مِنْ رَبكَ؟14» فأمره أن يقول نزله روح القدس من ربك
قوله بما ينزل والمراد به القرآن كما يدل عليه سياق القرآن»
وقوله: أوالله أعلم بما ينزل» فيه إخبار الله بأنه أنزله لكن
ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به ولا أنه
منزل منه» ولفظ الإنزال في القرآن قد يرد مقيداً بالإنزال منه
كنزول القرآن» وقد يرد مقيداً بالإنزال من السماء؛ ويراد به
العلو فيتناول نزول المطر من السحاب» ونزول الملائكة من
عند الله وغير ذلك» وقد يرد مطلقاً فلا يختص بنوع من
الإنزال» بل ربما يتناول الإنزال من رؤوس الجبال كقوله:
ْنَا الحَدِيدَ فيه بس شَدِيدٌ» والإنزال من ظهور
الحيوان كإنزال الفحل الماء وغير ذلك. فقوله: لإنزّله روح
)١( سورة النحل الآية
(1) سورة الحديد الآية 78
القدس من ربك بالحق» بيان لنزول جبريل به من الله فإن
ون وفي قوله
الأمين دلالة على أنه مؤتمن على ما أرسل به لا يزيد فيه
ولا ينقص منه فإن الرسول الخائن قد يغير الرسالة كما قال
إمنزل من ربك دلالة على أمور منها بطلان قول من يقول
إنه كلام مخلوق خلقه في جسم من ن الأجسام المخلوقه كما
هو قول الجهميين الذين قالوا بخلق القرآن من المعتزلة
والنجارية والضرارية وغيرهم من السلف كانوا يسمون كل
من نفى الصفات وقال إن القرآن مخلوق وأن الله لا يُرى في
الآخرة جهمياً. فإن جهماً أول من ظهرت عنه بدعة نفي
)١( سورة البقرة
)١( سورة الشعراء الآية 144
() سورة التكوير الآية 14 - 3١
الأسماء والصفات وبالغ في نفي ذلك فله في هذه البدعة مزية
المبالغة في النفي والإبتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه
من أحدّث ذلك في الإسلام فضحى به خالد بن عبد الله
القسري بواسطة يوم النحر وقال أيها الناس ضحوا يقبل الله
ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم
يتخذ إبراهيم خليلا يكلم موسى تكليماً تعالى الله عما يقول
الجعد بن درهم علواً كبيراً ثم نزل فذبحه ولكن المعنزلة
وإن وافقوا جهماً على بعض ذلك فهم مخالفوه في مسائل
غير ذلك: كمسائل القدر والإيمان وبعض مسائل الصفات
وجهم يقول إن الله تعالى لا يتكلم أو يقول إنه يتكلم
بطريق المجاز وأما المعتزلة فيقولون إنه يتكلم حقيقة لكن
قولهم في المعنى هو قول جهم وجهم ينفي الأسماء أيضاً
كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة وأما جمهور
المعتزلة فلا ينفون الأسماء والمقصود أن قوله: «منزل من
ربك» فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من
المخلوقات ولهذا قال السلف منه بدا أي هو الذي تكلم به
من ربك» فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس الي
من العقل الفعال أو غيره كما يقول ذلك طوائف من
الفلاسفة والصابئة وهذا القول أعظم كفراً وضلالاً من الذي
العربي ليس منزلاً من الله بل مخلوق إما في جبريل أو
محمد أو جسم آخر غيرهما كما يقول ذلك الكلابية
والأشعرية الذين يقولون إن القرآن العربي ليس هو كلام الله
وإنما كلامه المعنى القائم بذاته والقرآن العربي خلق ليدل
على ذلك المعنى ثم إما أن يكون خلق في بعض الأجسام
الهواء أو غيره أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي أو
ألهمه محمد فعبّر عنه بالقرآن العربي أو يكون أخذه جبريل
من اللوح المحفوظ أو غيره» فهذه الأقوال التي تقال تفريع
على هذا القول فإن هذا القرآن العربي لا بد له من متكلم
تكلم به أولاّ قبل أن يصل إلينا وهذا القول يوافق قول
المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي وكذلك
التوراة العبرية ويفارقه من وجهين أحدهما أن أولئك يقولون
إن المخلوق كلام الله وهؤلاء يقولون إنه كلام الله لكن
يسمونه كلام الله مجازاً وهذا قول أثمتهم وجمهورهم» وقال
طائفة من متأخريهم بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا
بالإشتراك اللفطي لكن هذا ينقض أصلهم في إبطال قيام
الكلام بغير المتكلم به وهم مع هذا لا يقولون إن المخلوق
كلام الله حقيقة كما تقوله المعنزلة مع قولهم أنه كلامه
حقيقة بل يجعلون القرآن العربي كلاماً لغير الله وهو كلامه
حقيقة وهذا شر من قول المعتزلة وهذا حقيقة قول الجهمية
ومن هذا الوجه» فقول المعتزلة أقرب وقول الآخرين هو
قول الجهمية المحضة لكن المعتزلة في المعنى يوافقون
هؤلاء وإنما ينازعونهم في اللفظ الثاني. إن هؤلاء يقولون لله
كلام هو معنى قديم قائم بذاته والخلقية يقولون لا يقوم بذاته
كلام ومن هذا الوجه فالكلابية خير من الخلقية في الظاهر»
لكن جمهور الناس يقولون إن أصحاب هذا القول عند
التحقيق لم يثبتوا له كلاماً حقيقة غير المخلوق فإنهم يقولون
إنه معت واد هو الأمر والنهي والخبر فإن عبر عنه بالعربية
بالسريانية كان إنجيلاً» ومنهم من قال هوخمس معان.
وجمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة
بعد التصور التام والعقلاء الكثيرون إن على الكذب
وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق كما في مخبر
الأخبار المتواترة» وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب
عمداً وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل
منهم أنه جاحد للضرورة ولويفهم حقيقة القول الذي يعتقده
لحسن ظنه فيمن يقلد قوله : ولحبه لنصر ذلك القول كما
اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على
مقالات يعلم فسادها بالضرورة.
وقال جمهور العقلاء نحن اذا اعربنا التوراة والانجيل
«َتبْتْ يُدَا أبي لَهَب» ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية
الدين: وقال إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئاً
واحداً فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع
والبصر صفة واحدة فاعترف أئمة لهذا القول بأن هذا الالزام
١ سورة المسد الآبة )(
ليس لهم عنه جواب عقلي : ثم منهم من قال الناس في
الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد وإما ناف لها وأما إثباتها
واتحادها فخلاف الاجماع وهذه طريقة القاضي أبي بكرا'»
وأبي المعالي وغيرهما: ومنهم من اعترف بأنه ليس له
القرآن من ربه والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه بدليل
قَرَأتَ القُرْآنَ»1*» وإنما يقرأ القرآن العربي لا
)١( أبو بكر: هو القاضي محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر؛ من كبار علماء
الكلام. انتهت إليه الرياسة في مذهب الأشاعرة. ولد في البصرة عام
8 ه الموافق 400 م؛ وتوفي في عام 407 هد الموافق 1017 م6
كان جيد الاستنباط؛ سربع الجواب.
(1) أبو المعالي هر عن الماك ين عي لين لاسن محل ليقي + جاع
المعالي» ركن الدين» الملقب بإمام الحرمين» أعلم المشاخرين من
أصحاب الشافعي؛ ولد في جوين (نيسايور) عام 114 ه؛ الموافق
٠4 م. ورحل إلى بغدادء ثم إلى مكة وجاور الحرم أربع سنين وأفتى
في المدينة. ثم عاد إلى نيسابور فبنى له الوزير نظام الملك «المدرسة
النظامية» . مات سئة 278 هد الموافق 1686م
() سورة النحل الآية 1١7
(؟) سورة النحل الآية 8
نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله فلا يكون
شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة ولا نزله من
هذا القرآن العربي بشر لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر
معانيه فقط بدليل قوله: «إلسان الذي يلحدون إليه أعجمي
وهذا لسان عربي مبين6 فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن
هو الذي يعلم محمداً القرآن لسان أعجمي والقرآن لسان
عربي مبين وعبر عن هذا المعنى بلفظ يلحدون لما تضمن
1١١ سورة النحل الآية )١(
1١* سورة النحل الآية )7(
لقولهم فإن الانسان قد يتعلم من الاعجمي شيئاً بلغة ذلك
الأعجمي ويعبر عنه هو بعبارته وقد اشتهر في التفسير أن
بعض الكفار كانوا يقولون هو تعلمه من شخص كان بمكة
أعجمي قيل أنه كان مولى لابن الحضرمي واذا كان الكقار
جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشراً والله أبطل
ذلك بأن لسان ذلك أعجمي وهذا لسان عربي مبين علم أن
روح القدس نزل باللسان العربي وأن محمّداً لم يؤلف نظم
أن القرآن الذي هو اللسان العربي سمعه روح القدس من
الله ونزل به منهء ونظير هذه الآية قوله تعالى : لَوكَذَلِكَ
117 صورة الأنعام الآية )١(
118 سورة الأنعام الآية )1(