الحلقة (174)
أخبار غير قضائية في محكمة دمشق
جاءتني يوماً معاملة لحصر الإرث. من أصحابها شيخ عجوزء كبير
معنا أجرة السيارة؛ «ولابد من الكشف» . قلت: سبحان الله هل سمعتم من أحد
أمثالكم؛ لا أرزؤكم شيئاً. وأدفع أجرة السيارة من جيي .
فنطق بحروف مقطعة جاء منها اسم «مسلم وردة».
الذليل» وتفقر الغني» وتغني الفقيرء وتنزل العالي؛ وتعلو بالذي نزل.
«مسلم وردة» يا أيها القراء اسم كان أهلونا ونحن صغار يخوفوننا به؛
كان أحد العصاة أيام الأتراك. يعتصم برؤوس الجبال: جبل فاسيون؛
ومن خلفه جبال معربة والتل؛ ومن أمامه جبال المزة ودمرء فيبعثون إليه بالفرقة
من الجندء فيكسرها وحده» ويردها على أعقابها. وكان يفرض الاتاوة على
انتهت به الحال إلى ما قرأتم
ولقد أبصرت مرة في الرائي رجلا ضخم الجسم؛ مقعداً على كرسي ذي
مع الوحش؛ يصارع السبع بسكينه فيغلب السبع؛
الأفجل سك ا تن شجرة إلى شجزة» ااتتهى به الأخر أن يريط
بكرسي ذي دواليب.
ومن الأخبار غير القضائية؛ إنه كان عندنا في المحكمة دركي حموي قري
- والدرك بين الشرطة ورجال الجيش - شجاع أمين متدين. كان يأني كل عشية
فينام في المحكمة بجرسهاء ويذهب حين يذهب الليل.
فإذا كنت أسأت إليك أناء أو أساء إليك أحد بالمحكمة فخبرني» قال: ما أساء إل
أسمع جرساً يقرع من خلفي .
هذه الأوهام .
وكانت دار المحكمة كما عرفتم من أكبر الدور الشامية القديمةء فيها
صحن واسع يفضي إلى صحنء؛ ومداخل ومخارج. ومصاعد وأدراج» وممرات
مستقيمة وملتوية. وكنت أتغدى في المحكمة لان داري بعيدة. فقد كنت أسكن
بعد الغداء ساعة أو بعض ساعة؛ وببما بقيت حتى يؤذن المغرب فأصلي
بت يوم حتى أظلم الليل وتأخر وصول الدركي الحارس؛ فسمعت
ورائي جرساء وني نفسي انه وهم صزره لي حديث الدركي. ونزلت
لا أتحرك» وجعلت أنظر ورائي فلا أرى شيئاً؛. فقلت أبقى واقفاً حتى أعرف ما
جرس صغيرء تشم بقايا الطعام من أثر المراجعين الذين يدخلون المحكمة كل
هذه هي قصة الجني الذي أفزع الدركي . وكنا أيام الأتراك نسمي الدرك
«الجندرمة» وهي محرفة عن الكلمة الفرنسية «جان دارم» أي رجال السلاح.
فهل رأيتم كيف أفزعت قطة صغيرة رجل السلاح فخاف منها وسلاحه معه؟
وتأخرت يوم فقعدت أمام البركة» وكانت لا نافورة ضخمة» يتفجر منها
قبل عشرة آلاف قطعة من الألماس ولا تقل من الماس - تنكسر مياهه وتتمايل»
ويكون له خرير شجي؛ أحل في الآذان من المعازف والألحان. فاشتهيت أن
كله فإذا «الهارب» مفتوح» و«الهارب» كلمة شامية معناها مصرف الماء من
البركة .
وكنت أكتب «كل يوم كلمة صغيرة» فجعلت هذا المشهد موضوع كلمة
وقد قرأنا في كتاب المطالعة ونحن صغار هذه الحكمة: «لا تشتر ما لا
أحد بعدي.
ذلك أن الشكوى قد كثرت من قلة القضاة الشرعيين؛ ومن ضعف
بعضهم» وأن حملة شهادة الحقوق يعرضون عن القضاء الشرعي ولا .
ولم يمض وقت طويل حتى استدعاني» ودفع إليّ تكليفاً رسمياً باختيار
اة للشرع على ما طلبت وشرطت.
الشاعر جميل سلطان» رحمه اللهء هما نشأة وعبد القادر. كلاهما يصلح
للقضاء فعرضته عليهما فاستجاب عبد القادرء وأبى أخوه. وذهبت أفتش عن
الأستاذ عبد القادر سلطان الذي صار مستشاراً في محكمة النقض والأستاذ هشام
ثواب اللهء وعملوا هم جادين مخلصين لا يريدون إلا رضى الله فكتب الله لهم
التوفيق .
لقد عملت في القضاء أكثر من ربع قرنء فيا تدخل يوماً في قضائي
رئيس ولا وزيرء ولا نائب من النوابء ولا فتحت لصديق أو قريب باب
التدخل فيه. وقد وقع لي مرة واحدة على عهد رياسة الشيشكلي؛ أن هتف ي»
أخوه يوصيني برجل له دعوى عندي» فحاوات إفهامه بالحسى أي لا أقبل
وساطة» ولا تدخلا في دعوى من غير طرفيهاء أو المحاميين فيها . فحسب لطفي
ضعفاء وجرب تخويفي بالرئيس الذي هو أخوه؛ فثار بي الغضب فأغلظت له
أسباب استقالتي على الناس. وكان الأمين العام للوزارة. أي وكيلها» صديقاً
للشيشكل. فلم أكد أعود إلى المحكمة حتى فتح عليّ أخو الرئيس مرة أخرى»
فهممت أن أقطع المخابرة؛ وإذا هو يبادرني بالاعتذار. ويطلب أن أعتبر الأمر
وفهمت من بعد أن الأمين العام أي وكيل الوزارة؛ رفع الأمر فوراً »إل
وكان يملك أعصابه؛ ويحكم عقله؛ ولا يريد أن يثبر عليه رجلا له قلم وله
ورفعت إليّ قبل ذلك دعوى لأخت الرئيس شكري بك القوتلي» أيام كان
ووجهه منتفخ مزرق»؛ وأثر التعذيب ظاهر عليه؛ والشرطة تحيط به. فقررت
أولاً إخراج الشرطة من قاعة المحاكمة؛ وطمأنته إلى أن المحكمة لن تفرق بين
هذه الدعوى وبين غيرها من الدعاوي . وأنه لن يجد منها إن شاء الله إلا العدالة
والمساواة بين الخصمين. وكان ذلك. وسرث فيها كما أسير في الدعاوي كلهاء
واستعنت باللهء فلم أميز دغوى أخت الرئيس عن دعوى أضعف امرأة قروية.
- وكانت دعوى تفريق حكمين اثنين من وجهاء البلد ومن علماء التجارء أومن
التجار العلماء. لما منزلة عند الناس» يثتى الجميع بهباء ويثنون عليهياء هما
الشيخ موسى الطويل» وسيأي إن شاء الله كلام كثير عنه» والشيخ عبد الحميد
القنواتي» الأستاذ بالكلية الشرعية والعالم النحوي المعروف. وانتهت الدعوى كما
ينتهي غيرهاء
وكنت أمنع النساء السافرات من دخول المحكمة؛ فوجدت يوماً في مقاعد
المحامين امرأة سافرة مكشوفة الشعر» بادية النحر وأعالي الصدر. فقلت لا: أما
يكفيك أنك خالفت الشرع فتكشفت. وأمر المحكمة ألا تدخلي فدخلت؛ ثم لم
زميل ' قديم لناء كنا معاً ندرس في مدرسة واحدة, فاختلف طريقاناء فسلك هو
طريقاً غير طريقي» وأسس حزباً كبر ونما حتى صار له الحكم في الشام وفي
ففتحت الجلسة؛ وأثبت بالضبط حضورها بالنيابة عن المدعية؛ ثم قررت
هذا القرار: لما كان للمحكمة حرمة؛ وكان من الإخلال بحرمتها أن يأتيها
يجيء المحامي بالتبان» أو بسراويل السباحةء وكان تكشف المحامية المسلمةء
وإبداؤها ما أمر الله بستره أشد من حضور المحامي بالتبان» لذلك تقرر أفهام
الإسلام» وتقرر رفع الجلسة وتاجيلها إلى يوم كذا.
الشخب» أمرت شرطي المحكمة أن يكون قرياً. فجاءتني يوماً امرأتان مدعيتان
تكون معها وهي بطاقتك؟ قال: شوف يا سيدي؛ ورفع كمه عن ساعد ضخم
ة؛ وكانت المحكمة في حي القنوات؛ ومن بعدها جسر قصير تمر
فوق النهر وينزل الماشون تحته دركات (أي درجات) ثم يصعدون من الطرف
الآخر. وهو يخاف أن يخرج فتهجم عليه المرأتان تحت الجسر فتبطشان به.
فضحكت في سري ولم أظهر له. وأمرت الشرطي أن يمشي معه حتى يكف أذى
المرأتين عنه.
وكانت سوريا كلما جاء موسم الحج؛ اهتم الناس بها وكتبت صحفها
عن قضية نقل الحجاج؛ وبحثت الحكومة عن ماخرة (باليم) صالحة لنقلهم؛
وعن متعهد أمين يضمن راحتهم في السفر. وكان لقاضي دمشق الممتاز الرأي
الأول في اختيار الباخرة أو «الماخرة»؛ وانتقاء المتعهد. فلما كان الموسم الذي
كنت فيه القاضي المتاز في دمشق رجع الحجاج يشكون شكاوى كثيرة من
المتعهدين» وسوء معاملتهم» وإخلالهم بشروط الاتفاق بينهم وبين الحكومة.
وكان من هذه الشروط أنه يرجع عند الاختلاف إلى مجلس تحكيم مؤلف من
خمسة أعضاء رئيسهم قاضي د » يتخب هو بالنيابة عن الحكومة اثنين؛
وينتخب المتعهدون اثنين. فاختاروا اثنين من دهاة الرجالء؛ وتمن له منزلة
وشأن» وهما الشيخ أحمد القاسمي مدير الأوقاف؛ والمحامي سعيد الغزي؛
أدري» ففكرت من أختار أناء وأين أجد اثنين من وزنها ليقفا أمامهماء فهداني
الله إلى اختيار اثنين من مستشاري محكمة النقض» قاضيين من أنزه القضاةء
الثقة بهي عامة. هما الأستاذ عبد الوهاب الطيب» والأستاذ منير المالح» وقد ذهيا
إلى رحمة اللهء ووكل المتعهدون عنهم أبرع محام في دمشق في الأمور المدنية؛ وهو
أستاذنا في كلية الحقوق وهو شارح «المجلة؛ يوم كانت هي القانون المدني في
الشام قبل أن يقوم حسني الزعيم بانقلابه المشؤوم وأن يستبدل بالمجلة المستنبطة
من شريعة الله» القانون المدني الذي وضعه عباد اللهء لم يستندوا فيه إلى كتاب
منزل ولا إلى سنة نبي مرسل.
وعقد مجلس التحكيم؛ سبع عشرة جلسة؛ كل منها في ساعتين أو ثلاث
وركبوا السفينة. منهم مشايخ وعلماء؛ ومنهم نجار ووجهاء» ومنهم جماعة من
عامة الناسء ثم أعلنا ختام الجلسات وانتظار صدور الحكم .
ظاهرة؛ وإن التقصير بينّ. فلم يكن من العضوين في المجلس اللذين جاء با
انسحابها يعطل التحكيم؛ ويمنع صدور الحكم؛ فقررنا القرار الآتي: لما كانت
الجلسة قد فتحت بصورة قانونية. وكان انسحاب العضوين بعد انتهاء المحاكمة
وسماع الشهود لا يؤثر في إصدار الحكم» وكان صدور الحكم بالأكثرية كافياً
لسريانه» بمقتضى الاتفاق بين الحكومة وبين المتعهدين» فقد قررنا السير في
المحاكمة» وإصدار القرار.
وصدر القرار بإلزام المتعهدين مما ثبت عليهم» وكان مبلغاً كبيراً بحساب
قانوني صحيح. فحصل منهم المبلغ ولم يقدروا بعون الله على شيء.
وطلبني مرة في الهاتف وأنا في المحكمة الوزير البريطاني الفوض في
دمشقء وكلمني رجل بالعربية يطلب مني باسم الوزير موعداً ليزورني هو أو
الملحق الثقافي نيابة عنه. فقلت لمن يكلمني: إن المحكمة ليست لها صلة رسمية
يريد أن 2 لأمر رسمي بل زيارة خاصة ليسألني بعض الأسئلة الدينية.
وقال لي إخواني في المحكمة: عليك أن تقدم له مع شراب الليمون مث
قطعة من الشكلاطة وسحروني بقولهم فغرموني ثمن علبة منهاء دلوني على
نوعهاء أذكر أن اسمها دبلاك ماجيك». ولم أكن قد سمعت بهذا الاسم من