العقبة نعتهم بقوله : إوتواصوا بِالصَّيْرٍ وتواصوا بِالمّرْحَمَة6!'». نعم بهذا
الوصف الكريم النبيل فإنهم لا يرحم بعضهم بعضاً فحسب بل يوصي
كل منهم أخاه أن يحرص على التكافل والتراحم والتواد. فيؤكد عليه؛
المصلحين ا 1 ا تتم بقولله مات
وتواترت النصوص عن النبي - صلَّى الله عليه وسلّم في التأكيد
التراحم والحب والإحسان. وتنهى عن التباغض والتظالم والبغي
وقد غفر اللَّهُ لامرأة مومس من بني إسرائيل لأنها رحمت كلباً يشكو
من الظماء فسقته» فشكر اللَهُ لها صنيعها وغفر لها. وهي مومس؛ من
وأدخل الله النار امراةً من أجل هِرَّة حستهاء ولم ترحمهاء حتى
- وهذا الكتاب «ذم البغي» للحافظ الصدوق ابن أبي الدنيا
البغدادي (ت 7181ه) يتجلى فحواه من عنوانه. فإنه عمل تربوي هادف
أراد مصنفه من وراءه أن ينبه الجيل المسلم إلى عاقبة الظلم؛ ومآل
البغي وأن لا ييدلوا نعمة الله كفراً. فيتحولوا من الجو التراحم إلى جو
التباغض» ومن حياة الحب والتأخي إلى حياة البغي والتجافي .
© - والبغي : هو الظلم» والتجاوز عن الحد. يقال: بغى على
غيره» أي استطال وظلم .
وقد تحدث القرآن الكريم عن صفة البغي فاعلن أنَّ هذه الخلّة
المذمومة من طبائع الكثير من بني البشر. فشدٌ أن تجد المنصف العدل
فيهم . وأعلن كذلك بوضوح أن هذه الصفة الذميمة لم يفلح من التملص
وقضى أن تكون عقوبته نافذة فاعلة عاجلة في الدنيا قبل الآخرة؛ فعن
أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلّم - أنه
في الدنيا. مع ما يدخر في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي 494
الحافظ ابن أبي الدنيا في هذا الكتاب؛ اعتبر التعالي والتطاول»
والعجب. والتعيير من الخلال المذمومة التي تدخل في إطار الظلم
والبغي .
وهذه الدقيقة الإصلاحية استفادها المصنف من كبار المربين
والمصلحين من السلف الصالح . فقد فسر الإمام سعيد بن جبير قول الله
() أخرجه المصنف في هذا الكتاب بسند صحيح وغيره من الحفاظ» انظر رقم )١(
بيد أنه تبقى لابن أبي الدنيا سابقته في التنبه لهذه الدقيقة بحسه
التربوي» وبحكم صناعته باعتباره كان مؤدباً ومربياً ومثقفاً. فقد أخرج في
هذا الكتاب عن إبراهيم بن يزيد النخعي أنه قال: «إني لأجدُ نفسي
تحدثني بالشيء؛ فما يمنعني أن أتكلم به إلا مخافة أن أبتلى بهم"
وأخرج عن أبي ميسرة عمروبن شرحبيل الهمداني أنه قال:
«لورأيت رجلا يرضع عنزاً فسخرت منه خشيت أن أكون مثله».
ولما ركب ابن سيرين الذِينّ . وحبس به» قال: «إني لأعرف
وهذه تنبيهات تربوية هامة من هؤلاء الأئمة الكبار. وتيقظ دقيق من
المصنف في إدراج أمثال هذه النصوص في كتابه هذا. فإِنَّ هذا النوع
وتتبع عيوبه؛ وكشف عورته فإنه سيعاقب عاجلا واجلا على شماتته
)38( انظر النص رقم (3) و )١(
(©) انظر تخريجه في رقم (37) من هذا الكتاب
(4) انظر ابن رجب الفرق بين النصيحة والتعيير:47
وهذان النوعان كلاهما استطالة وتجاوز واعتداء لأن المستطيل إن
استطال بحق فقد افتخر. وإن استطال بغير حق فقد اعتدى وظلم.
والأمران محرمان منهيّ عنهما في شرع الله عزوجلٌ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا المعنى: «نهى اللَهُ
سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن نوعي
الاستطالة على الخلق؛ وهي : الفخر والبغي . لأنَّ المستطيل إن استطال
وفي الحديث الصحيح عن عياض بن حمار المجاشعي؛ أن النبيّ
+ - ويأتي بعت كتاب الحافظ ابن أبي الدنيا «ذمٌ البغي» في
عصر تفشى فيه الظلم» وضرب أطنابه في كل مكان. ظلم تمارسه دول
الصور الظالمة البشعة من ألوان الظلم والبغي والعدوان.
ويوم أن وضع ابن أبي الدنيا كتابه هذا إنما هدف من وراثه
معالجة الواقع الإسلامي وقتذاك (القرن الثالث الهجري). فقد كان
. 401/1 : ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم )١(
أخرجه مسلم في «صحيحه: 4 رقم متدا. )١(
المجتمع الإسلامي المنفتح الرحيب يعجّ بالتيارات والاتجاهات. ويزخر
بالأفكار والآراء والاجتهادات. وكانت هذه التيارات تشمل جميع مناحي
المعرفة في البنية الإنسانية. وتغطي كل النشاطات الحيوية في المجتمع
الإسلامي الصاعد المتفتح . فهناك التبارات السياسية؛ والعقدية»
حقل من هذه الحقول مذاهب وتوجهات ولكل مذهب أئمة وأتباع. وكان
الصراع الفكري» والثقافي على أشدّه. ويوم أن بدأ المسلمون الأوائل
الأمر لا يعدو النصيحة للإسلام والمسلمين» ولا يقصد به إل إحقاق
وكان في خضم هذه الأمواج المتلاطمة من الآراء والمذاهب حق
لقد رأى الإمام ابن أبي الدنيا هذه الحالة المشحونة المُشرّعة
شباب الجيل المسلم قد نسوا فريضة الأخوة» وتجاوزوا حرمتهاء في هذا
وهي البغضاء محل الأخوة والصفاء. وهي صورة مناقضة للصورة التي
تحدث عنها القرآن في صفة المؤمنين؛ يقول الله تعالى: محمد
رسولُ الله والذينَ معه أشداءً على الكفار رحماء بينهم»").
عند ذلك أدرك المربون والمصلحون والدعاة أمثال ابن
من النبلاء والعلماء أنه لا بد من إيقاظ شباب الجيل من سباتهم؛ فكانت
صفوة ما علموه من كنوز النبوة» وذخائر الأصحاب البررة» وثمار التابعين
بالأمس واليوم.
خاتمته مسنداً موصولاً. فهو كتاب تراثي مسند. وضع في عصر التصنيف
للسنة النبوية. وهو من أزهى العصور الإسلامية قاطبة بالنسبة لتنظيم السنة
وتصنيفها .
وإن مؤلفه الحافظ الصدوق ابن أبي الدنيا من أقران رجال الكتب
الستة (البخاري؛ ومسلم » وأبي داود» والترمذي» والنسائي ؛ وابن ماجة)
وقد شاركهم في الرواية عن أغلب شيوخهم . وبهذا يكون هذا الكتاب
الدنيا
وهو كذلك أثر تربوي هام باعتبار أنَّ مصنفه من كبار المربين. فقد
78: سورة الفتح )١(
أوقف حياته على صنعة التأديب والتثقيف والتربية. فهو مؤدب أولاد
الخلفاء. وعلى يديه تخرج العديد من النبغاء والنبلاء من طلبة العلم.
وكيف لا يكون كذلك وقد تأثر تأثراً مباشراً بشيخه الإمام الرباني أحمد بن
حنبلء والإمام العالم المؤدب أبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم من
المربي
4 - وقد صنقه في عصر من أكثر العصور نشاطاً وحيوبة في جمع
وتضمّن الكتاب بلسان الحال صورةً عن الواقع الذي كان يعيشه
المجتمع الإسلامي وقتذاك. مع محاولةٍ لعلاجه. ذلك أن ابن أبي الدنيا
لم تأنه فكرة الكتاب من فراغ» وإنما جاءت ضرورة ملحة تقتضيها أجواء
والمعتزلة؛ ومدارس فقهية وحديثية وغير ذلك .
كما أن الناشئة المسلمة لم تدرك أيام الجهاد والكفاح» ولم تأخذ
في الكلام؛ وغير ذلك من الحالقات؛ التي تحلق الذّين وتمزق انف
المسلمين» وتذهب صفاء المؤمنين.
فالخلاف أوله تشهير وافتتان» ثم يتحول إلى تكفير واقتتال» وهذا
شأن الفتن دائماًء فإنها تتطور وتعسر السيطرة عليهاء وكم في التاريخ من
فأراد ابن أبي الدنيا أْيُفَعْدَ لأسس, السلوك الإسلامي في عصر
والعلم من بعد ما كادت الخلافات تستهلك ما عند الناس من خير» فسطرٌ
المربين والعلماء الربانيين.
وكان يعلم أن هؤلاء الأخيار لم يقولوا كلامهم اعتباطاً» بل كانت
تأملاتهم قائمة على ملاحظة وتفحص لمسيرة جيلهم؛ فيقدّمون له
بين لهم ابن أبي الدنيا أخلاق السلف وما كانوا عليه من الأخوة
من صلاح قلوبهم. فأرادهم أن لا يتمسكوا بفرع على حساب أصل»
ويدندنوا حول فروع قد تفقوت معها فرائض الأخوة.
التربوية فيسدوا على أنفسهم باب البراء والجدل» الذي هوطريق البطالة
والذي به يذهب الود وتضيع الأخوة. ويؤل أمرهم إلى البغي والظلم
وهذه النصوص التي أخرجها ابن أبي الدنيا في هذا الكتاب