فالتقطت سيفه وأغمدته في قلبها وسقطت إلى جائبه. وبقيت ثمار التوت الحمراء ذكرى أبدية
والآن؛ ما الذي يجمع حكاية هذين العاشقين إلى حكاية ظهور الكون المظلم من العماء البدئي؟
لقد دمت هذه الوقفة عند كتاب مقروء على نطاق واسع بغرض إيضاح طبيعة المشكلة التي
تعانيها الدراسات الميثولوجية بسبب غموض المصطلح؛ وبغرض الإشارة إلى أن مشكلتنا مع
المصطلح والتعريف قد نشأت في جزئها الأكبر من مشكلة البحث الميثولوجي مع ما يدعى
قائمة ما لم يتم الاتفاق على معايير دقيقة لتمييز النص الأسطوري عن غيره من الأقاصيص.
وهذا أمر يبدو بعيد التحقّق في الوضع الراهن للبحث الميذولوجي. لكنني سوف أتقدم فيما يلي
بطرح وجهة نظري في هذه المسألة كما تشكلت لدي بعد تفرغ طويل لدراسة الأسطورة
وتاريخ الأديان.
1. من حيث الشكل؛ الأسطورة هي قصة؛ وتحكمها مبادئ السرد القصصي من حبكة وعقدة
المناسبات الطقسية وتداولها شفاهاًء كما يزودها بسلطان على العواطف والقلوب لا يتمتع به
2. يحافظ النص الأسطوري على ثباته عبر فترة طويلة من الزمن وتتناقله الأجيال مادام
الأسفل" التي أوّنت كتابة خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد قد استمرت في
صيغتها الأكادية المطابقة تقريباً للأصل السومري حتى أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد. غير
أن خصيصة الثبات هذه لا تعني الجمود أو التحجر لأن الفكر الأسطوري يتابع على الدوام
خلق أساطير جديدة ولا يجد غضاضة في التخلي عن تلك الأساطير التي فقدت طاقتها
3. لا يُعرف للأسطورة مؤلف معين لأنها ليست نتاج خيال فردي؛ بل ظاهرة جمعية يخلقها
الخيال المشترك للجماعة وعواطفها وتأملاتها. ولا تمنع هذه الخصيصة الجمعية للأسطورة
من خضوعيا لتأثير شخصيات روحية متفوقة تطبع أساطير الجماعة بطابعها وتحيث انعطافاً
4. يلعب الآلهة وأنصاف الآلهة الأدوار الرئيسية في الأسطورة؛ فإذا ظهر الإنسان على
مسرح الأحداث كان ظهوره مكملاً لا رئيسياً.
5. تتميز الموضوعات التي تدور حولها الأسطورة بالجدية والشمولية؛ وذلك مثل التكوين
فبينما تلجأ الفلسفة إلى المحاكمة العقلية وتستخدم المفاهيم الذهنية كأدوات لها فإن الأسطورة
تلجأ إلى الخيال والعاطفة والترميز وتستخدم الصور الحية المتحركة.
6. تجري أحداث الأسطورة في زمن مقدس هو غير الزمن الحالي. ومع ذلك؛ فإن مضاميد:
بالنسبة للمؤمن؛ أكثر صدقاً وحقيقية من مضامين الروايات التاريخية. فقد يشكك هذا المؤمن
بأية رواية تاريخية؛ ويعطي لنفسه الحق في تصديقها أو تكذيبهاء ولكن الشك لا يتطرق إلى
نفسه؛ إذا كان بابلياء بأن الإله مردوخ قد خلق الكون من أشلاء تنين العماء البدشي؛ وبأن الإله
بعل قد وطّد نظام العالم بعدما صرع الإله يم وروض المياه الأولى؛ إذا كان كنعائياً.. ويستتبع
لاتاريخية الحدث الأسطوري أن رسالته غير زمنية وغير مرتبطة بفترة ما؛ إنها رسالة
سرمدية خالدة تنطق من وراء تقلبات الزمن الإنساني. إن عدم تداخل الزمن الأسطوري
بالزمن الحالي يجعل من الحدث الأسطوري حدثاً ماثلاً أبداً. فالأسطورة لا نقص عما جرى
في الماضي وانتهى؛ بل عن أمر ماثل أبداً لا يتحول إلى ماض. ففعل الخلق الذي تم في
الأزمنة المقدسة يتجدد في كل عام ويجدد معه الكون وحياة الإنسان؛ وإله الخصب الذي قُبِل
ثم بعث إلى الحياة موجود على الدوام في دورة الطبيعة وتتابع الفصول؛ وصراع الإله بعل
مع الحية لوتان ذات الرؤوس السبعة هو صراع دائم بين قوى الخير والحياة وقوى الشر
والموت؛ وخلق الإنسان من تربة الأرض ممزوجة بدم إله قتيل هو تأسيس لفكرة الطبيمة
المزدوجة للإنسان وتكويئه من عنصر مادي وآخر روحائي. وحتى عندما تتحدث الأسطورة
عن حدث محدد في تاريخ الناس فإن مرامي هذا الحدث تكون خارج الزمن وتتخذ صفة
الحضور الدائم. ونموذج هذا النوع من الأساطير أسطورة الطوفان الرافدية. فمع أن
الطوفان الذي دمر الأرض من حولهم مرة هو نذير دائم بسطوة القدر وتحذير من الغضب
الإلهي البعيد عن أفهام البشر ومن الاطمئنان إلى استمرارية الشدرط الإنساني وثبات الأحوال.
7. ترتبط الأسطورة بنظام ديني معين وتعمل على توضيح معتقداته وتدخل في صلب طقوسه.
وهي تفقد كل مقوماتها كأسطورة إذا انهار هذا النظام الديني؛ وتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي
إلى نوع آخر من الأنواع الشبيهة بالأسطورة.
8. تتمتع الأسطورة بقدسية وبسلطة عظيمة على عقول الناس ونفوسهم. إن السطوة التي
تمتعت بها الأسطورة في الماضي لا تدانيها سوى سطوة العلم في العصر الحديث. فنحن اليوم
ذلك. وفي الماضي آمن الإنسان القديم بكل العوالم
اعتماداً على ما قدمته أعلاه؛ أستطيع أن أخلص إلى التعريف التالي فأقول: "الأسطورة هي
حكاية مقدسة؛ ذات مضمون عميق يشف عن معاني ذات صلة بالكون والوجود وحياة
بالمعتقدات الدينية والقصص الزائفة ذات المضمون الأدبي البحت؛ مثلهم في ذلك مثل أهل
الثقافات الحديثة.[4] لقد أجاب أحد الهنود الحمر من قبيلة إيو-وا (في أواخر القرن التاسع
يجتمع الناس ويدور بينهم غليون التبغ"[5] ويميز أفراد قبيلة 2080©0 بين نوعين من
القصص التقليدية؛ وهما النوع الحقيقي والذوع الزائف. فهم يضعون في مرتبة الحقيقة جميع
القصص التي تتناول أصول العالم؛ وهي قصص أشخاصها كائنات إلهية فائقة. تأتي بعد ذلك
في المرتبة مباشرة الحكايات التي تروي المغامرات التي قام بها البطل القومي؛ وهو فتى
متواضع النشأة ما لبث أن أصبح مخلصاً لشعبه فأدقذه من الوحش الهائل؛ وانتشله من الجوع
والفقر؛ كما اجترح مآثر أخرى عديد
القصص الزائفة؛ فهي القصص ذات المضمون الدنيوي البحت؛ وتدور حول مغامرات وأعمال
شخصيات غير مقدسة. والأمثلة على مثل هذا التمييز كثيرة في ثقافات تقليدية شتى ومتباعدة.
الذي يخولهم استلام أسرار دينهم؛ حيث يقوم الشيوخ بنقلها إلى الشباب كجزء من الطقوس
الخاصة بإعدادهم لاستلام الأسرار. أما القصص الزائفة فيجوز روايتها في أي زمان
الميثولوجيا عن بقية الأجناس الأدبية الشبيهة بها. وبشدكل خاصء فإن صفة القداسة التي يتمتع
بها النص الأسطوري يجب أن تكون الفيصل الأساسي في عملية التعرف على النصوص
الأجناس الأدبية التي تختلط عادة بالأسطورة إلى درجة يصعب معها أحياناً التمييز بيذهما
لعل الخرافة هي أكثر أنواع الحكايا التقليدية شبهاً بالأسطورة؛ ولكن العين الفاحصة ما تلبث
أن تتبين الفروق الواضحة بين الذوعين. تقوم الخرافة على عنصر الإدهاش وتمتلئ بالمبالغات
والتهويلات؛ وتجري أحداثها بعيداً عن الواقع؛ حيث تتحرك الشخصيات بسهولة بين المستوى
الطبيعائي المنظور والمستوى الفوق الطبيعائي؛ وتتشابك علائقها مع كائنات ماورائية متدوعة
مثل الجن والعفاريت والأرواح الهائمة. وقد يدخل الآلهة مسرح الأحداث في الخرافة؛ لكنهم
هناء فإن الحدود بين الخرافة والأسطورة ليست دائماً على ما نشتهي من الوضوح. وقد يشبه
بعض الخرافات الأساطير في الشدكل والمضمون إلى درجة تثير الالتباس والحيرة؛ فلا
نستطيع التمييز بينهما إلا باستخدام المعيار الرئيسي الحاسم الذي أثبتناه في تعريفنا للأسطورة؛
وهو معيار القداسة. فالأسطورة هي حكاية مقدسة يؤمن أهل الثقافة التي أنتجتها بصدق
روايتها إيماناً لا يتزعزع؛ ويرون في مضمونها رسالة سرمدية موجهة لبني البشر. فهي
عن حقائق خالدة وتؤسس لصلة دائمة بين العالم الدنيوي والعوالم القدسية. أما الخرافة
الإيمان برسالتها.
من الحكايات التقليدية التي يصنفها المؤلفون الغربيون في زمرة الأساطير الحكايات
الإغريقية؛ بينما
من الرجال وأنصاف الآلهة؛ أمثال بيرسيوس
وياسون وثيسيوس. فهذه جميعاً حكايات غير مقدسة ولم يتداولها الإغريق كأساطير تحمل
رسالة سرمدية من أي دوع لبني البشر. فإذا بحثنا عن أمثلة أكثر قربا من تقافتنا العربية؛
الحكايات التي تدور حول الأبطال الخرا
وعدد لا بأس به من حكايا ألف ليلة وليلة.
إن صلة القربى التي تربط بين الأسطورة والخرافة تخلق بينهما حالة تبادل. فقد يلتقط الكهنة؛
في فترات ضعف المؤسسة الدينية وانهيار المعتقدات الراسخة؛ حكاية خرافية ويحملونها
تستمر في الأدب التقليدي بعد زوال الرابطة التي كانت تشدها إلى نظام ديني معين.
وكما رأينا في الخرافة؛ أقرب الأقرباء إلى الأسطورة؛ فإننا ذرى في الحكاية البطولية أقرب
الأقرباء إلى الخرافة. ولكن الحكاية البطولية تختلف عن الخرافة في أمرين: أولهماء أن
أحداثها أقرب إلى الواقع؛ رغم المبالغة والتهويل؛ وثانيهما - وهو الأهم - أن البطل فيها
صورة مثالية عن الإنسان وعما هو إنسائي؛ وهي تستثير الرغبة في السامع إلى تحقيق هذه
على عكس صورة البطل في الخرافة؛ تطرح نموذجاً متحيِّاً بعيداً عن الواقع إلى درجة لا
أنقذ العذراء أددروميدا المقيَّدة أمام التنين الهائل قرياناً له. وفي الخرافة العربية نجد سيف بن
في واديهم بريشة ديك مسحور؛ وتلتقطه العفاريت الطائرة في الهواء كلما أحكم عليه الأعداء
ومدرا إلخ. إن مثل هذه المشاهد والأحداث لا تحركها شخصيات إنسائية نموذجية؛ بل
تفاعل حقيقي مع النفس الإنسائية. أما في الحكاية البطولية؛ فعلى الرغم من المبالغات التي
فإن أبطالها بشر عاديون يتحركون في جو إنساني؛ وأعمالهم هي
نموذج سام ومتفوق لما يمكن للأفراد أن يطمحوا إليه؛ وعواطفهم وانفعالاتهم ليست مما لا
تغلف أحداثها وشخصياتهاء
يشعر به أو يختبره السامع. من القصص البطولي في التراث العربي نسوق مثال عنترة بن
نبيلة مثل أخيليس وأغاممنون وباتروكلوس وهيكتور. وهي حكايات متفرقة من حيث الأصل
تم جمعها فيما بعد إلى نسيج ملحمة واحدة. وأحب أن ألفت النظر هنا إلى أن حضور هذا الإله
بة لا يختلف عن حضور الجني الحارس للبطل في الحكايا
العربية الذي يقدم له العون حين الحاجة. ويبقى مسرح الحدث هنا إنسانياً ومشكلاته إنسانية
وأبطاله إنسانيون إلى أبعد الحدود.
فوقها أحداثاً إضافية خيالية إلى درجة يغيب التاريخ معها في ضباب الخيال. إن الحروب
الطروادية نموذج للحكاية البطولية الإخبارية؛ ومثلها تغريبة بني هلال في الأدب الشعبي
العربي. فالتغريبة؛ رغم عنايتها بوصف البطولات الفردية لشجعان بني هلال ولخصومهم
على حد سواء إلا أنها تهدف من وراء ذلك إلى تقديم حدث تاريخي في قالب أدبي مشبع
البطولية الإخبارية؛ هما الليجندة 1:»و».1 والملحمة ءنم5. فالليجندة هي قصة غير مُتحدّق من
تدور غالباً حول حياة أشخاص متميزين ومحبوبين على النطاق الشمبي.
نمي قصص حياة
وأعمال وكرامات القديسين إلى هذه الزمرة. أما الملحمة؛ فهي تأليف شعري عالي المستوى
يقص سلسلة من أعمال ومنجزات أحد الأبطال؛ وتجري معالجتها بإطالة وتفصيل على شكل
تأتي الآن إلى الحكاية الشعبية. إن ما يميز الحكاية الشعبية بشكل رئيسي عن الحكاية الخرافية
والحكاية البطولية هو هاجسها الاجتماعي. فموضوعاتها تكاد أن تقتصر على مسائل العلاقات
الاجتماعية؛ والأسرية منها خاصة. والعناصر القصصية التي تستخدمها الحكاية الشعبية
معروفة لنا جميعاً؛ وذلك مثل زوج الأب الحقود؛ وغيرة الشقيقات في الأسرة من البنت
الصغرى التي تكون في العادة الأجمل والأحب؛ أو غيرة الأشقاء من أخيهم الأصغر المفضل
الدى الأب؛ والذي تجتمع له خصائص الشجاعة والنبالة في مقابل الخسة والحسد والغيرة لدى
والميتافيزيقية؛ مركزة على أدق تفاصيل وهموم الحياة اليومية. وهي؛ رغم استخدامها لعناصر
التشويق. إلا أنها لا تقصد إلى إبهار السامع بالأجواء الغريبة أو الأعمال المستحيلة؛ ويبقى
أبطالها أقرب إلى الناس العاديين الذين نصادفهم في سعينا اليومي. ففي مقابل القوة الخارقة
والفطنة والشطارة للخروج من المآزق والتغلب على الأعداء. كل هذا لا يعني أن العناصر
والحكاية الشعبية واقعية إلى أبعد حد وتخلو من التأملات الفلسفية
الخيالية معدومة تماماً في الحكاية الشعبية. فهذه العناصر قد تُستخدم في الإثارة والتشويق
عندما يقابل البطل غولاً أو جنياً فيستخدم شطارته وحيلته للإيقاع به. إلا أن دخول هذه
العناصر في نسيج الحكاية الشعبية لا ينفي طابع الواقعية عنهاء متلما لا يضفي طابع الواقعية
على الخرافة وجود أحداث وشخصيات واقعية فيها. ومن حيث أسلوب الصياغة؛ فإن بنية
الحكاية الشعبية هي بنية بسيطة تسير في اتجاه خطي واحد؛ وتحافظ على تسلسل منطقي
ينساب في زمان حقيقي ومكان حقيقي؛ على عكس الحكاية الخرافية ذات البنية المعقدة التي
تسير في اتجاهات متداخلة ولا تتقيد بزمان حقيقي أو مكان حقيقي. وأخيراً فإن الحكاية
الشعبية تتميز برسالتها التعليمية التهذيبية؛ ومعظمها يحمل في شاياه درساً أخلاقياً ماء وذلك
مثل جزاء الخيانة وفضل الإحسان ومضار الحسد وما إلى ذلك.
إن الحدود بين هذه الأجناس الأدبية التي صنفناها خارج زمرة الميثولوجيا ليست على درجة
رسم الإطار العام لمصطلح الأسطورة؛ ووضع أهم المعايير التي تفيدنا في التعرف على
2. وظيفة الأسطورة ودورها في
الفرد والجماعة
تتميز ظاهرة الحياة عن الوسط الطبيعي الذي انبتقت عنه؛ ويتميز الكائن الحي عن الكائن
الناظمة للعالم
الطبيعي. فبينما تتحكم الحساسية الحيوية في سلوك الكائن البسيط التركيب؛ فيما يشبه الفعل
ورد الفعل الفيزيائي؛ فإن الكائنات المعقدة التركيب تبدو موجهة أكثر
. وتتضح استقلالية وحرية هذا السلوك كلما ارتقينا في سلم التطور
يحكم علاقاتها بوسطها الطبيعي؛ حيث تتحول الحساسية الحيوية؛ كلما صعدنا في سلم
الارتقاء؛ إلى شعور واع موجّه للسلوك الفردي وللسلوك الجمعي للأنواع الحية. غير أن هذا
الشعور الواعي يبقى في أعلى الأشكال الحيوانية ضمن حدود الوعي الانفعالي المباشر الذي لم
يتوصل بعد إلى تكوين "الأفكار". ولكن مع استقلال النوع الإدسائي تدريجياً عن مملكة
الحيوان؛ ينتقل الوعي من الانفعال المباشر إلى تشكيل الأفكار (- المفاهيم)؛ ويبدو السلوك
موجَّهاً أكثر فأكثر بهذه الأفكار. فهنا تتوسط الفكرة بين الانفعال المباشر والسلوك؛ ونأخذ
بترميز العالم قبل الاستجابة إليه. إن الخرفان الصغيرة تميِّرَ رائحة الذئب وتفزع لظهوره
المفاجئ قبل أن تتكون لديها أية خبرة بهذا الخصوص. أما الإنسان فإنه يستجيب في خوفه
لفكرة مسبقة كوّنها من خلال تأمله لوسطه الطبيعي؛ وتصنيفه لما هو خطر ولما هو آمن
بالنسبة إليه.
إن تكوين الأفكار هو أول تعبير عن نشاط الترميز الذي يرافق اتساع الوعي وارتقاءه. فهنا
تأخذ الانفعالات بالتحول إلى أفكار. وهذه الأفكار تتضح وتنتظم كلما اتسع الوعي في مواجهتهة
مع الخارج؛ وكلما أخذ بتوصيف هذا الخارج وترتيبه في كل مستوعب ومفهوم. ثم جاءت
الخطوة الحاسمة الثانية عندما انتقل الإنسان إلى ابتكار معادل موضوعي لأفكاره من خلال
تختزل عدداً لا يحصى من المعطيات الحسية؛ المنعزل بعضها عن بعض؛ تأتي كلمة "شجرة"
كمعادل لهذه الفكرة؛ وتعمل على مَوْضَعَتَها في الخارج لتقوم مقام كل الصور التي كؤّناها
لأننسنا عن الأشجار التي واجهت مدركاتنا الحسية. وبذلك يتم الانتقال من الترميز الذاتي؛
وهو صياغة الأفكار؛ إلى الترميز الموضوعي؛ وهو تثبيت هذه الأفكار في الخارج من خلال
لقد كانت اللغة أول أشكال الترميز الموضوعي التي ابتكرها الإنسان واكتشف معها مقدرته
الهائلة على استيعاب ما حوله من خلال تكوين المفاهيم؛ ثم مَوْضَعَتَها في الخارج عن طريق
الكلمات؛ والاستناد إلى هذه الكلمات بعد ذلك من أجل خلق مستوى آخر من المفاهيم أعلى من
وبعد اللغة توصل الإنسان إلى اكتشاف شكل آخر من أشكال الترميز الموضوعي الذي
ة على التعامل مع
الكلمات واستخدامها في مجالات غير مباشرة وغير نفعية. وهذا ما قاده إلى إنتاج الشعر
والأسطورة - أقنومان في نظام رمزي واحد - عمل من خلاله على تحويل وَمَوْضَمَة تجربته
إلى التحليل والتعليل الخطي المنظم؛ بل إلى إنتاج بنية أدبية تحاول من خلال تمثيلاتها
وصورها الحركية إعادة إنتاج العالم على مستوى الرمز؛ وذلك في وحدات أدبية رمزية تعمل
وفي الحقيقة؛ فإن كلاً من الفلسفة والعلم؛ اللذين ولدا من رحم الأسطورة؛ يقوم بالمهمة نفسهاء
العلم والفلسفة إلى العقل التحليلي الذي
ذلك على الاختبار والبرهان (العقلي في الفلسفة والت
الإنسان بكليته في مواجهة العالم؛ بجميع ملكاته العقلية والحدسية؛ الشعورية واللاشعورية؛
وتستخدم كل المجازات الممكنة من أجل تقديم رؤية متكاملة لهذا العالم؛ ذات طابع كلاني
يعادل تجربة الإنسان الكلانية وغير المتجزئة معه.
فإن الأسطورة؛ في المجتمعات القديمة والمجتمعات التقليدية تلعب نفس الدور الذي
أنها تدور حول نفس هذه المفاهيم والمصطلحات؛ وتعالجها على طريقتها متوسئلة بالرمز
ومستنفدة كل حيوية القص والصور الحسية؛ ومستكملة ذلك كله بالأفعال الطقسية ذات المعنى
والمؤدى العميق.
إن كلا من الأسطورة والفلسفة والعلم يستجيب على طريقته لمطلب "النظام"؛ أي لمطلب
الإنسان في أن يعيش ضمن عالم مفهوم ومرتب؛ وأن يتغلب على حالة الفوضى الخارجية
التي تتبدى للوعي في مواجهته الأولى مع الطبيعة. فالفلسفة تنتج نظاماً مترابطاً من المفاهيم
التجريدية يدّعي تفسير العالم. والعلم يخلق نظاماً من المبادئ والآوائين التي يعمد بعضها على
بعض؛ وتنتهي إلى ترميز العالم في بنى رياضية عالية التجريد. وفي مقابل هرمية نظام
المفاهيم الفلسفي وهرمية نظام القوائين الرياضي العلمي؛ فإن الأسطورة تعمد من جانبها إلى
أيضاً؛ في هرمية متسقة للأسباب والنتائج. وهي إذ تؤشين الكون حين تبث فيه عنصر
الإرادات الفاعلة والعواطف المتباينة؛ وترى في كل ظاهرة موضوعية نتاج إرادة أو عاطفة
ماء فإنها تصنع صورة لكون حي لا يقوم على مبادئ ميكائيكية متبادلة التأثيرء بل على
إرادات وعواطف تتبدى في شكل حركي. والأسطورة في سعيها لخلق هذه الصورة؛ تفتح
خزاناً لا ينضب مَعينه من وسائل الترميز؛ كما تفتح البوابات على مصاريعها بين الوعي
واللاوعي؛ في تجربة كلانية تحافظ على علاثق الإنسان الطبيعانية مع عالمه؛ وعلائقه الثقافية
ذاته؛ وذلك قبل أن يتحول الإنسان إلى كائن ثقافي متعال على الطبيمة متمايز عنها.