ما كان لهذا الكتاب أن يكتب لولا الملوك الكبار جلالة
الملك خالد بن عبدالعزيز » رحمه الله ؛ وخادم الحرمين
الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز ؛ رحمه الله ؛ وخادم الحرمين
الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز أمدٌ الله في عمره - ولهم
جميعا في قلبي من الحب والتقدير والامتنان ما لا يعرفه إلا
الله عز وجل . ٍِ ٍِ
البيت الأبيض... بين سيدين
في المرة الأولى كان سيّد البيت الأبيض نيكسون .
وفي المرة الثانية كان سيِّده كارتر . كان نيكسون فى
الأسابيع الأخيرة من حكمه في صيف سنة م
وكان كارتر في الأسابيع الأولى من ولايته في ربيع سنة
47م . كان الفارق بين البيت الأبيض في المرة الأولى
والبيت الأبيض فى المرة الثانية كبيرا . وكان الفارق بين
الرجلين هائلاً . -
كان نيكسون يخوض معركة «ووترجيت» وقد
وصلت الأزمة إلى أبواب محاكمته في مجلس الشيوخ ٠
ولكنه كان يبدو فى منتهى الثقة . وكذلك كان يبدو كل من
جام ١
خلال حفل الغداء أكَّد لي عضو مجلس الشيوخ الذي
- لا تصلق أن مجلس الشيوخ سيعزل الرئيس . سوف
تكون هناك محاكمة ولكنها لن تنتهي بعزل الرئيس . سوف
مجلس الشيوخ وأعرف كيف يفكر ا مجلس .
غير أن نيكسون استقال بعد هذا الحوار بأسابيع . لم يعد
بوسع المؤرخين إلا التكهّن عن نتيجة المحاكمة في مجلس
كان يتقمّص في تصرفاته شخصية «الامبراطور» . والواقع أن
هذه ملاحظة لا تخلو من صحة ؛ على الأقّل خلال تلك
ايام الأباطرة .
كنا في قاعة من قاعات البيت الأبيض تتناول المرطبات
قبيل حفل الغداء . ظهر رئيس البروتوكول في وزارة الخارجية
الأمريكية وطلب منّا أن نقف في صف واحد حسب التسلسل
البروتوكولي لأعضاء الوفد . بقينا مصطقين كالجنود بضع دقائق
حتى انفتح باب القاعة وظهر جندي ضخم يرتدي زياً مزركشاً
وصرخ بصوت جهوري هرّ القاعة :
ودخل «الامبراطور» يحف به الحرس والأعيان .
ما من القاعة سوف يطلق إحدى وعشرين طلقة » وأ تبدأ
أوركسترا صغيرة مختفية تحت إحدى الطاولات بعزف «حيّوا
الزعيم»!"” . غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث بطبيعة الحال .
تحرّك الرئيس عبر الصف البروتوكولي يصافح » وبتكلّم
بحساب .
ربّما كان عداء وسائل الإعلام الشهير له هو السبب . كان لونه
رمادي . كان أطول مما تصوّرت » وأوسم مما تصورّت » ويبدو
أذكى مما تصوّرت . حتى أنفه الشهير كان يتعايش مع بقية
ملامحه في سلام لم تظهره عدسات المصوّرين ولا أقلام
انتقلنا إلى قاعة الطعام . وفي نهاية الوجبة أشار بإصبعه
إشارة تكاد تكون خفيّة . وفجأة أقفلت الأبواب . وامتنع الخدم
عن الحركة . وساد الصمت . وظهر من مكان ما ميكرفون صغير
أمام الرئيس . وألقى الرئيس خطاباً مرتجلاً جيداً عن المملكة .
تذكّرت فيما بعد القصة التي رواها لي جميس ايكنز سفير
الولايات المتحدة الأسبق فى المملكة . قال إن نيكسون؛ خلال
زيارته للمملكة سنة 1414م » ألقى خطاباً طويلاً أثناء مأدبة
العشاء » خلط فيه بين مضيفه الملك فيصل وبين فيصل الأول
ملك العراق . وأضاف إيكنز أنه لولا لباقة المترجم لحدث حرج
)١( المعزوفة التي تواكب دخول الرئيس وخروجه في المناسبات العامة في الولايات
المتحدة
شديد للضيف والمضيف . إلا أن أيكنز كان يكره نيكسون
الاثنين مع شيء من الملح ؛ كما يقول التعبير الإنجليزي ٠
خلال الغداء التفت إليّ عضو آخر في مجلس الشيوخ
وقال :
الرئيس حفل غداء تكرماً لشاه العراق .
- تقصد شاه إيران؟
- لا . لا . إننى أعرف الشاه محمد رضا بهلوي جيداً . وهو
صديق عزيز لي . إنني أقصد شاه العراق .
- ولكن العراق ليس فيه شاء . ولم يكن فيه ؛ بحسب
علمي » شاه في أي يوم من الأيام .
لم أشا أن أطيل الجدل . قد يكون السبب أقداح النبيذ
الأبيض التي كان عضو مجلس الشيوخ يحتسيها بشهية
وبسرعة . ثم إن جهل عدد من أعضاء الشيوخ بالشؤون الدولية
كان سراً يعرفه الجميع . تركنا شاه العراق وخضنا في شؤون
الشاه الآخر .
في المرتين كنت مع الأمير فهد . المرة الأولى باعتباره نائبأ
ثانيا لمجلس الوزراء ووزيرا للداخلية ؛ والمرة الثانية باعتباره وليا
للعهد ونائباً لرئيس مجلس الوزراء . كان هدف الزيارة الأولى
إعطاء شحنة من الحرارة للعلاقات الأمريكية/ السعودية التي
توتّرت نتيجة الحظر البترولي خلال حرب رمضان » خصوصاً
بعد أن اتح للعالم أجمع أن أهمية البترول في تزايد » وأن
أهمية المملكة في تزايد . جاءت الزيارة بمبادرة من الولايات
المتحدة ؛ وكانت الدعوة فى الأساس موجهة إلى الملك فيصل .
أناب عنه الأمير فهد . وكانت أهم نتيجة تمشّضت عنها الزيارة
إنشاء اللجنة المشتركة للتعاون الاقتصادي بين البلدين . أمَّا
الزيارة الثانية فقد جاءت بدعوة من الرئيس كارتر » وكان هدفها
أن تيح للزعيمين الفرصة للتعرف ببعضهما البعض ولبحث
المعضلة الشائكة فى الشرق الأوسط .
خلال الزيارة الأولى كان كيستجر نجم واشنطن الساطع
الرسمية تدور معه ؛ وقد تولَّى هو تشكيل اللجنة ورئاستها من
الجانب الأمريكي » وتولى الأمير فهد رئاستها من الجانب
السعودي . وترك الإشراف المباشر على نشاطاتها لوزير الخزانة
من الجانب الأمريكى ؛ ولوزير الدولة للشؤون المالية والاقتصاد
الوطنى من الجانب السعودي محمد أبا الخيل . كان كيستجر
كعادته كثير الدعابة . بدأ كلمته فى حفل العشاء الرسمي
الذي أقامه للأمير فهد بالقول ١ ٠:
- إنه لمن محاسن الصدف أن نجتمع أنا وسمو الأمير في
واشنطن في يوم واحد .
- لعلك لاحظت يا سمو الأمير أن كل وزارة في أمريكا
تقيم لنفسها وزارة خارجية مصغّرة ؛ وقسماً مصغراً للعلوم
الدفاع والخزانة الذين كانوا يحضرون الاجتماع .
كنت قد تعرّفت على كيسنجر قبلها بسنوات ؛ وبالتحديد
في صيف سنة /143م . كنت عضواً في ندوة هارفرد الدولية
الندوة تستقبل كل صيف أربعين ضيفاً من مختلف أنحاء
العالم » يفترض فيهم أن يكونوا من الشباب قادة الرأي والفكر »
حيث يقضون ستة أسابيع في هارفرد يناقشون خلالها المجتمع
الأمريكى والعلاقات الدولية . وكانت الفكرة الأساسية أن مثل
هذا اللقاء سيجعل الضيوف يفهمون الولايات المتحدة فهماً أفضل
ويتصلون بعدد من مفكرّيها وقادتها في حوار ينفع الطرفين معاً .
كان من الواضح لأعضاء الندوة أن كيسنجر يتميّز بذكاء
شديد وحيوية لا حدود لها ؛ وقدرة فائقة على السخرية من
عندما دار النقاش حول الشرق الأوسط . كان ينظر إلى النزاع
العربي الإسرائيلي من زاوية واحدة هي زاوية الحرب الباردة .
وكان سعيداً لأن جمال عبدالناصر تلقى درساً قاسياً سيجعل
الآخرين يترددون قبل أن يتحدوا الولايات المتحدة كما تحداها .
وكان يرى أن على الولايات المتحدة ألا تتدخّل لتنقذ «ناصر
تتخلّص من النفوذ السوفيتي قبل أن تطمع في تدخل الولايات
المتحدة كى تبحث عن تسوية للمشكلة!" .
عندما صافحته خلال الزيارة قال له الأمير فهد :
- هل تذكر الدكتور غازي؟ لقد كان عندك في هارفرد .
المشاركين في ندوة هارفرد . إلا أنه سألني :
بعد خروج الاتحاد السوفيتي من الصورة .
كان الود الحميم بين السادات و«اعزيزي هنري» قد بدأ
- ألا تعتقد أنه من غير المناسب الاعتماد الزائد على
- إنني لا أعرف سوى القليل عن شؤون مصر الداخلية ؛
النظرة الاستراتيجية لم تكن سوى شعار لتغطية عواطفه الحقيقية الصهيونية
حقيقة الأمر «نائب الامبراطور» . كان الجميع مبهورين
بتصرفَاته وبكلماته وبنظرياته . أذكر أثناء حفلة العشاء التى
أقامها لنا أن موظفين كبيرين فى وزارة الخارجية الأمريكية كانا
شيء بروعة وبأسلوب فريد!
هذا كله فى وصف حفلة عشاء عادية أعدها متعهد
أطعمة ؛ ولعل كيسنجر كان آخر من يعلم بتفاصيلها التي
أمّا زميله وزير الدفاع شليسنجر فقد كان شديد الغرور دون أن
يشفع له ذكاء أو مرح . لقد قابلت شليسنجر مرتين : مرّة في
واشنطن في ذلك الصيف » ومرّة أخرى بعدها بأربع سنوات
عندما زار الرياض كوزير الطاقة في عهد كارتر . وفي المرتين لم
أحسّ بأي احترام له ؛ ولا لما يقوله . كان يتكلم ببطء وبعنجهية
يتصرّف كما لو كان يدرس مجموعة من الأطفال المتخلّفين