فإن أئمة المسلمين وأهل العلم اعتنوا بأحاديث الأحكام عناية خاصة
قديماً وحديثاً - وذلك لما ينبني عليها من معرفة الحلال والحرام» وكيفية أداء
وقال العباس بن محمد: «سمعت أحمد بن حنبل وسُعل؛ وهو على باب
أبي النضر هاشم بن القاسم؛ فقيل له: يا أبا عبد الله ما تقول في موسى بن
ولكنه حذّث أحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي؛ وأما
محمد بن إسحاق؛ فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث كأنه يعني المغازي؛
يعني العباس - أصابع يده الأربع من كل يدء ولم يضم الإبهام!"".
وقال يحيى بن سعيد يعني القطان -: «تساهلوا في التفسير عن قوم لا
© دلائل النبوة 4/1
يوثقونهم في الحديث»!".
وقد درج على ذلك العلماء فاعتنوا بأحاديث الأحكام بصور كثيرة؛ من
أهم تلك الصور الاهتمام بتأليف كتب التخريج التي تعنى بتخريج أحاديث
الأحكام التي ذُكرت في كتب الفقهاء» من أتباع الأئمة الأربعة رحمهم الله -.
ومن أشهر تلك الكتب:
شرح بداية المبتدي» لأبي الحسن المرغيناني الحنفي.
"- «البدر المنير في تخريج أحاديث الشرح الكبير» لابن الملقن؛ خرّج فيه
أحاديث «شرح الوجيز» لأبي القاسم الرافعي الشافعي» ويعرف ب«الشرح
*- «الدراية في تخريج أحاديث الهداية» للحافظ ابن حجرء وهو تلخيص
ل«نصب الرايةة.
؛ - «التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الشرح الكبير» للحافظ ابن حجرء
وهو تلخيص لهالبدر المنير» +
© - «التحقيق في أحاديث التعليق» للحافظ ابن الجوزي.٠
حقق فيه الأحاديث التي ذكرها القاضي أبو يعلى في كتابه: «التعليق الكبير
في المسائل الخلافية بين الأثمة».
+ - «الهداية في تخريج أحاديث البداية» للغماري» حرج فيه أحاديث «بداية
المجتهد» لابن رشد.
ومن العلماء الذين كتبوا في تحقيق أحاديث الأحكام الشيخ العلامة محمد
ناصر الدين الألباني كل فقد ألف كتاباً حافلاً سمّاه: «إرواء الغليل في
تخريج أحاديث منار السبيل»؛ خرّج فيه أحاديث كتاب «منار السبيل في شرح
الدليل» تأليف الشيخ إبراهيم بن محمد بن ضويان لِثل.
() دلائل النبوة 38/1
من تحرير وفوائد نسأل الله أن يغفر للشيخ الألباني» وأن يرفع درجته في
ولقد كان لجهود الشيخ الألباني الحديثية أثر كبير على النهضة المعاصرة
وقد تلقف عنه كثير من طلاب العلم الاهتمام بهذا الفن» واستفادوا من
ولقد استقر عند أهل العلم؛ أن فضل الرجل وأ في الخيرء لا
توجب عدم بيان ما وقع فيه من أخطاء؛ كما قال الإمام مالك: «كل يؤخذ من
ومن جميل ما قاله ابن القيم كِثَث في ذلك قوله:
نجري معهم في مضمارهم ونراهم فوقنا في مقامات الإيمان ومنازل الساثرين؛
أو نقصاً أو خطأ فليهد إلينا الصواب» تشكر له سعيه وتقابله بالقبول والإذعان»
والانقياد والتسليم» والله أعلم وهو الموفق»!"".
ويقول أيضاً: «شيخ الإسلام حبيب إليناء والحق أحب إلينا منه!"".
ويقصد بشيخ الإسلام صاحب «منازل السائرين».
: «ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق» لكان في
ويقول أي
الإمساك فسحة ومتسع"
مدارج السالكين 177/7 مدارج السالكين 777/9
© مدارج السالكين ؟/44» وانظر 87/7
«وإذا تبين له الخطأ في جواب غيره من العلماء؛ فلا بأس بالرد عليه
قال الفضل بن العباس الباهلي: «كان أول من أغرى ابن الأعرابي
بالأصمعي أن الأصمعي أتى ولد سعيد بن سلم الباهلي فسألهم عما يروونه من
سمين الضواحي لم تُؤَرْقه لي وأنعم أبكار الهموم وعونها
بين أهل العلم .
والمفيدة؛ وكان من أكثرها تحريراً وإتقاناً بالنسبة لباقي كتبه كتاب «إرواء
ولما كنت أقرأ في هذا الكتاب لفت انتباهي كثرة مخالفة أحكام الشيخغ
الألباني كِثَثهِ لأحكام الأثمة المتقدمين؛ حتى صار ذلك يشكل ظاهرة في
الكتاب» وإذا نظر الإنسان في الكتاب وجد أن هذا الاختلاف اج
اختلاف في المنهج؛ لا عن اختلاف في التطبيق» وهذا هو الإشكال الحقيقي.
ومن أهم المسائل التي اختلفت فيها طريقة المتقدمين عن المتأخرين ما يلي:
-١ زيادة الثقة.
- تصحيح الحديث الضعيف بمجموع طرقه.
المزهر في علوم اللغة 177/9
*- مسألة التدليس.
© - مسألة الجهالة.
- الشذوذ والنكارة.
تثبت بها أحكام شرعية غاية في الأهمية.
ولا أريد الإطالة بدراسة هذه المسائل فقد كُتبت فيها بحوث كثيرة؛ وقد
أخذ الجانب النظري لهذه المسائل حقه من الدراسة والبحث؛ لكن بقي الجانب
التطبيقي لم يكتب فيه بالقدر الكافي» وآمل أن يسد هذا الكتاب ثغرة
في الجانب التطبيقي لهذا العلم الشريف-
وكذلك لفت انتباهي أثناء قراءة «الإرواء» كثرة العبارات التي يقولها
حتى نشأ جمع من طلاب العلم ليس لكلام الأثمة في نفوسهم قيمة؛ ولا وزنء؛
الأحاديث من خلال ذلك عمق فهمهم؛ وشدة فحصهم بحيث تعرف لهم
ولو يسيرة
قول الشيخ الألباني كلل بعد كلام للحافظ أبي داود أعل به حديثاً: «وهذا الإعلال
وقال عن حديث أعله البخاري والترمذي والدارقطني : «وهذه العلل ليست بشيء».
مقبول مع الأئمة.
وعلى كل الأمر المهم هو اختلاف المنهج الواضح بين الشيخ الألباني والأئمة
المتقدمين في دراسة الأحاديث والحكم عليهاء
* الأولى: مسألة الاختلاف بين منهج المتقدمين والمتأخرين.
* والثانية: أهمية العناية بكلام الأئمة المتقدمين.
المسألة الأولى:
الاختلاف بين المتقدمين والمتأخرين وسبب الكلام فيها أن بعض أهل
العلم المعاصرين ذهب إلى نفي الفرق بين طريقة المتقدمين والمتأخرين في
الحكم على الأحاديث.
جلياً لكل من نظر في كلام الأئمة وتعليلاتهم» المبثوئة في كتب العلل والرجال.
المنهجين» ولا أعلم أحداً من أهل العلم سوى المعاصرين - أنكر وجود الفرق
الوزيرء وابن دقيق العيد؛ والشيخ المعلمي.
الفرق» ومن قرأه قراءة متانية بفهم؛ عرف أن هناك فرقاً ظاهراً بين منهج
المتقدمين والمتأخرين» وكذلك عرف فضل منهج المتقدمين وصحته.
يقول ابن رجب: «ثم إن الخطيب تناقض» فذكر في كتاب «الكفاية»
للناس مذاهب في اختلاف الرواة؛ في إرسال الحديث؛ ووصله.؛ كلها لا تعرف
عن أحد من متقدمي الحفاظ» إنما هي مأخوذة من كتب المتكلمين؛ ثم إنه
اختار أن الزيادة من الثقة تقبل مطلقاً . كما نصره المتكلمون وكثير من الفقهاء؛
7١7 شرح العلل ص )١(
وما اختاره الخطيب في الكفاية تبعه عليه جمهور المتأخرين؛ وهو ما
يخالف صنيع الأئمة؛ بل يخالف صنيع الخطيب نفسه؛ في كتابه «تمييز
المزيد»؛ كما تقدم؛ وفي هذا دلالة واضحة على الفرق بين منهج المتقدمين
ويقول ابن دقيق العيد: «إن لكل من أئمة الفقه؛ والحديث» طريقاً غير
طريق الآخرء فإن الذي تقضيه قواعد الأصول والفقه؛ أن العمدة في تصحيح
الحديث عدالة الراوي وجزمه بالرواية؛ ونظرهم يميل إلى اعتبار التجويز الذي
يمكن معه صدق الراوي وعدم غلطه؛ فمتى حصل ذلك؛ وجاز أن لا يكون
غلطاً؛ وأمكن الجمع بين روايته ورواية من خالفه؛ بوجه من الوجوه ١
لم يترك حديثه؛ فأما أهل الحديث فإنهم قد يروون الحديث من رواية
العدول؛ ثم تقوم لهم علل تمنعهم عن الحكم بصحته؛!".
فما ذكره ابن دقيق من أن طريقة الفقهاء الاعتماد على عدالة الراوي؛
وتجويز صدقه؛ هو الذي عليه عمل المتأخرين» وهذا الكتاب أي المستدرك -
مليء بالأمثلة على ذلك.
ويقول البقاعي - في مسألة تعارض الوصل والإرسال في الحديث»؛ والرفع
والوقف» وزيادة ال «إن ابن الصلاح خلط هنا طر؛ المحدثين بطريقة
الذي لا ينبغي أن يعدل عنه؛ وذلك أنهم لا يحكمون بحكم مطرد وإنما يدورون
وكتاب ابن صلاح؛ عليه اعتماد المتأخرين كما لا يخفى - ومع ذلك
يصرّح البقاعي أنه لم يحك طريقة الأئمة في هذه المسألة؛ مع ذكره للأقوال
وقال الحافظ ابن حجر - في سياق الكلام عن زيا -: «واشتهر عند
جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقاً. من غير تفصيل» ولا يتأتى ذلك
على طريق المحدثين» الذين يشترطون في الصحيح أن لا يكون شاذاًء؛ ثم
يفسرون الشذوذ بمخالفة الثقة من هو أوثق منه؛ والعجب ممن أغفل ذلك منهم؛
مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح؛ وكذا الحسن.
والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي؛ ويحبى
يتعلق بالزيادة وغيرهاء ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة»!'".
ولا أجد أوضح من كلام الحافظ في تقرير الفرق بين المنهجين؛ فهو يقرر
أن المنقول عن الأئمة يختلف عن المشتهر عن جمع من العلماء (وهو قبول
الزيادة مطلقاً)؛ بل نسب النووي في «شرح مسلم» القبول مطلقاً إلى جمهور
وذكر الحافظ ابن حجر حديث حذيفة: «من غسّل ميتاً فليغتسل»؛ ثم ذكر
أن ابن أبي حاتم والدارقطني في «العلل» قالا: لا يثبت؛ ثم قال الحافظ ابن
وطريقة الفقهاء» هي الطريقة التي يسير عليها المتأخرون» وما أكثر ما يرد
المتأخرون تعليلات الأثمة بأن رواة الحديث ثقات.
فالحافظ صرح بوجود طريقتين للنظر في الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً .
الأمر الثاني : (الدال على وجود الفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين):
الكتاب الذي بين يديك يعتبر برُمّته دليلاً على وجود الفرق بين المنهجين» وأن
اختلاف النتائج مبني على اختلاف المناهج» وإذا قرأته فستلمس بوضرح أن
الفرق سببه اختلاف الطريقة في تصحيح الأحاديث وتعليلها .
المسألة ١| : أهمية كلام الأئمة المتقدمين وعناية العلماء به:
اعتنى العلماء بكلام أئمة الحديث واحتفلوا به لما تفردوا به من الحفظ
والاستقراء في معرفة طرق الأحاديث وأحوال الرواة.
177/1 نزهة النظر ص١7 () التلخيص الحبير )١(
وإليك طرفاً من النقول الدالة على ذلك:
قال الحافظ ابن كثير:
«أما كلام هؤلاء الأئمة المنتصبين لهذا الشان» فينبغي أن يؤخذ مسلّماً من
الشأن؛ واتصافهم بالإنصاف والديانة والخبرة والنصح» لا سيما إذا أطبقوا على
تضعيف الرجل أو كونه متروكاً؛ أو كذاباً؛ أو نحو ذلك.
فالمحدث الماهر لا يتخالجه في مثل هذا وقفة في موافقتهم؛
الأحاديث: لا يثبته أهل العلم بالحديث ويرده؛ ولا يحتج به بمجرد ذلك؛
والله أعلم!".
وقال الحافظ ابن حجر:
«وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين» وشدة فحصهم؛
وقوة بحثهم» وصحة نظرهم»؛ وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في
ذلك والتسليم لهم فيه" .
ويقول السخاوي:
الأئمة المتقدمين الذين منحهم الله التبخر في علم الحديث؛ والتوسع في حفظه؛
كلام أحد المتقدمين الحكم به كان معتمداً؛ لما أعطاه الله من الحفظ الغزير وإن
اختلف النقل عنهم عُدل إلى الترجيح» .اما .
(1) الباعث الحثيث 183/1 النكت 116/9
© الفتح المغيث للسخاوي 107/1