ما يقرب من العشرين عاماً انقضت.منذ انتهيت من كتابة هذا العمل كرسالة
دكتوراةء»وصدرت طبعته الأولي عن دار فكر.وكان رأي مدير الدار حينذاك المرحوم
الدكتور طاهر عبد الحكيم أن أقوم بتشذيب الرسالة من مادتها الأكاديمية حتى تصلح
لتناول المثقف العادي وليس الأكاديمي.ووافقته حينها علي رأيه وتم نشرها في طبعتها
الأولي عام ١188 .
وهاأنذا أعيد نشر العمل مرة أخريء لكن في صورته الأصلية من باب التوثيق»حيث
سيجد جد القارئ في هذه الطبعة زيادات الأصل:ودور الفلسفة الرابط بين التاريخ والفكر
ونظرآً لأن مقدمة الطبعة الأولي في رأيي فيها كفاية للتعريف بمضمون العمل
وخطته. فقد رأيت عدم الاستطراد في هذه المقدمة؛وترك القارئ أمام العمل مباشسرة؛
| لمقدمة
يمكن التقرير مبدئياً؛ بأن طبيعة المشكلة موضوع هذا البحث؛ ؛٠ تجمع بين الفكر
العقائدي والفكر الفلسفي؛ ٠ مرتبطين بتطور زمني يجعل التاريخ عنصرا ثالثا وأساسياً فسى
المشكلة إلى جانبهماء فهى مشكلة عقائدية لأنها تتناول الإيمان دينياً عند المصرى القديم
يمكن فهم أو تصور مصر القديمة بوضوح؛ دون تصور عالمها الآخرء لأن الاعتفاد فى
هذا العالم قد نفذ إلى كل فكرة وكل سلوك؛ وصبغ كل شيء مصري قديم بصبغته؛ وما
كان ليحدث تقدم أو تخلف اجتماعى؛ أو تغيرات سياسية أو اقتصادية؛ أو فكرية أو حتى
معمارية أو فنية؛ دون أخذ هذا المعتقد كعامل أول وأساس مشترك؛ مؤثر ومتأثر بعلاقة
جدلية قائمة ومستمرة بينه وبين هذه المتغيرات.
لولا اهتمام المصريين القدماء بعالمهم الأخر؛ ما وصل إلينا شيء البتة عن تاريخهم»؛ فهم
لم يدونوا ما دونواء ولم يهتموا بتسجيل ما سجلواء إلا بسببء ومن أجل؛ أملهم العظيم فى
ولعل الإصرار على رؤية العقلية المصرية؛ من خلال المنظار الفلسفى لطبيعة
المشكلة؛ يعود فى الأساس إلى طبيعة كل من الفلسفة والدين؛ وغنى عن الذكر أن العلاقة
بينهما كانت مسألة المسائل؛ التى شغلت تفكير كثير من الفلاسفة أو على الأصح أغلبهم
ومميزاً أولا للإنسان عن الجنس الحيواني«. ٠ لأن الدين قائم على الشعورء؛ الشعور بالخلود؛
الشعور بالحرية؛ والشعور لا يوجد إلا عند الإنسان» ")
وبذلك كانت فكرة الخلود وظهورها عند المصرى القديم - إذا طالعناها بالمنظار
كانت«.. الفلسفة تظهر حينما توجد الحياة السياسية»!) فى رأيه فإن الفلسفة بهذا
المعنى تكون أيضا قد ظهرت مع بداية أول حكومة منظمة فى تاريخ العالم؛ أى مع
الأسرة الأولى فى الدولة الفرعونية القديمة.
أما اعتبار المشكلة مشكلة تاريخية أيضآء فهذا أمر لا يحتاج إلى تفصسيل؛ باعتبار
خضوع المسألة بكليتها لظطظروف تاريخية محددةء أو باعتبار أن عقيدة الخلود كأى عقيدة
أخرى- قد مرت بمراحل تطورية؛ عبر فترات زمنية؛ تأثر فيها تطورها بعدة عوامل هى
وهنا أيضا تظل الطبيعة الفلسفية قائمة؛ لأن العلاقة بين التاريخ والفلسفة قائمة
ومتوثقة؛ ولقد هدفت فلسفات كثير من الفلاسفة مثقل (كولنجوود) إلى تأكيد«.. أن
المشكلات الفلسفية التئ تواجه الفإسوف؛ في حاجة إلى الفهم التاريخي؛ كما أن أكثر هذه
وإن الباحث المدقق ق فى فلسفة ابن خلدون» يستطيع أن يكتشف عدة مواضع تبين أنه
كان من أوائل الذين اكتشفوا القيمة الفلسفية للتاريخ» وضرورة اعتماد المعرفة بأسرها
على الفهم التاريخي.
د. حسن حنفي:؛ محاضرات في فلسفة الدين لهيجل؛ تراث الإنسائية ؛ المجلد الثامن؛ الهيئفة
المصرية العامة للتأليف والنشر ء القاهرة؛ ص 788.
د. على أدهم: فلسفة التاريخ لهيجل ٠ تراث الإنسائية ؛ المجلد الخامس ؛ من تراث الإنسائية؛
عرض وتلخيص د . على أذهم؛ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ؛ القاهرة؛» ص 7
د. أحمد حمدي محمود: : فكرة التاريخ لدوبين كولنجوود ؛ سلسلة تراث الإنسائية؛ المؤمسة
المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشرء القاهرة؛ المجلد الأول ص 171.
بل إن الفيلسوف الإنجليزي (فرنسيس بيكون 38600 1:800615 ( كان يؤكد على أن
©#«دقا) والذي كان يعد أكثر التجريبيين إنكارا للعلوم القائمة على الاستدلال التأملي
العقلي؛ فإنه مع ذلك كان أكثر الفلاسفة التجريبيين معرفة بمسائل التاريخ؛ بل إنه رغم
التاريخية أكثر شرعية من بقية العلوما
وبناء على ذلك تكون الفلسفة أو الفهم الفلسفى لطبيعة المشكلة هو الفهم السليم؛ باعتبار
أن الفلسفة ستصبح الرابط بين الدين والتاريخ؛ فهى تدخل فى صميم كليهماء وهى - إذا
أخذنا بالإراء النازعة في اتجاه الدين والتاريخ تقوم على الدين ولتاريخ وإذا أخذنا
بشموليةء تصب نتائجها جميحا فى قوالب من الفهم الفلسفى لهاء فلا تصبح الدراسة مجرد
سرد تاريخى؛ ولا مجرد عرض لمفاهيم عقائدية؛ وإنما تصبح علاقة تأثير وتأثر بين
الجوانب الثلاثة. أدى لبزوغ أفكار كانت دون مبالغة؛ أول بوادر التلسف فى تاريخ
لماذا البحث فى عقيدة الخلود بالذات؟
يقول الكاتب الأسبانى (ميجل دى أو تامونى مستنتتمدناآ 16 21:861):
«كنت أتحدث إلى فلاح ذات يوم؛ واقترحت عليه وجود إله يحكم فى الأرض وفى
السماء؛ء كما افترضت عليه أيضاً عدم وجود عالم آخر؛ وأنه لن يكون بعث ولانشور
بالمعنى التقليدي المعروف؛ فأجابنى الفلاح قائلاً: وما فائدة وجود الله إذا ؟!»7".
0 سيد عويس: : الخلود في التراث الثقافي المصري؛ دار المعارف؛ القاهرة ؛ باآات؛ ص
ديجي 4 جف ليع بمتدولا جرعي ا ا ماص وس مسجل
المقدمة
وتوضح هذه الفقرة معاني عقائدية؛ لا تقتصر على المستوى البسيط لهذا الفلاح؛ بل
تتجاوزه إلى أكبر العقول ثقافة؛ وإلى عمق الجذور التى تقوم عليها عقائد كثيرة؛ ولعل أهمٌ
الارتباط المتكامل بين العقيدتين الإلهية والأخروية؛ ارتباطاً يصعب قصمه؛ مما
يجعل البحث فى إحداهما مستفلاً عن الأخرى فى ديانة ماء مسألة شائكة ومعقدة وصعبة
وهذا هو السبب الأول لاختيار عقيدة الخلود؛ لمعالجتها فى هذا البحث.
كما أن العالم الآخر عالم غيبي؛ لا دليل عليه سوى ما ورد عنه فى بعض السطور
موضوع تصديق وتكذيب؛ ليستمر قلقا بين الوجود والعدم. هذا رغم ارتباطه ارتباطاً
وثيقا؛ بالسلوك الخلقى والشخصي والاجتماعي للإنسان» حتى أن بعض الديانات الحية
كالمسيحية والإسلام؛ ترى أن عدم الإيمان بالحياة الأخرى؛ معناه الانهيار الكامل للنظام
الأخلاقي الدنيوي برمته؛ بل وانهيار الإيمان بالله ذاته. |
وغنى عن الذكر أن فريقا كبيرآً من الفلاسفة يرى الرأي نفسه؛ ولعل أصدق من يمثلهم
هناء فيلسوف النقدية الألماني (عمانو ثيل كائط أصمك1 1عن01ة0<(])؛ الذى بنى دليله الوحيد
على وجود الله والعالم الآخر معآ؛ على النظام الأخلاقي الدنيوي؛ وذهب إلى أنه لو لم
تكن هناك حياة أخرى يكتمل فيها تحقيق المثل الأخلاقية؛ لما أصبح للأخلاق فى هذا العالم
الموضع نفسه.
د. حسن حنذفى: دراسة بعنوان «الدين فى حدود العقل وحده لكانط» منشورة ضمن سلسلة
«تراث الإنسانية» المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشرء المجلد السابع؛ ص777.
وقد كتب كائط 1:01 مقالاً صغيراً عن « نهاية كل شيء»؛ أوضح فيه أن العالم كله
الزمان ليثبت الخلود'؛ وفلسفته الدينية فى مجملها؛ تفرق بين نوّعين من الإيمان بالله:
الإيمان أو اللاهوت الفيزيقي 01751908 0816 1181: الذى يعتنمد على الغائية فى
الإيمان أو اللاهوت الخلقى 000018 6816 11:81: الذى يعتمد على الغائية الخلقية
وغاية قصوى تطابق القانون الخلقى»بحيث لا يمكن الاستغناء بالقانون الخلقى عن لش
لأنه هو الضامن للأخلاق أو الدال عليهاء ومن ثم تكشف الإلزامات الخلقية عن الله.
أونامونو.ونعتقد أن هذا الرابط بين الإيمان بالخلود؛ وبين النظام الخلقى الدنيوي؛ سبب
المجال» خاصة فيما يتعلق بعقائد الحضارات القديمة وما تيسر لنا منهاء وجدناه يغامل هذه
يعانى من سطحية شديدة فى البحث لا تراعى ابسط شروط البحث السليم؛كمراعاة الفارق
الزمني؛ وما يستتبعه من فوارق فى مختلف الإمكانات المتاحة؛ مثلا.
في ديانة معينة؛ يتم تناولها فى مجملها؛ دون بيان واضح للخطوط الفاصلة بين معتقد
تتناول عقيدة الخلود منفصلة عن بقية فروع الديانة؛ انطلاقا من قاعدة هى أن هذه العقيدة
المرجع نفسه: ص :١١ آ١اء
التاريخى فى دراسات أخرى كما عند عبد العزيز صالح فى مجموعته الضخمة الشرق
الأدنى القديم ؛ أو عند نجيب ميخائيل فى سلسلة كته مصر والشرق الأدنيى القديم أو
عند سليم حسن فى مجموعته « مصر القديمة » وهى مجموعات هائلة كيف وكماًء وكان
لها فضل لا ينكر على بحثنا هذا .
وفى مجال الإشارة للكتب التى أفادتنا لا يفوتنا أن نذكر «فجر الضمير» للمؤرخ
ولسن ) كما كانت هناك فوائد خاصة لبعض الكتب التاريخية؛ كمساعدتها فى تفهم خط
سير التاريخ المصرى منذ بداية العصور التاريخية؛ وقد برزت أهميتها بوضموح؛ أثناء
كتابة الباب الأول من هذه الدراسة + ولعل أجدرها بالذكر هنا «مصر الخالدة» لعبد
الحميد زايدء و كتاب «تاريخ مصر منذ أقدم العصور إلى الفتح الفارسي» ل ( برستد
إلا أن الملاحظة الجديرة بالتسجيل فى مقام عرض ثروة المكتبة العربية العقائدية؛ أن
وأخذها كمسلمات؛ والملاحظ بشكل عام على ما تم من دراسات حول العقائد القديمة؛ أن
مجملة لم تجب عن كثير من الأسئلة حول عالم الخلود بوضوح أو بتفصيل؛ مثل:
زمن وجوده؛ بمعنى: هل هو موجود حالياً بجانب عالمنا هذا ؟ أم فيما وراءء؟ أم
سيكون بعد زوال منتظر لعالمنا المحسوس؟ أم أنه صورة مستقبلية له بعد تغيير أو
العلاقة الجدلية القائمة بيئه وبين أطراف العقيدة الشاملة المرتبط بها؛ وبينه وببن
نظيره فى ديانات مختلفة؛ وعلاقات التأثير والتأثر التى يحتمل قيامها على هذه
وإن كل هذه الأسباب السالفة؛ تدعو إلى إضافة بحث جديد؛ يتناول هذا المعتقد بشكل
ومع كل ما سلف» تأتى أسباب أكثر أهمية لاختيار الديائة المصرية لدراسة عقيدتها فى
تاريخاً؛ بحيث يصبح من واجب الباحثين تناول هذه الديانة بقدر أكبر من الاهتمام.
عند برستد 3602560 وديورانت»؛ من تأثيرها الكبير فى العقائد العبرية؛ نكتفى بالإشارة
إليها ؛ مع إحالة القارئ إلى « فجر الضمير» لبرسستد 127885180 و«قصة الحضارة»
والأخطر ما أكده بعض الباحثين +حول قوة تأثير عقيدة الخلود الفرعونية وعمقها فيما
بقوله :
رؤية برستد 137605080 لمصر؛كمهد لأعلى معاني المدنية؛ وقوله: «..كشفت وأنا مستشرق
قد ظهر قبلأن تكتب تلك الوصايا بألف سنتم"".
سر الاهتمام ببحثهاء وهى أنها ليست مجرد ديانة تمثل بداية الأطوار التطورية للعقل
وهناك أسباب هامة أخرى دفعت إلى هذه الدراسة؛ تتلخص فيما أثير من جدل حول
قيمة الديائة المصرية القديمة؛ فنجد فى هذا المجال آراء أخرى ترى أن الديانة المصرية؛
)0( الحضارة المصرية: ترجمة د.أحمد فخري؛ مكتبة النهضة المصرية؛ الشاهرة؛ د. تء صن
فجر الضمير: ترجمة د.سليم حسن؛ مكتبة مصرء القاهرة؛ د.ت؛ ص .٠١
رب الثورة (أوربريس) _-_
رغم طول بقائها الزمني لأكثر من أربعة آلاف عام؛ فإنها لم تستطع أن «.. تصبح قوة
روحية شاملة أبداء ولا أن تثمر فلسفة حياتية ملائمة»''' بل ويرى البعض مثل ( إريك
بيت زمعم 16ر5)("! أن شهرة العقائد المصرية خطأً شائع يرجع فى الحقيقة إلى شهرة
وأساطير» وخالياً تمامً من النظر فى الوجود والموت والأخلاق؛ وأنهم فى رأيه -. قوم
ليجعل البحث فى عقيدة الخلود الفرعونية أمراً مطلوباًء لحل هذا التعارض والوصسول
بالأمر إلى حقيقته؛ على الوجه الأقرب إلى الصحة واليقين.
وتنقلنا هذه الأسباب إلى سؤال جديد وهام هو:
لماذا أعتبر موضوع البحث مشكلة ؟؛ وللإجابة نقول:
أولأً: يمكن اعتبار الأسباب السالف إيرادها لاختيار الموضوع تفسيراً لاعتباره مشكلة؛
كما أنه لن يكون قصوراً من الباحث ولا ابتداعاً منه التأكيد من البداية على أن البحث فى
ديانة مصر القديمة؛ أمر شائك ومشكلة كبرى معقدة أشد التعقيد . حتى قال برستد إن
العقائد المصرية القديمة قد تشايكت حتى «.. صارت تشبه حزمة خيوط معقدة؛ مما
)0 إليزابيث رايفشتال: طيبة في عهد أمنحوتب الثالث: ترجمة إبراهيم رزق؛ مكتبة لبنان» لبنانء
)9 انظر : الحياة المصرية في مصر في الدولة القديمة؛ ترجمة محمد بدران؛ دراسة منشورة
ضمن سلسلة «تاريخ العالم»؛ المجلد الأول؛ مكتبة النهضة المصرية؛ القاهرة؛ د.ت؛ ص
فجر الضمير: ص 65..