وأصل مادة (ريدع» للاختراع على غير مشال سابق؛ ومنه قول الله
من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل» ويقال: ابتدع
فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع؛ يقال في
الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله
ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة؛ فاستخراجها للسلوك عليها هو
الابتداع» وهيئتها هي البدعة؛ وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه
بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة؛ وهو
إطلاق أخص منه في اللغة فالبدعة إذن عبارة عن «طريقة في الدين مخترعة
تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه»
بالعبادات» وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول:
«البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما
يقصد بالطريقة الشرعية» ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد. فالطريقة
والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنما
مخترعة في الدنيا على الخصوص لم تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان
ولما كانت الطرائق في الدين تتقسم فمنها ما له أصل في الشريعة؛
المخترع» أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة
ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلق بالدين» كعلم البحو
والتصريف ومفردات اللغة وأصول الفقه وأصول الدين» وسائر العلوم الخادمة
للشريعة فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع.
اعتباره؛ وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة؛ وسيأتي بسطها بحول
.)44 في الباب الثامن (ص )١(
فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعياً لا إشكال في أن كل علم خادم
ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات؛ وإذا دخلت
في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال» كما يأتي
باطل بالإجماع فليس إذاً ببدعة.
المأخوذ من جملة الشريعة.
وإذا ثبت جزئيٌ في المصالح المرسلة؛ ثبت مطلق المصالح المرسلة.
فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو
علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة» بدعة أصلاً.
وقوله في الحد (رتضاهي الشرعية» يعني: أنها تشابه الطريقة الشرعية
من غير أن تكون في الحقيقة كذلك؛ بل هي مضادة لها من أوجه متعددة:
منها: وضع الحدود كالناذر للصيام قائماً لا يقعدء ضاحياً لا يستظل»
والاختصاص في الانقطاع للعبادة؛ والاقتصار من المأكل والملبس على
صنف دون صنف من غير علة.
صوت واحده واتخاذ يوم ولادة النبي 4 عيداً؛ وما أشبه ذلك.
ومنها: التزام العبادات المعينة في أوقات معيئة لم يوجد لها ذلك
التعيين في الشريعة؛ كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
الأمورّ المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية.
وقوله: ,ريقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى» هو تمام
معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها.
وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب
ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافيٍ.
وقد تين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات. فكل ما اجوع
من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع ولم يقصد به التعبد فقد خرج
وأما الحد على الطريقة الأخرى”"' فقد تبين معناه إلا قوله: يقصد بها
ما يقصد بالطريقة الشرعية.
ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم
لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها؛ فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته.
(1) أي على طريقة من يُدخل العادات في معنى البدع.
أراد بها أن يأتي تعّده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأنم المراتب في
دنياه على تمام المصلحة فيها.
وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع والحمد لله.
فصل
[البدعة التركية]
وفي الحد أيضاً معنى آخر مما ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل
فيها: إنها طريقة في الدين مخترعة إلى آخره يدخل في عموم لفظها
البدعة التركيّة كما يدخل فيه البدعة غير التركية فقد يقع الابتداع بنفس
الترك تحريماً للمتروك أو غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً
يعبر فلا حرج فيه؛ إذ معناه أنه ترك ما يحوز تركه أو ما يُطلب ترك
أو دينه وما أشبه ذلك فلا مانع هنا من الترك: بل إن قلا بطلب التداوي
بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إلا على الطريقة الثانية القائلة: إن البدعة
تدخل في العادات. وأما على الطريقة الأولى فلا يدخحل. لكن هذا الشارك
لأن بعض الصحابة هم أن يُحرم على نفسه النوم بالليل» وآخر الأكل
بالنهار» وآخر إتيان النساء» وبعضهم هم بالاختصاءء مبالغة في ترك شأن
النساء. وفي أمثال ذلك قال النبي و: (رمن رغب عن سنتي فليس مني»"".
فإذاً كل من منع نفسه من تناول ما أحل الله من غير عذر شرعي فهو
خارج عن سنة النبي 8 والعامل بغير السنة تديناً؛ هو المبتدع بعينه.
)١( رواه البخاري (9077) ومسلم (401١)؛ وهو جزء من حديث رواه أنس بن مالك
رضي الله عنه؛ في حبر النفر الثلاثة؛ الذين سألوا عن عمل رسول الله .
(أحدهما) أن يتركها لغير التدين إما كسلاً أو تضييعاً أو ما أشبه ذلك
من الدواعي النفسية. فهذا الضرب راجع إلى المخالفة للأمر» فإن كان في
كان كلياً قمعصية حسبما تبين في الأصول.
(الثاني) أن يتركها تديناً. فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين
يضد ما شرع الله
فإذاً قوله في الحد: (ر طريقة مخترعة تضاهي الشرعية» يشمل البدعة
التركية؛ كما يشمل غيرهاء لأن الطريقة الشرعية أيضاً تتقسم إلى ترك
خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية؛ وبيان ذلك من جهة النظر؛
والنقل الشرعي العام.
(أحدها) أنه قد عُِمَ بالتحارب والخبرة؛ أن الحقول غير مستقلة
جرت أحوالهم على كمال مصالحهم وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين
وأما المصالح الأخروية؛ فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع
أسبابهاء وهي العبادات مثلاً. فإن العقل لا يشعر بها على الحملة؛ فضلاً عن
العلم بها على التفصيل.
فعلى الحملة؛ العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي.
فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بهاء ما رام
وَرَضِيتُ لِكُمْ الإسلام و١"
وفي حديث الورباض بن سارية: وعظنا رسول الله # موعظة ذرفت
منها الأعين ووجلت منها القلوب؛ فقلدا: يا رسول اللّه؛ إن هذه موعظة