السنة التالية لسقوط غرناطة وسقوط الأقنعة عن وجه الملوك الإسبان
والكنيسة الغربية . كذلك فقد عاد أبوه مع « كولومبوس » بصحبة عبد
« هندي 66+ فتعرّف « برتولومي » على هذا العبد القادم من بلاد الهند
من دمهم وإنسانيتهم قبل أن يراهم يسفكون دم الهنود وإنسانيتهم في
العالم الجديد . لقد جرى الدّميان بالخبر اليقين أمام عيني هذا الراهب
الشاثر على أخلاق أمته ورجال كنيستها ؛ وبعشات تبشيرها : دم
المسلمين ودم الهنود » سكان القارة الأميركية .
وبعد أن أنهى لاس كازاس دراسة اللاهوت أبحر إلى جزيرة
« سان دومينغو» ( وكان يُطلق عليها في ذلك الزمان اسم الجزيرة
أول راهب إسباني يعين رسمياآً في بلاد الهند الغربية التي اجتاحها
الإسبان .
شبه الجزيرة الهندية » ولم يصدق في البداية أنه قد اكتشف للعالم قارة
أو ما يُعرف عند العامة بالهنود الحمر . ِ
مطلقة تضمن حق الحكم بالحياة والموت على أي هندي ؛ كما أقطع
معظم الإسبان الغزاة تلك الأراضي التي لا يملكها ؛ ومنحهم تلك
جديلة .
الحقوق التي أدت إلى إفناء الملايين من الأبرياء .
كوبا . وما لبث أن قرف واشماز من وحشية الغزاة بعد أن شاهد
بعينيه المذابح الدموية الني ارتكبها المسيحيون في جزيرة كوبا ؛
نقطة التحول في حياة ذلك الراهب الذي صار ملعوناً من أبناء أمته
فكانوا يمعنون في غيهم كلما أمعن في النصح لهم ؛ وأما اخوانه 0
فكانوا كما وصفهم أحد الزعياء الهنود لا يعبدون إلا الذهب .
وصفهم « لاس كازاس » بقوله :
« كانوا يسمون المجازر عقاباً وتأديبً لبسط الميبة وترويع الناس .
قرية أو مدينة هو ارتكاب مجزرة مخيفة فيها . . مجزرة ترتجف متها
أوصال هذه النعاج المرهفة » .
النادرة على إبادة سكان القارة الأميركية وحيداً فريداً . كان إنساناً +
دمه الإسباني » أو في دينه المسيحي .
وهذا أعظم ما في شهادة « لاس كازاس » على وحشية قومه
كان يتحدث عن الإسبان ويقصد المسيحيين ؛ ويتحدث عن
المسيحيين ويقصد الإسبان . وكان يشكو ويتام من القتلة الطغاة ومن
التبشير والمبشرين . وإنه كيرا ما كان يصف لك القاتل والبشر في
مشهد واحد فلا تعرف ممن تحزن : أمن مشهد القاتل وهو يذبح
ضحيته أو يحرقها أو بطعمها للكلاب » أم من مشهد المبشر الذي تراه
خائفا من أن تلفظ الضحية أنفاسها قبل أن يتكرم عليها بالعياد +
أن نضج جسدها بالنار أو اغتسلت بدمها ؛ أو التهمت الكلاب نصف
ونقل إلينا صوراً ساخحرة عن طريقة التبشير حين كانت الحملة
تصل إلى المدن والقرى الهندية بعد منتصف الليل » وكانت تعلن على
الهنود باللغة الإسبانية التي لا يفهمها أحد :
ديا سكان القرية ( أو المدينة ) إننا نعلمكم بوجود آله ؛ ووجود
« بابا » ووجود ملك قشتالة سيد هذه الأراضي » فاخرجوا واعلنوا
الطاعة » وإلا فإننا ستحاربكم ونقتلكم ١»
وكان الفجر ينبلج عن حا الدم وأفق الضحايا البريئة . « كانوا
ينصبون المشائق في مجموعات. كل مجموعة ثلاثة عشر مشنوقاً ؛ من
أجل تكريم وتبجيل السيد المسيح وحوارييه الإثني عشر » ! وكيا قال
لاس كازاس عن الإسبان : « لقد قتل المسيحيون كل هذه الأنفس
البريئة ؛ وفتكوا كل ذلك الفتك باسم الدين . . وكم من جرائم
ارتكبوها باسم التبشير» . . « لقد ظل الإسبان طوال هذه السنين
يكتبون ويزعمون أن الله أرسلهم لفتح هذه البلاد التي كانت آمنة
الله في صلواتهم ويشكرونه لأنه أعطاهم كل هذه الخيرات » ولأنهم
أن يسرد ما حصل فعلا . إن العقل الجسور والخيال الجموح ليعجزان
عن الفهم والإحاطة . فإبادة عشرات الملايين من البشر في فترة لا
تتجاوز الخمسين سنة هول لم تأتٍ به كوارث الطبيعة . ثم إن كوارث
الطبيعة بطريقة واحدة . أما المسيحيون الإسبان فكانوا يتفننون
ويبتدعون ويتسلون بعذاب البشر وقتلهم . كانوا يجرّون الرضيع من
بين يدي أمه ويلوّحون به في الهواء » ثم يخبطون رأسه بالصخر أو
بجذوع الشجر ء أو يقذفون به إلى أبعد ما يستطيعون . وإذا جاعت
كلابهم قطعوا لها أطراف أول طفل هندي يلقونه ؛ ورموه إلى
أشداقها ثم اتبعوها بباقي الجسد . وإن المرء لا يستطيع أن يصدق
أن الإسبان المسيحيين الذين جاؤوا إلى العام الجديد ليبشروا بدين
« المحبة » كما يزعمون كانوا يقتلون الطفل ويشوونه من أجل أن يأكلوا
الحم كفيه وقدميه قائلين : إنها أشهى لحم الإنسان .
لم يكونوا يقتلون بل يتلذذون بالقتل ؛ ولم يكونوا يعذبون
ويبطشون ؛ بل كانوا يستمتعون ويطربون لمشهد العذاب والبطش .
ولقد اخترعوا في فن التعذيب ما يضاهي اختراعاتهم في فنون القتل +
أوروبا وأميركا حين نُشرت » وتركتهم يعيدون النظر في تاريخهم
وأخلاقهم وديانتهم المسيحية ؛ شهادات على إبادة أمة من عشرات
الملايين من البشر ء أو على ما يسميه « لاس كازاس » بدمار بلاد
الهند .
كانت القرارات البابوية هي التي منحت ملوك اسبانيا حق امتلاك
الأراضي ما وراء البحار . وكان هذا الحق يعني ؛ كما تحدث عنه
مؤلف كتابنا : نهب البلاد وإفناء العباد . وكانت القرارات البابوية
تقضي بأن يكون التبشير أولاّ ؛ والاستعمار ثانيآ ؛ أي أن يكون
للرهبان أولوية على العسكر الغزاة » وأن تكون الغنائم للكنيسة كما
الدولة . واكتشف الرهبان أن العسكر قد تولوا أمر التبشير بأنفسهم
وعلى طريقتهم » وأن ذهب العالم الجديد قد « طار » من يد الكنيسة .
الرهبان يلهثون وراء الذهب » ويحدثنا عن رئيس المطارنة الذي كان
البلاد . عسكراً ورهباناً . هؤلاء يريدون الذهب بتعذيب الأجساد
يشهرون سيف المسيح ؛ والمسيح عليه السلام براء منهم ومن أعالهم
البشر . وكانت آذان الملك الإسباني لا تسمع إلا رنين الذهب . ولاذا
يشفق الملك على بشر تفصله عنهم آلاف الأميال من بحر الظلمات ما
دامت جرائم عسكره ورهبانه في داخل إسبانيا لا تقل فظاعة عن
جرائم عسكره ورهبانه في العالم الجديد ؟ كان الإسبان » باسم الدين
المسيحي الذي ييرأ منه المسيح عليه السلام ؛ يسفكون دم الأندلسيين
الذين ألقوا سلاحهم . وتجردوا من وسائل الدفاع عن حياتهم
الجديد . لقد ظلوا يسومون المسلمين أنواع التعذيب والتنكيل والقهر
والفتك طوال مائة سنة فلم يبقّ من الملايين الثلاثين مسلم واحد » كما
ساموا الهنود تعذيباً وفتكاً واستأصلوهم من الوجود .
كانت محاكم التفتيش التي تطارد المسلمين وتفتك بهم . ورجال
التبشير الذين يطاردون الهنود ويفتكون بهم من طيئة واحدة تدل على ما
وصلت إليه قلوب أولئك المزعومين على المسيح عليه السلام من غلظة
وقسوة ووحشية .
وواضح من وصف المؤلف أن الهنود الذين أبادهم الاسبان كانوا
من أكثر شعوب ذلك الزمان براءة وطيية » وقد كان هذا مقتلهم .
فكلما سمعوا بوصول الاسبان إليهم خرجوا إليهم مرحبين يجملون
هذا « السيناريو» يتكرر في معظم القرى والمدن الهندية . . ومع ذلك
يقتلونهم . وقد قال عنهم « لاس كازاس » : « إن هذه الشعوب أسعد
أهل الأرض ؛ وإن بلادهم أسلم بلاد الله وأكثرها طمأنينة . . . إنها
شعوب رضية لا تعرف الشر ء طيبة بالغة الوفاء » بل إنها أكثر
الشعوب تواضعاً وصيراً ومسالمة وسكينة . إنها لا تعرف الضغينة ولا
الصخب ولا العنف والخصام . شعوب تجهل الحقد وسوء الطوية +
أجسادها الرهق ؛ وسرعان ما يهلكها المرض . . . ولقد غشي الإسبان
هذه الخراف الوديعة غشيان الذئاب والنمور والأسود الوحشية التي لم
واحد . ألا ترى أن الحروب الصليبية لم تتوقف عن حملاتها المعلنة إلا
بعد أن اكتشف الغربيون ما يطفىء عطشهم إلى الذهب والدم في
فجعلوها لهم أرضاً وتاريخاً ودين » كما كانوا يريدون لبلادنا أن تكون
وهناك . . سيرة البندقية والتوراة الي تروى هنا لأول مرة لقراء العربية
فتسد فراغاً كبيراً حول أصل هذه الإبادات وأخلاق أهلها وجنسهم
ودينهم
وأن يقنع ملك إسبائيا فردينائد العجوز بضرورة تنفيذه ؛ محاولاً التوفيق
بين مصلحة الخز؛ ِ إنقاذ الهنود من الإبادة . غير أن
فردينائد توفي وخلفه « شارل كانت » الذي لم يقبل بإعادة النظر في
الإجنياح الاسباني » بل إنه خطط لاستعيار ما تبقى من القارة ؛ وبعث
بالقائد الشهيره كورتيس » لغزو المكسيك وبيزار والبيرو . وفي عام
٠ أبحر «دلاس كازاس » إلى منطقة كومانا على الساحل
الفينزويللي + وكان شاهدآً على الحرق والقتل والدمار الذي ارتكبه
مرة على هذه المذابح والفظائع. »+ وكيف أن الأمبراطور الإسباني أرسل
حملات تأديب تميزت بوحشيتها الشديدة » وارتكبت مزيداً من
المذابح . بل إن أتباع « لاس كازاس » من الرهبان اشتركوا فيها
وكان هذا الفشل المر منعطفآ حاسم في حياة هذا الكاهن الثاثر
فتخلى عن كل أملاكه ؛ وأقلع عن التعاون مع الاسبان نائياً +
وانصرف إلى الدراسة والبحث . وكتب رسالته الشهيرة إلى المجلس
الإسباني عام ١571 م قائلا فيها :
لقد قال السيد المسيح : « هأنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب 6 +
فلماذا يا سادتي ترسلون الذئاب الجائعة المتوحشة التي تذبح وتهلك
النعاج ؟ .
وأحرز « لاس كازاس » شيئاً من النصر في عام 1548 حين منحه
حاكم غواتييالا الإسباني منطقة « حراما » أوكل إليه أمر تحويلها إلى
أرض سلام . . . غير أن موجة التهديد والعدوان ثارت عليه في كل
الامبراطورية الإ فأخفقت التجربة ؛ لكنه لم ييأس » بل توجه
إلى مدريد وواجه الأمبراطور ؛ وأقئعه بوضع قوانين الإصلاح الداعية
إلى إلغاء عبودية الهنود وإبادتهم » وهي القوانين التي لم تنفذ أبداً ؛ ثم
طويت في أدراج النسيان .
وعاد إلى المكسيك عام 1544 ؛ ولم يبقّ فيها أكثر من عامين زهق
فيهما من عنت المستعمرين الغزاة ومظالمهم . وحين طالب بتدخل
ثم تعرض للسباب والشتائم والإهانات من إسبانيا ومن البلاد
وكانت نهاية التجربة المرة التي عاد بعدها إلى إسبانيا + وأمضى
السنوات العشرين الأخيرة من حياته في عزلة كاملة يؤلف ويرد على
التهم التي توجه إليه .
وبعد » فهذا هو الكتاب الثاني من سلسلة « من أجل الحقيقة 6
بعد كتاب « المسيح الدجال » للفيلسوف نيتشه . وإنه ليُنشر لأول مرة
بالعربية لإضاءة هذا الجانب المظلم من الإجتياحات المسيحية
إن أحدآً لا يعلم كم عدد الهنود الذين أبادهم الغزاة الإسبان .
كازاس فيعتقد أنهم مليار من البشر . ومهيا كان الرقم فقد كانت
تنبض بحياتهم قارة أكبر من أوروبا بسبعة عشر مرة » وها قد صاروا
الآن أثراً بعد عين .
الناشر