النسبة الكبرى من ميزانية الدولة إلى
الجهاد العقدي والعقلي وصناعة الحضارة والإنسان. وتمتد
مساحات العقيدة والعلم والإبداع خارج قرطبة إلى بلاد المغرب
والمشرق -قسم الناصر جباية الدولة على ثلائة أثلاث: ثلث للجند »
وثلث للبناء . وثلث مدخر .)١(
كانت مصادر الثروة المادية في الأندلس كثيرة ومتنوعة ٠ وكان
من أهم المصادر المفضية إلى التكاثر المادي - سعة الأرض الأندلسية
التي استولى عليها الفاتحون المسلمون الذين لم يزيدوا عن عشرات
من الآلاف ساحوا ملوكا متوجين بالدين والحب في شبة جزيرة تبلغ
مساحتها أكثر من ١97,0٠٠ ميل مريع +
وعن هؤلاء توارث الأخلاف من البربر والعرب . فنجحوا -أو نجح
إيمانهم . بل مشت الثروة المادية في أكثر الأحايين في طريق مناقض
للطريق الذي مشت فيه كتائب الإيمان والدعوة الإسلامية -
ومن الجدير بالذكر أن المعارك التي كان المسلمون يخوضونها
في الأندلس لم تكن مع نصارى الشمال في ليون وقشتالة وحسبء
بل كانت تتجاوزهما إلى مناطق في أعمال بلاد الغال (فرنسا )
يجمعونها ما يدل على أنالامر كان أعظم مما تستطيعه بلاد
الجلالقة الجبلية القاحلة (2).
)١( ابن عنارى: البيان المغرب. نشر دار الثقافة تحقيق كولان
وبروقنسال بيروت»
(؟) محمد سعيد الدغلي؛ الحياة الاجتماعية في الأندلس ص81 نشر سوريا
طبعة أولى 6456١ه
بلاد الأندلس الواسعة الخضراء ذات الثمار الكثيرة والفواكه المتعددة
من عنب وتين وتفاح وسفرجل وحمضيات وزيتون. بالإضافة إلى
الثروة المعدنية التي لم تخل متها بلاد الأندلس ...)١(
من مجموع هذه المصادر تكونت ثروات مادية هائلة تركزت في
يد الملاك والحكام والمحيطين بهم
وقد قرر الناصر بناء مدينة الزهراء: فابتدئ بنياتها في أيام
الناصر من أول سنة 0 ؟ ه وكان يصرف فيها' كل يوم من الصخر
المتجور ستة آلاف صخرة ”وجلب إليها الرخام من قرطاجنة
لقد نسب قصر الزهراء (وهو قصر يمثل القلب الحي ملكي
كامل) إلى الزهراء محظية الناصر التي كانت تتمتع بمكانة خاصة
لديه . ويقول المستشرق (جوزيف كيب)(+) إنه خلافا للقرآن جعل
لها تمثالا جميلا من المرمر نصبه على باب القصر ء وكان يشتغل في
بناء القصر عشرة آلاف رجل وثلاثون ألف دابة. وقد زعموا أن له
خمسة عشر ألغا وأربعة آلاف سارية (جلبت من اليونان وإيطاليا
وإفريقيا وغيرها ) والإيوان الأوسط كانت سواريه من المرمر والحجر
سقفه من الذهب والغضة , وكانت جدرانه وقبته من العقيق اليماني ٠
(؟) ابن عذارى: البيان المغرب 270/62 نشر دار الثقافة تحقيق كولان
() جوزيف كيب: مدنية المسلمين في أسبانيا ص14- ؟لا الطبعة الثانية
ترجمة محمد تقي الدين الهلالي
لهب
وكان به شمانية أبواب من الأبانوس والعاج مرصعة بالجواهر . وكان
في القصر ثلامائة حمام مستجمع لشروط النعمة. وكانت الحدائق
نوع (السمك الذهبي ) كان قوتها اليومي اثتى عشر ألف رغيف من
الخيز . وحوله كانت مساكن جميلة لخاصة الخليفة ورجال دولته
المقربين وأرباب المناصب العالية . وهكذا كانت مدينة الزهراء مدينة
تسبي الألباب وتسحر العقول بجمالها ؛ وإن سألت عن حالها اليوم
فهي في حال لا تقدر أن تشبع قليلا من الماعز . وكل شئّ هنالك كان
ملكيا ٠ والموسيقى المغنى الخاص لعبد الرحمن الثاني كان أديبا من
أعاجيب الزمان وستذكره فيما بعدء معاشه << 50,0 ديقار من
الذهب في كل سنة أكبر بكثير من راتب رئيس الولايات المتحدة +
وهذا النعيم الذي لم يمض عليه أكثر من خمسمائة سنة لم يحفظ منه
الأسبانيون مثقال ذرة(١)
ولم يكن الأمر .محصوراً في الزهراء قحسب. بل كانت القصور
وكانت أسواق قرطبة من أغنى أسواق الدنيا . فلم يسمع سامع بشئ
من التوابل والعطور أو المنسوجات الفاخرة أو الكتب الخطية النادرة
أو البسط والزرابي البديعة أم آلات اللهو في أى رجا من أرجاء
الدنيا إلا وقد جلبت إلى تلك السوق.؛ وحال أمريكا اليوم بالنسبة
إلى الدنيا القديمة هي حال الأندلس في ذلك الزمان يالنسبة إلى
غيرها من البلاد . ولكن الأندلس كانت أعظم من وجهة المدنية (2).
وكانت الحدائق العامة المعدة للتتزه نزهة للأبصار (©”).
)١( المكان السابق - يتصرف
() المكان السايق )٠( المرجع السايق صلالا
سلينة
وإمعانا في السقوط في حفرة التكائر المادي لم يكتف
الأندلسيون بما حَصُمّه أرضهم». بل راحوا يستوردون وسائل البناء
وكانت سغنهم تجلب المقادير العظيمة من خشب السدر والعاج
والأبنوس وأحسن التوايل والطيب الذي يمدهم به الشرق. وكانوا
يجلبون من هناك الذهب والفضة والجواهر والمحار والحجر الشفاف
وحجر الأزورد وجلود السلاحف وكل مادة معروفة من مواد الزينة
(...) وقد عرفوا كيف يقفون أموالهم على فنون المعيشة إلى حد
لم يصل إليه إلا قليل من الأمم؛ وقصور الأشراف وأرباب المتاصب
والأدباء كانت تقارب في الفخامة والسعة قصور الخليفة. وحتى
منازل أرباب الحوانيت محتها أعاصير النكبة التي أنزلها الأسبانيون
وعلاوة على ذلك فمئات الحمامات المحشاة أطرافها بالمرمر
والمفسيفساء والحدائق العامة البديعة كانت ممتدة على شاطئ
الوادي الكبير وكانت نعمة ورقاهية للناس جميعا من الخليفة إلى
أدنى الطبقات.
هذه الأعمال العمرانية والمادية التي تمثل تحولا عن التوجه الإسلامي
)١( المكان السابق
الذي يقوم على بناء العقيدة والإنسان -بالدرجة الأولى- فقال شعرا
يترجم آراءه :
أو ما ترى الهرمين قد بقيا يكم ملك محته حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعارض شأته أضحى يدل على عظيم الشان
لقد نسى الناصر أن هذه الفلسفة المادية لا تمثل الرؤية
المنادية والفرعونية التي لا تحمل رسالة إلهية توحيدية عامة تمثل
خطابا لكل البشر ومشروعا لإنقاذهم وتحقيق إنسانيتهم وكرامتهم
بها الخليفة العظيم عبد الرحمن الناصر لم تسفر عن انتشار
للإسلام أو فتح أقاليم جديدة ذات شأن. بل أسفرت عن ازدهار مادي
وإقامة مؤسسات عمرانية وشهرة سياسية ومجد عسكري وحسب!!
وقد قامت معارضة كبيرة ضد الناصر تحمل وجهة النظر
الإسلامية في هذا التوجه المادي الذي يعلي من أسهم حضارة
الحجارة وقهر الإنسان في سبيل مجد شخصي زائل» وينفق وقت
الأمة وأموالها في هذه الأشكال والرسوم. وقد تزعم المعارضة
القاضي المجاهد المتذر بن سعيد البلوطي...
وكان من أقوال المنذر البلوطي في رد فلسغة الخليفة الناصر
يا بانى الزهراء مستغرقا أوقاتهفيها أما تمهل
وفي يوم من أيام الجمع انهمك الناصر في استكمال زخارف
الزهراء وأثاثها حتى فاته حضور الجمعة فحفظها له البلوطي ٠ فلما
احتفل بافتتاحها خطب البلوطي في مسجدها فكان مما أورده في
مجال مقاومة هذا الاتجاه قول الله تمانى :وأتينون بكل ,ربع آية
تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تتلدون؛ رإذا بطشتم بطقتم
أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون. إني أخاف عليكم عذاب يوم
ويعلق على هذا الخلاف بين الخليفة الناصر والقاضي البلوطي
المؤرخ المعاصر الدكتور أحمد مختار العبادي فيقول (2):
”ثم دارت الأيام دورتها وتحقق ما ذهب إليه المنذر بن سعيد ؛ إذ
لم تعمر مدينة الزهراء أكثر من ستين عاماء ثم لعبت بها أيدي
بعد الحفريات الحديثة .“)٠١(
وهكذا -مع بداية الربع الثاني من القرن الرابع في الأندلس- تألق
توجه مادي في الأندلس أاحدث شرخا قويا في الحضارة
)١( محب الدين الخطيب: الزهراء ص 78: المطبعة السلعية ومكتبتها القاهرة
77١ه. (والآيات من سورة الشعراء ١178-1627 )-
() في تاريخ المغرب والأتدلس ص 1817 ؟؟ 2 طبع دار النهضة العربية بيروت
)٠( في تاريخ المغرب الأتدلس ص؟ ؟؟
وخصائصها + وبالتالي تمكين الأعداء من الإجهاز عليها -
ولقد ذكر مؤرخ الأندلس (أبو حيان القرطبي) صاحب
(المقتبس في ذكر بلاد الأندلس) أن مباني الزهراء قد اشتملت على
أربعة آلاف سارية؛ وأن مصاريع أبوابها كانت تنيف على خمسة
عشر ألف باب. وكان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتى
وسبعمائة وخمسين؛ وعدد التساء بقصر الزهراء وخدم الخدمة ستة
آلاف وثلاشمائة امرأة وأربع عشرة!! وقيل إنه عمل في بنائها عشرة
آلاف عامل في خمس وعشرين سنة .)١(
وكانت عدة الدور في مدينة الزهراء اريجمائة دار ونيفاً وثلاثين+
وكانت عدة الرعايا والسواد بها الذاهب على أهلها المبيت في
السور مائة ألف دار وثلاثة عشرة ألف دار حاشا الوزراء وأكاير
الناس (2).
وقد اعتنى الأندلسيون بصنع التماثيل والصور التي تحكي صور
الأشخاص والحيوانات. وكان بحمام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة
الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله :
ودمية مرمر تزهى بجيد تناهي في التورد والبياض
لها ولد ولم تعرف قليلا ولا ألمت بأوجاع المخاض
وتعلم أنها حجر ولكن تييّنا بألماظ مراضن
)١( محمد سعيد الدغلي/ الحياة الاجتماعية في الأندلس صدة (نقلاعن
أحمد أمين) ظهر الاسلام.
() المقرى / نفخ الطيب 14.78١ (نقلا عن الدغلى) ص8
ومن الطبيعي أن يكون فن العمران في الأندلس قد تمثل ما حمله
العرب معهم من مزاج الفن البيزنطي والفارسي ولكن الأثر القوطي
واضح الظهور فيه ٠ .
وكانت الكتابة العربية دعامة من دعادٌ. الزخرفة والتزين
لخطهما الكوفي الجميل حتى كان يحسبه المقلدون من الأسبان
والفرتج رسما ء
كان عبد الرحمن الداخل (748١-7)2١ه) قد بدأ بناء
المسجد الجامع في قرطبة سنة 1719ه+ وأنفق في ذلك ثمانين
ألا من لجين وعسجد(١) ثم زاد هشام (480-172١ه) صومعة
وسقائف لصلاة النساء والميضأة(2). ثم زاد فيه عبد الرحمن بن
الحكم بن هشام (7 ١ 3- 1748 ه) زيادة كبيرة كان الفراغ منها سنة
© ه(-). ثم زاد الأمير محمد بن عبد الرحمن (3748- 177؟ه)
طرزا في الجامع وتنميقا لنقوشه وأقام مقصورة وجعل لها ثلاثة
أبواب(ء). ثم زاد الأمير المنذر بن محمد (277 -170؟ه) البيت
المعروف ببيت المال في الجامع وأمر بتجديد السقاية وإصلاح
السقائف. ثم زاد أخوه الأمير عبد الله بن محمد (708- ١٠“«ه)
بساطا معقودا على حنايا أوصل به ما بين القصر . والجامع. ثم أمر
)١( اشارة إلى بيتين من الشعر قالهما البلوى الشاعر بهذه المناسية (انظر ابن
عذارى؛ البيان المغرب 9 11707)
() ابن عذارى: 27١/2
)٠7( السابق 217١/2 (6) المكان السايق نفسه
-فلما جاء عبد الرحمن الناصر أنفق في صومعة المسجد وفي
تعديل المسجد وبنيان الوجه للبلاطات الأحد عشر بلاطا سبعة
أمداد وكيلين ونصف كيل من الدراهم القاسمية (2)..
إننا نتظر نظرة قلق وريب إلى ظاهرة تتابع الخلفاء المصحوب
بلون من التناقس -في توسعة مسجد ما-
ومسجد قرطبة من أيرز النماذج الأندلسية التي ننظر إليها هذه
النظرة المريبة!!
إن فقهنا بالمقاصد الإسلامية العليا وبطبيعة التوازن الإسلامي
والتجريد والارتفاع عن المادة تجعلنا نرصد هذه الظاهرة المادية
التي تسقط فلسفتها حتى على بيوت الله . فتسعى إلى تحويلها
إلى أشباه متاحف أو كنائس؛ وتبتعد بها عن البساطة والتجريد
والطبيعة الجميلة التي تقاوم أي تكثيف للجوانب المظهرية
وبتكاليف مسجد واحد قد نستطيع بناء عشرين أو خمسين
مسجدا (*) ومدرسة لمسلمين فقراء في بلاد الإسلام قد لايجدون ما
يبنون به مسجدا بسيطا أو مدرسة بسيطة!!
ولنتأمل هذا الوصف الذي يتحدث به (جوزيف مالك كيب) عن
مسجد قرطبة .؛ ولسوف نشعر أننا أمام خصائص أقرب إلى الفلسفة
الكنسية المركبة منها إلى الطبيعة المسجدية البسيطة..٠
)١( المكان السابق نفسه
(؟) ابن عذارى / البيان (2 271/7 )
(©) بل إنه في العصر الحديث يمكن أن يبنى بنكاليف مسجد واحد أكثر من
ألف مسجد أو مدرسقلا