القلب الحيّ الذي يعقل عن الله ؛ كما قال تعالى : ا إِنْ هُوٌ إن
إلى ما يقال له » وهذا شرط التأثر بالكلام +
وقوله : ( وَهُوَ شَهِيدٌ » أي شاهد القلب حاضر غير غائب . قال
ابن قتيةا) : «استَمَعَ كتاب الله وهو شاهد القلب والفهم » ليس بغافلٍ
ولا سا ل" وه وْإشارة إلى المائع من حصول التأثبر ؛ وهو سهو القلب +
وغيبته عن تعقل ما يقال له » والنظر فيه وتأمله . فإذا حصل المؤثر وهو
القرآن ؛ والمحل القابل وهو القلب الحيّ ؛ وود الشرط وهو الإصغاء »
وانتفى المائع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب » وانصراقه
عنه إلى شيء آخر ء حصل الأثر وهو الانتفاع والتذكر .
فإن قيل : إذا كان التأثير إنما يتم بمجموع هذه ؛ فما وجه دخول
)١( هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ؛ أبو محمد » من اثمة الأدب ؛ ولد ببغداد
سنة 117ه وسكن الكوفة » ثم ولي قضاء « الدينور » مدة فنسب إليها » وتوفي ببغداد
اسنة 77776ه ء له تصانيف كثيرة ؛ منها : « عيون الأخبار » و« الشعر والشعراء »
و« مشكل القرآن » وه تفسير غريب القرآن » و« المعاني الكبير» وه الأنواء »
و« تأويل مختلف الحديث » و« غريب الحديث » و« دلائل النبوة » و« أدب الكاتب »+
وغيرها .
(9) غيب القرآذ ص 414 وفي اللسان : وقوله تعالى : ن( أو ألقى السمع وهو شهيد » أي
أداة « أو» في قوله : أَوْ آلقَنْ السَّمْعَ ١» والموضع موضع واو الجمع
لا موضع د أو» التي هي لأحد الشيئين ؟
قيل : هذا سؤال جيد » والجواب عنه أن يقال : خرج الكلام بأو
باعتبار حال المخاطب المدعوٌ » فإن من الناس من يكون حي القلب
واعيه » تام الفطرة » فإذا فكر بقلبه ». وجال بفكره » دل لبه وعقله على
ادق نورٍ هدي الله 8 و من
الفطرة على نور الوحي ؛ وهذا حال صاحب ب ب ل“ ٍ
قال ابن القيم : وقد ذكرنا ما تضمنت هذه الآية من الأسرار والعيّر
في كتاب « اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة
والجهمية »') . فصاحب القلب يجمع بين قلبه وبين معاني القرآن +
)١( قال المصنف رحمه الله تعالى في «اجتماع الجيوش على غزو المعطلة والجهمية » ص
فصل : وقوله تعالى : ف( مثل نوره كمشكاة فيها مصباح » هذا مثل لنوره في قلب
عبده المؤمن » كما قال أي بن كعب وغيره » وقد اختلف في مفسر الضمير في
نوره » فقيل : هو النبي صلى الله عليه وسلم » أي مثل نور محمد صلى الله عليه
وسلم ؛ وقيل : مفشره المؤمن » أي مثل نور المؤمن ؛ والصحيح أنه يعود على الله
سبحانه وتعالى . والمعنى مثل نور الله سبحانه وتعالى في قلب عبده وأعظم عباده نصيباً <
من هذا النور رسوله صلى الله عليه وسلم + فهذا مع ما تضمنه عود الضمير المذكور-
وهو وجه الكلام يتضمن التقادير الثلاثة ؛ وهو أتم لفظاً ومعنى . وهذا النور يضاف
فيضاف إلى الفاعل والقابل » ولهذا النور فاعل وقابل ومحل وحامل ومادة » وقد
تضمنت الآية ذكر هذه الأمور كلها على وجه التفصيل » فالفاعل هو الله تعالى مفيض
الأنوار » الهادي لثوره من يشاء . والقابل العبد المؤمن .والمحل قليه؛والحامل همته
وعزيمته وإرادته ؛ والمادة قوله وعمله ؛ وهذا التشبيه العجيب الذي تضمته الآية فيه
من الأسرار والمعاني وإظهار تمام نعمته على عبده المؤمن بما أناله من نوره ما تقربه
عيون أهله وتبتهج به قلويهم ١ ٠ه
قال المصنف رحمه الله تعالى في « الوابل الصيب » ص ١١7 - ٠١4 من طبعتنا
مكتبة دار البيان بدمشق :
وقد ضرب سبحانه وتعالى النور في قلب عبده مثلٌ لا يعقله إلا العالمو؛ » فقال
قال بي بن كعب : مكل نُورهِ في قلب المسلم
نوره الذي أنزله إليهم ؛ فاحياهم به » وجملهم يمشون به بين الناس ؛ وأصله في
قلوبهم ؛ ثم تقوى مادته . فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدائهم ١ بل
القيامة يرز ذلك النور » وصار بأيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى
على الجسر بمقدار ذلك » بل هو نفس تنوره ظهر له عياناً » ولما لم يكن للمنافق نور
والذهاب
وضرب الله عز وجل لهذا النور ؛ ومحله ؛ وحامله ؛ ومادته مثلا بالمشكاة
وبر
الكوة . في الحائط » فهي مثل الصدرء وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى
الزجاج » وحتى شنّهت بالكوكب الُريٍّ في بياضه وصفائه » وهي مثل القلب +
وشبهت بالزجاجة لأنها جمعت أوصافاً هي في قلب المؤمن ؛ وهي : الصفاء +
والرقة » والصلابة ؛ فيرى الحى والهدى بصفائه وتحصل منه الرأفة والرحمة +
والشفقة بره . ويجاهد أعداء الله تعالى , ويغلظ عليهم ؛ ويشتد في الحق ويصلب
ل ل م [الفتج : 4؟] وقال تعالى : ف قَبِمًا رَحْمَةٍ
وقال تعالى : ؤي أيه اليّ جَاهد الكُمَّرَوالمنافة
وفي أثر : « القْلوبُ آن
وبإزاء هذا القلب قلبان مذمومان في طرفي نقيض . أحدهما : قلب حجري قاس
عالم بالحقى » ولا راحم بالخلق . وبإزائه قلب ضعيف مائي » لا قوة فيه ؛ ولا
استمساك » بل يقبل كل صورة » وليس له قوة حفظ تلك الصور » ولا قوة الا
غير » وكل ما خالطه ٍ
مصباح » وهو النور الذي في الفتيلة ؛ وهي حاملته » ولذلك النور مادة ؛ وهوزيت قد
عصر من زيتونة في أعدل الأماكن التي تصيبها الشمس أول النهار وآخره » فزيتها من
أصفى الزيت وأبعده من الكدر ؛ حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار » فهذه مادة
تور المصباح .
وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن ؛ هو من شجرة الوحي التي هي
أعظم الأشياء بركة ؛ وأبعدها من الانحراف ؛ بل هي أوسط الأمور واعدلها وأفضلها +
لم تتحرف انحراف النصرانية » ولا انحراف اليهودية » بل هي وسط بين الطرفين
المذمومين في كل شيء ؛ فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن
ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه » ثم خالط الثار +
على نوره الذي فطره الله تعالى عليه ؛ فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة فصار
ب" والفطرة
وتعالى نوره في السموات والأرض » ونوره في قلوب عباده المؤمنين ؛ النور المعقول
المشهود بالبصائر والتور الذي استنارت به البصائر والقلوب » والنور المحسوس
المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي » فهما نوران
عظيمان » أحدهما أعظم من الآخر » وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع +
لم يعش فيه آدمي ولا غيره ؛ لأن الحيوان إنما يتكوّن حيث النور ء ومواضع الظلمة
التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان » ولا يتكون ألبتة . فكذلك أمة فقد فيها
نور الوحي والإيمان ؛ وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد » لا حياة له ألبتة ؛ كما لا
حياة للحيوان في مكان لا نور فيه .
والله سبحائه وتعالى يا بين الحياة والنور » كما في قوله عز وجل أَرَمَنْ كَانَ
منهَا 4 [الأنعام : ]١77 وكذلك قوله عز وجل : وكذلك أَوْيْنَا
عبَادِنَا » [الشورى : 87] .
وقد قيل : إن الضمير في جَمَلْتَةُ » عائد إلى الأمر ء وقيل : إلى الكتاب +
من الإشراق والإضاءة ؛ وهما متلازمان » فحيث وجدت هذه الحياة بهذا ألروح +
فلهذا يضرب سبحانه وتعالى المثلين ا ا
والاشراق . وأبقى عليهم ما فيه الاذى والإحراق ٠
وكذلك حال المنافقين : ذهب نور إيمانهم بالنفاق » وبقي في قلوبهم حرارة الكفر
والشكوك والشبهات تغلي في قلوبهم ؛ وقلويهم قد صليت بحزها واذاها وسموتها
ووهجها في الدنيا فأصلاها الله تعالى إياها يوم القيامة ناراً موقدة
فهذا مثل من لم يصحبه نور الإيمان في الدنيا + بل خرج منه وفارقه بعد أن استضاء
به ؛ وهو حال المنافق عرف ل ثم ألكر ء وار ثم جحد » فهو في لمات اصع أبكم
أعمى » كما قال تعالى في حى إخوانهم من الكفار : م ٍ 1
في القلماتِ » [الأنعام : 4*] وقال تعالى : مَك الذي قروا فتك الذي َيل
تعالى حال المنافقين في خروجهم من النور بعد أن أضاء لهم بحال مستوقد الثار
وذهاب نورها عنه بعد أن أضاءت ما حوله ؛ لأن المنافقين بمخالطتهم المسلمين
وصلاتهم معهم ؛ وصيامهم معهم ؛ وسماعهم القرآن » ومشاهدتهم أعلام الإسلام
يَرْجِعُونَ > [البقرة : 18] إليه ؛ لانهم فارقوا الإسلام بعد أن تليسُوا به واستثاروا +
فهم لا يرجعون إليه
وقال تعالى في حق الكفار : فَهُمْ لا يَعْقلُونَ » لانهم لم يعقلوا الإسلام + ولا
فبحان من جعل كلامه لأدواء الصدور شافياً ٠ وإلى الإيمان وحقائقه منادياً ؛ وإلى
الحياة الأبدية والنعيم المقيم داعياً ؛ وإلى طريق الرشاد هادياً . لقد أسمع منادي
ولكن عصفت على القلوب أهوية الشبهات والشهوات ؛ فاطفأت مصابيحها ؛ وتمكنت
كبها ؛ فلم ينفع فيها الكلام ؛ وسكرت بشهوات الغي وشيهات الباطل ؛ فلم تصغ
بعده إلى الملام ؛ ووعظت بمواعظ أنكى فيها من الأسئّة والسهام + ولكن مانت في
بحر الجهل والغفلة ؛ وأسر الهوى والشهوة +
والمثل الثاني المائي قوله تعالى : أ
[البقرة : 14] الصيب : المطر الذي يصوب من السماء ؛ أي : ينزل منها بسرعة +
وهو مثل القرآن الذي به حياة القلوب » كالمطر الذي به
والحيوان + درك التومتين ذظلف مت > :وطلمزا ما يحل يه من التحياة التي لا خطر
لها ؛ فلم يمنعهم منها ما فيه من الرعد والبرق » وهو الوعيد والتهديد ؛ والعقوبات -
: 17/1] ؛ وشبه
الأرض والنبات
واخبر أنه منزلها يمن كذِّب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ أو ما فيه من الأوامر الشديدة , كجهاد الأعداء ؛ والصبر على
والمثلات القي حذر الله بها من خالف أمره
والرعد والبرق ولكن من علم مواقع الغيث وما يحصل به من الحياة لم يستوحش لما
معه من الظلمة والرعد والبرق » بل يستأنس لذلك ؛ ويفرح به لما يرجو من الحياة
والخصب .
يخطف البصر ء ورعداً عظيماً وظلمة » فاستوحش من ذلك وخاف منه ؛ فوضع
أصابعه في أذنيه لثلا يسمع صوت الرعد » وهاله مشاهدة ذلك البرق » وشدة لمعائه +
وعظم نوره ؛ فهو خائف أن يختطف معه بصره ؛ لان بصره أضعف من أن يثبت معه +
فهو في ظلمة يمع أصوات الرعد القاصف ؛ ويرى ذلك البرق الخاطف » فإن أضاء
له ما بين يديه مشى في ضوثه ؛ وإن فقد الضوء قام متحيراً لا يدري أين يذهب +
ولجهله لا يعلم أن ذلك من لوازم الصيب الذي به حياة الأرض والنبات ؛ وحياته هو
فالوحشة لازمة له » والرعب والفزع لا يفارقه -
وأما من أنس بالصيِّب » وعلم ما يحصل به من الخيرات والحياة والنفع » وأنه
لا بد فيه من رعد وبرق وظلمة بسبب الغيم ؛ استأنس بذلك ولم يستوحش منه » ولم
فهذا مثل مطابق للصيّب الذي نزل به جبريل صلى الله عليه وسلم من عند رب
العالمين تبارك وتعالى على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحيى به القلوب
والوجود أجمع ؛ اقتضت حكمته أن يقارنه من الغيم والرعد والبرق ما يقارن الصيِّب من
الماء حكمةٌ بالغة وأسباباً منتظمة نظمها العزيز الحكيم
فاستوحش بما أنس به المؤمنون ؛ وارئاب بما اطمأن به العالمون ؛ وشك فيما تيقنه
المبصرون العارفون » فبصره في المثل الناري كبصر الخفاش نحو الظهيرة ؛ وسمعه
في المثل الماني كسمع من يموت من صوت الرعد . وقد ذُكر عن بعض الحيوانات
أنهار تموت من صوت الرعد
وإذا صادفت هذه العقول والأسماع والأبصار شبهات شيطائية؛ وخيالات فاسدة +
وظنون كاذبة ؛ جالت فيها وصالت ؛ وقامت بها وقعدت ؛ واتسع فيها مجالها ؛ وكثر
لا يكون تام الاستعداد » واعي القلب ؛ كامل الحياة ؛ فيحتاج إلى شاهد
يميز له بين الحق والباطل » ولم تبلغ حياة قلبه ونوره وزكاء فطرته مبلغ
صاحب القلب الحيّ الواعي » فطريق حصول هدايته أن يفرغ سمعه
للكلام ؛ وقابّه لتأمله ؛ والتفكر فيه ؛ وتعقل معانيه » فيعلم حينئذٍ أنه
الحق .
فالأول : حال من رأى بعينه ما دعي إليه وأخبر به +
والثاني : حال من علم صدق المخبر وتيقنه » وقال : يكفيني
خبره ؛ فهو في مقام الإيمان » والأول في مقام الإحسان . هذا قد وصل
إلى علم اليقين » وترقّى قلبه منه إلى منزلة عين اليقين ؛ وذاك معه
التصديق الجازم الذي خرج به من الكفر ودخل به في الإسلام .
بها قيلها وقالها . فملات الاسماع من هذيانها + والارض من دويائها + وما أكثر
حوزتهم ؛ والمقاتلين تحت الويتهم » والمُكَثرين لسوادهم عدداً » وما أقلهم عند الله
ولعموم البلية بهم » وضرر القلوب بكلامهم + هتك الله أستارهم في كتابه غاية
الهتك , وكشف أسرارهم غابة الكشف » وبين علاماتهم وأعمالهم وأقوالهم + ولم
يزل عز وجل يقول : (ومنهم . . . ومنهم . . . ومنهم . . . ) حتى انكشف أمرهم +
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة ث( البقرة » أوصاف المؤمنين والكفار
والمنافقين + فذكر في أوصاف المؤمنين ثلاث آيات ؛ وفي أوصاف الكفار أ
وفي أوصاف هؤلاء بضع عشرة آيةالعموم الابتلاء بهم وشدة المصيبة بمخالطتهم
فانهم من الجلدة ؛ مظهرون الموافقة والمناصرة بخلاف الكافر الذي قد تأيد
فعين اليقين نوعان : نوع في الدنيا ؛ ونوع في الآخرة . فالحاصل
في الدنيا نسبته إلى القلب كنسبة الشاهد إلى العين . وما أخبرت به
الرسل من الغيب يعاين في الآخرة بالأبصار » وفي الدنيا بالبصاثر ؛ فهو
عين يقين في المرتبتين ٠
-١7 فصل
وقد جمعت هذه السورة!') من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي »
ويغني عن كلام أهل الكلام ؛ ومعقول أهل المعقول ؛ فإنها تضمنت
تقرير المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوة والإيمان بالملائكة ؛ وانقسام الناس
إلى هالك شقي ؛ وفائز سعيد ؛ وأوصاف هؤلاء وهؤلاء . وتضمنت
والعيوب . وذكر فيها القيامتين : الصغرى والكبرى . والعالمين :
الأكبر » وهو عالم الآخرة . والأصغر » وهو عالم الدنيا . وذكر فيها خلق
به من كل وجه » حتى عِلْمُه بوساوس نفسه » وإقامة الحفظة عليه +
يحصون عليه كل لفظة يتكلم بها » وأنه يوافيه يوم ١
)١( أي سورة (ق»