وانتقى رواياته مما يدل على معرفته بالحديث وعلومه » وقد تعرض في هذا الكتاب
لموضوع مهم يتناول ناحية خطيرة من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ؛ وهي
الصلاة والسلام يرسم بذلك المثل الأعلى لأمته حكاماً ومحكومين » فقد كان بوسعه
أن يملك كل شيء » فلم ملك أي شيء !
المت اراب
ينتمي المؤلف حماد بن اسحق إلى بيت من أجل بيوت العلم بالعراق وقد اشتهر
العديد من رجالات هذا البيت بالعلم وجلالة القدر والسؤدد في الدين والدنيا ؛ وقد
نشروا مذهب الإمام مالك في العراق » وتردد العلم في طبقاتهم وبيتهم نحو ثلثياثة
عام من زمن جدهم الإمام حماد بن زيد وأخيه سعيد ومولدهما في نحو الماثة + إلى وفاة
آخرمن وصف منهم بعلم وهو المعروف بابن أبي يعلى ووفاته قرب أربعياثة! .
وقد تولى العديد من هذه الأسرة القضاء والوظائف الرسمية في العراق وغيره
فكان إسحق بن إسماعيل والد المؤلف ( 1756 - 170 ه ) متولياً للمظالم بمصر أيام
المأمون » وتولي الخطابة والإشراف أيام المعخصم » ولم يكن بالحافظ ولكن ولده وآله
تجردوا لمذهب مالك في أيامه وتفقهوا فيه" .
وكان إسماعيل بن إسحق القاضي شقيق المؤلف ( 787-700 ه) إماماً
علامة في سائر الفنون والمعارف » فقيهاً تحصلاً على درجة الإجتهاد » حافظاً معدوداً
في طبقات القراء وأئمة اللغة » له تآليف كثيرة في شرح مذهب الإمام مالك وتلخيصه
) 804 - 888/1 عياض : ترتيب المدارك وتقريب المسالك )(
والإحتجاج له ؛ وقد جع بين علوم القرآن والحديث وآثار العلماء والفقه والكلام
والمعرفة بعلم اللسان فكان من نظراء المبرد في علم كتاب سيبويه ؛ وهو أشهر آل حماد
ابن زيد ؛ وقد تولى قضاء بغداد والمدائن والنهروانات ؛ ثم تولى قضاء القضاة
آ » وأقام على القضاء وخمسين سنة ما عزل إلا سنتين وفي ذلك خلاف -
له ابن فرحون سبعة وعشرين مصنفاً! .
وكان أبو محمد يوسف بن يعقوب بن حماد ( 787-708 ه ) عالاً محدثاً
جليل القدر ؛ وهو ابن عم المؤلف » وقد تولى القضاء كما تولاه ابنه أبوعمر +
وأما ولد المؤلف إبراهيم بن حماد بن إسحق ( 140 - 377 ه ) فقد اشتهر
بالعلم والعبادة وتتلمذ عليه المشاهير كالدار قطني وأبي حفص بن شاهين ويوسف
بالقاضي الشيخ الصالح الرضى وقال عنه الدارقطني « ثقة فاضل » وقال مرة
جبل 6 .
فالحق أن آل حماد بن زيد خدموا علوم الإسلام خدمة جليلة » وبلغوا منزلة
رفيعة حتى قال أبوحمد الفرغاني التاريخي أنه « لم يبلغ أحد ممن تقدم من القضاة ما
بلغوا من اتخاذ المنازل والضياع والكسوة والآلة ونفاذ الأمر في جميع الآفاق ؛ وحسبك
لهم رجال صدق وخير وأبهة وورع وعلم وفضل !» .
فلا غرابة إذا ما انتشر مذهب الإمام مالك على أيديهم إنتشاراً باهراً » وإذا ما
() ابن فرحون.: الدبياج الذهب : 47 - 48 » وانظر ترجته في تاريخ بغداد للخطيب 4/ 184 وتذكرة
الحفاظ للذمي 1/ 316-316
(1) محمد محمد خلوف : شجرة النور الزكية 65 +
() تاريخ بقداد :31/9
(5» ابن فرحوت : الدياج الذهب 4-47 .
تفقه أهل العراق من المالكية بهم » ثم ضعف بعدهم ضعفاً ظاهراً » ويحجدد ابن
فرحون ذلك بجوت أبي بكر الأبهري وكبار أصحابه لتلاحقهم به ؛ ويعلل ذلك
بخروج القضاء عنهم إلى غيرهم من مذهب الشافعي وأبي حنيفة فقلّ طالب مذهب
الإمام مالك لإتباع الناس أهل السياسة والظهور _ على ما يرى "" .
ومن هذه الأسرة العلمية الرفيعة ووسط هذه الكوكبة اللامعة من العلماء بزغ
نجم حماد بن اسحق لينتظم في صف العلماء العاملين من أهله ؛ يجفزه تاريخ علمي
مجيد سجلته هذه الأسرة الماجدة منذ أن احتل جده الأعلى حماد بن زيد ات 1714
وما أعظم موقف السلف الصالح الخاشع أمام اجلال العلم وتكريم العلماء !
كان حماد بن زيد من « عقلاء الناس وذوي الألباب » فأورث أبناءه وأحفاده عقله
قرون. ولعل ذلك ببركة اشتغال حماد بن زيد بحديث المصطفى عليه الصلاة
ومن أغصان هذه الدوحة المباركة مؤلف كتاب « تركة النبي كله » فهوأبو
إسماعيل حماد بن إسحق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم الأزدي ( 144 -
7 ه ) بصري تولى القضاء ببغداد ؛ وحدّث بها عن مسلم بن إبراهيم الأزدي
الفراهيدي وعبد الله بن مسلمة بن فَعْْبَ وطبقتهما » وأبي عبد الله محمد بن يزيد
المدني مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه » كما سمع من إسماعيل
إين اسحق القاضي الذي كان إماماً علامه في سائر معارف وفنون وقته » وتفقه بأمد
ابن المعدذّل العبدي البصري» الفقيه؛ المتكلم » الزاهد النظار الذي كان نادرة
+ 444 شجرة النور الزكية )١(
+ 1١/9 أنظر : ترججة حماد بن زيد في سير إعلام النبلاء 497/8 » وتهذيب التهذيب )9(
الدنيا في الحفظ والمثل السائرفي
. كتاب المهادثة ١
كتاب الرد على الشافعي +
- تركة النبي َل ٠
وكان فصيحاً ؛ حسن القيام بمذهب مالك والإعتلال له ؛ كشير التصنيف
لفنون من علم الإسلام ؛ وقد ذكر الخطيب البغدادي تهمة وجهّت له بصيغة
التمريض دون أن يتعقبها قال : « واعتمد على تصنيف يعقوب بن شيبة وكلامه فيا
يقال - والله أعلم -» ا
ولا أدري السبب في سكوت الخطيب عن هذه التهمة ؛ ولعله لم يقف على
مؤلفاته ؛ وعلى آية حال فإنه في كتابه هذا د تركة النبي 88 » لا ينقل عن يعقوب بن
شبية . ويعقوب هذا من أقران حماد بن إسحق توفى سنة 177 ه ؛ وهو حافظ علامة
صلْف المسند الكبير المعلل ولم تذكر له المصادر مصنفاً سواه + ويحتوي مسنده على
أحاديث معللة ومادة واسعة في علم الرجال!"" وموضوع المسند بعيد عن الموضوعات
مؤلفات حماد بن إسحق ٠
عند بني العباس فكان يصحب الحخلفاء ؛ ثم جرت عليه محنة » وضرب بالسياط
وطرّف به في زمن الخنيفة المهتدي بالله لأمر لم تفصّله المصادر » وقد جرّذلك إلى
عزل أخيه عن القضاء ؛ وقد روى عنه ابناه أزهر وإبراهيم ؛ ومحمد بن جعفر
الخرائطي!" والحسين بن إسماعيل المحاملي . وقد وثقه الخطيب البغدادي » وكان
٠٠-144 أكوم ضياء العمري : موارد العطيب في تاريخ يغداد )١(
به درجة الدا
مولده في آخر سنة تسع وتسعين وماثة بال » الخطيب ؛ وَتَقَلٌ عن ابن
المنادي أنه ولد سنة ثيان وتسعين وماثة ؛ كما عنه أنه توفي بالسوس يوم الإثنين
لثلاث خلون من رجب سنة سبع وستين وماثتين » وجاء نعيُّه إلى أخيه إسماعيل بن
إسحق القاضي يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من رجب » وكان قد بلغ السبعين
من عمره . أما صاحب « شجرة التور الزكية » فسجل وفاته سنة 154 هل .
/17 أنظر : ترجمة حمادين اسحق في تاريخ بغداد للخطيب 8/ 164 . وسير إعلام النبلاء للذهبي ) ١(
6 108-1677 والديياج المذهب لابن فرحوة ١68 والمنتظم / 60 وشذرات الذحب ؟/ ٠١
© وشجرة النور الزكية محمد محمد خلوف
داس وتحليل رونا تكتاب تركة التي"
وبيته ونظرته إلى المال وتعامله مع الناس » وفيا بلي عرض وترتيب وتحليل للمرويات
التي وردت في كتاب ( تركة النبي ) مع توثيقها أو الإضافة إليها من مصادر أخرى »
وهى توضح صوراً من الزهد والتجاني عن الدنيا في حياة إمام الزاهدين بعيداً عن
عن وحتّي الألفاظ وغريب التراكيب مما ينتسب إلى لغة القرون الأولى » وإن استمد
منها وأخذ عنها . إذلا بد في هذا العصر من توطئة المعاني وتبسيط المباني ؛ والوصل
بين القديم والجديد أو الاصالة والمعاصرة » وبين الثابت والمتغير أو الناموس
والتطور » فالزهد في الماديات والاستعلاء على الشهوات والتجاني عن دار الغرور
والتطلع إلى حياة الخلود من صفات الأنبياء وسمات الصالحين » ولا يقتضي ذلك
تحقير نعم الله فليس هذا من هدي الرسول وأصحابه ؛ وإنما كان هَيهُمْ تقدير هذه
النعم وشكرها بالاستعانة بها على عبادة الله وطاعته » ولا يتناف الزهد مع ملك
الأموال وتناول طيبات الحياة مع الشكر للنعمة والذكر للمنعم ف( قل من حر
التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق6 فالزهد في الدنيا قصر الأمل وعدم الفرح_
بإقبالها والحزن على إدبارها كما روى عن الإمام أحمد بن حنبل » وهو الذي جعل
الزهد على ثلاثة أوجه :
الأول : ترك الحرام وهو زهد العوام ٠
الثاني : ترك الفضول من الحلال وهذا زهد الخواص
الثالث : ترك ما يشغل عن الله وهو زهد العارفين!" .
فليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال » ولكن أن تكون بما في
يد الله أوثق منك مما في يدك" . وكان علي بن أبي طالب ؛ وعبد الرحمن بن عوف
والزبير بن العوام وعثمان بن عفان من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال ؛ وكان عبد
المبارك والليث بن سعد من أثمة الزهاد مع ما كان لهم من الأموال الكثيرة!" .
عباده. فالزهد في خلو القلب من الدنيا ومتعلقاتها لا في خلٌّ اليدمنهاء فقد استعاذ
رسول الله قل من الكفر والفقر .
ولنستعرض صوراً من حياته عليه الصلاة والسلام في حالتي الشدة والرخاء
وإدبار الدنيا وإقبالها فهو إمام الزاهدين وقدوة المتقين ؛ ومن سيرته وهديه وأقواله
وأفعاله نعرف موازين العدل ومقاييس الصدق في الزهد والزاهدين .
لم يعرف رسول الل له الاستغراق في النوم على الفرش الوثيرة والطنافس
الناعمة منذ أن حمل أمانة الرسالة » فقد فرض عليه ربه عز وجل قيام الليل منذ
العهد المكي » فكان ينام على فراش صغير من جلد حشوه ليف !© . وأحياناً
فراش على حصير يؤثر في جنبه ؛ وتحت رأسه وسادة من جلد حشوها ليف أيضاًا» +
ام دون
وفي أوقات أخرى وضع تحته عباءة مثناة بدلاً من الفراش" » حتى إذا رات
ذلك امرأة من الأنصار بعشت إلى زوجه عائشة رضى الله عنها بفراش حشوه
)١( تهذيب مدارج السالكين ص 184 +
(1) المصدر السابق ص 188 وأما رفع هذا التعريف المزهد إلى الرسول ؤي فلا يصح لأن في إسناده عمرو
بن واقد الدمشفي وهو متروك ( انظر جامع الترمذي حديث رقم 3341 » وابن ماجة : سن حليث
رقم 410
(©) المصدر السابق ص 988 +
(4) فتح الباري 187/11 ؛ وأما صغره فيدل عليه حديث أبي داؤد في سننه ؛ كتاب الأدب 417
() تركة النبي ص 7+
)١( امصدر السابق ص 61 +
وكانت قريش تألف النوم على السرّر » فلا هاجر النبي كَل إلى المدينة المنورة +
ونزل على أبي أيوب الأنصاري ( رضي ) سأله إن كان يجد عنده مريراً » فلم يكن
عنده ؛ وبلغ ذلك أسعد بن زرارة فأرسل إليه سريراً له عمود » وقوائمه من ساج +
وهو مضفور من حبال الخصر » فليا
فراشاً رقيقاً لا جنع أر الحبال عن جسده الشريف * ؛ وكان ذلك بعد غزوة
أوطاس . وعقب حيازته أموال هوازن العظيمة في غزوة حنين » فلم يكن امتناعه
عن الفرش الوثيرة الناعمة بسبب ضيق ذات يده ؛ وإنما حذراً من الركون إلى النوم
العميق الذي يحول دون قيامه الليل » وتجافياً عن لذائذ الحياة ومنها لين الفراش
ونعومة العيش ؛ فليا طلب منه عمر ( رضي ) أن يتخذ فراشاً أوثر من فراشه أجابه
« مالي وللدنيا ؛ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت
شجرة ساعة ثم راح وتركها"» .
وقد استفاضت الروايات في بيان قلة الطعام في بيوت رسول الل كَلةٍ ١ فيا كان
أهله يشبعون من خبز الشعير يومين متتابعين » وكان جل طعامهم التمرء وحتى
96-88 المصدر السابق ص )١(
87 المصدر السابق ص )(
(©) سند أحد 41/6
(ه) فتح الباري 41/8
(1) مسد أحد 01/1
(0) صنحيح البخاري ؛ كتاب الغازي ؛ باب غزوة خيير 146/7 تدمع
والقثاء فقلما كانوا ينالونه ؛ وقد يمضي عليهم الشهر والشهران ما يوقدون ناراً تحت
قدر لا لخبز ولا لطبخ - إلا نادراً مكتفين بالتمر والماء !9 .
وقد يبيتون الليالي طاوين "لا يجدون عشاء ؟!
فكان جيرانهم من الأنصار يصلونم باللبن
وقد أتى النبي بطعام سُخن مرةٌ فأكل وحيد الله وقال : ما دخل بطني طعام
سخن منذ كذا وكذا '" . وقد ذكر عن نفسه (َقة) أنه أمضى مع أبي بكر ( رضي )
بضعة عشر يوم اما لهم من طعام إلا ثمر الآراك وذلك في طريق الهجرة ؛ وكان يصيبه
الجوعمن بيته وقت الظهيرة وشدة الحرا*' » وقد عصب بطنه في غزوة الخندق بحجرلما
يجد من الجوع !" ؛ وقد اضطره الجوع والضعف مرة إلى أن يضطجع في الطريق حتى
سقاه رجل قدحاً من لبن © .
وكان الرسولئلة يسأل ربه « الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا والزهد فها فوق
عز وجل أن يجعل له بطحاءً مكة ذهباً قال : لا يارب + ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً
. 187/11 تركة النبي 11 © 43 والفتح )١(
(1) سنن الترمذي حديث رقم +173
(©) رواه ابن ماجة بإسناد حسن ( فتح الباري 147/11 )
(؟) ثركة النبي ص 47
(ه) تركة النبي ص 47
5+ تركة التي ص )١(
() تركة النبي ص "© وقارن برواية صحيح مسلم الأشربة17/4 +
(ه) فتح الباري 147/1١ .
(4) تركة النبي ص 74
74 تركة النبي ص )٠١(