وصل الله على سيدنا محمد الذي جاء بالحق وأزهق الباطل . وعلى آله وأصحابه
المهتدين بهديه إلى يوم البعث والنشور » سبحان ربك رب العزة عا يصفون وسلام
على المرسلين . والحمد الله رب العالمين .
في ١١ من ذي الحجة 1600 ه
الموافق 75/ /٠١ بحام
خادمالحلم
عبالله بن ماهم راكد
الحمد له والصلاة والسلام على رسول الله كَيةٍ وعلى آله وأصحابه وسلم .
أما بعد :
فإنه يسعد كاتب هذه السطور أن يسطر سطوراً في موضوع يتصل بعلم من أعلام
هذه الأمة ؛ قيضة الله للذبٌّ عن حوزة الإسلام » وإظهار الحق ؛ وإزالة الشكوك +
وإزالة الأوهام" حين كان الخوض في هذا الموضوع مجازفة بالحياة ودعوة للموت
الزؤام ؛ وأ في ذلك بحجج وبراهين لم يسبق إليها ؛ ولقي خصومه على يده من
الثالث عشر الهجري (القرن التاسع عشر الميلادي) وطبقت شهرته الآفاق . وسلم له
معاصروه وأقرانه وعلماء العالم الإسلامي + بالأمانة والزعامة في هذا الموضوع . ألا
وهو مولانا رحة الله الكيرانوي ؛ مؤلف هذا الكتاب « إظهار الحق » ومؤسس المدرسة
الصولتية بمكة المكرمة . ودفين المعلاة (777 ١ه 768١ه) +
مأثرة عظيمة تكفي للبلوغ به إلى درجة العلماء الخالدين والأبطال المجاهدين » أنه
وقف في الدفاع عن الإسلام + وتمحيص الحق والباطل . ودحض الشبهات ؛ وإعادة
الثقة إلى نفوس المسلمين ورفع معنوياتهم ؛ واعتزازهم بفضل دينهم على الأديان
)١( تلميح بأسماء مؤلفات العلامة الشيخ رحمة الله الكيرانوي المكني الثلاثة الشهيرة وهي : « إظهار
الح » و « إزالة الأوهام » و « إزالة الشكوك » © وله كتاب زابع في الموضوع نفسه وهوه اصح
الأحاديث في إبطال الطليث » .
كلها ؛ وإعجاز كتابهم وخلود رسالة نبيهم بن في أحوال رهيبة وساعات عصيية +
ووقف في وجه خصوم' كانوا ينتمون إلى الفاتحين الذين يتمتعون بأكبر سلطة وقوة في
ذلك العصر . وحكومات قوية . ونملكة لا تغرب عنها الشمس . ومدنية زاهرة دافقة
بالحياة والنشاط . وكان هو بالعكس ينتمي إلى شعب” جريح القلب والجسم
ومتحطم الأعصاب . ضعيف الثقة بتراثه وأمجاده . يعيش في عزلة عن العالم ؛ ينظر
إليه الانجليز كالمنافس الطبيعي الوحيد ؛ والخطر الحقيقي على زحفهم وتقدمهم في
آسيا وأفريقيا بصفة خاصة . وقد انتشر الس » التصارى الأوروبيون +
والمتنصرون اهنود . في مدن الهند وقراها بحماس زائد . ونشاط كبير يدعون أنصاف
النصر في كل ميدان . وكفى بذلك دليلآ على صدق الدين الذي يدينون به في عيون
الجهلاء الضعفاء .
وقد ضعفت معرفة علماء المسلمين فضلا عن عوامهم ودهمائهم - بالنصرانية
وتطورها وارتقائها وما طرأ عليها من تغييرات وتحويلات ؛ وما مر بها من أحداث
يدرسونه من علوم دينية شرعية . أو فنون عقلية يونانية” ؛ وبحوث كلامية وفقهية +
وتحقيقات تفسيرية وحديثية , فكان هذا الزحف العلمي والعقائدي مفاجأة لعلماء
المسلمين ؛ شبيهة بتببيت أو غارة في ظلام الليل . وكان الوقوف في وجهها ومقاومتها
)١( القساوسة الأ
() الشعب المسلم الهندي .
(©) يستثنى من ذلك أفذاذ من أصحاب الاختصاص في دراسة الديانات الأجنبية والاطلاخ على العهد
القديم والجديد . من علماء أسرة حكيم الإسلام ولي الله الدهلوي . الذين كانوا يدرسون التوراة
والإنجيل مع ما يدرسونه من المصحف والكتب ؛ والشواذ من علماء الفند المتبحرين » أمثال العلامة
السيد آل حسن الموهاني (13870ه) صاحب كتابي (الاستفسار والاستبشار) والشيخ عنايت رسول
الجرياكوتي (1770ه) صاحب كتاب (البشرى) الذي درس اللغة العبرانية واتقنها .
بقاع
يحتاج إلى شجاعة معنوية » وحمية دينية متأججة ؛ وصبر طويل وهمة عالية . تحث على
دراسة المسيحية من ينابيعها الأصلية واستعراض واسع بما كتب عنها » إثباتاً ونفياً »
بأنه سائر في نفق طويل مظلم ؛ وكانت وسائل هذه الدراسة وموادها ؛ مفقودة أو
علماءهذه البلاد شبه القارة الهندية اللغة الانجليزية » وكانوا حديثي العهد بها +
وقد زهدهم فيها وكرهها إليهم أنها لغة الفاتحين المهينين هم ؛ ولا يتوقع وجود هذه
المصادر في هذه البلاد . لأن ذلك ينافي مصلحة الدعوة إلى النصرانية ؛ ويضعف
موقف الدعاة إليها ؛ ويثير عليهم مشاكل جديدة . فكانوا على إقصائها من هذه البلاد
أحرص متهم على جلبها أو تزويد المكتبات بها .
كل ذلك كان يعقد حمية الشيخ رحمة الله وزملائه ؛ الذين وهبوا حياتهم للدفاع عن
الإسلام . ودحض الشبهات حوله ؛ والوقوف بالقسس و « المبشرين » - كما كانوا
يسمون أنفسهم - في موقف الدفاع بدل موقف الهجوم ؛ وتلك هي الحكمة الحربية
العسكريين ؛ ولكن ذلك لم يفت في عضد الشيخ الذي هيأه الله ليخوض هذه المعركة
الحاسمة التي لابد أن يخوضها الشعب المسلم الهندي الذي واجه الدعوة المسيحية وجهاً
لوجه . قبل أن يواجهها شعب آخر في قطر إسلامي أو عربي ؛ فكان يتوقف عليه
إليها ؛ فإذا قدر الله أن يخرج هذا الشعب الأعزل المشخن بالجراح من هذه المعركة
تراجع هذا السيل على أ
قام الشيخ رحمة الله وشمر عن ساق الجد والاجتهاد . ونذر له أن لا يهدأ حق
يدرس مصادر النصرانية ؛ ومراجعها ؛ دراسة عميقة دقيقة ويغوص فيها وينقب .
قام بنشاط كبير وحماس زائد » في مناظرة علماء الهند + وقد تحداهم تحديا سافرا + وقام
بجولة في مديريات الهند . يخطب في المجامع . ويدعو إلى النصرانية . وكانت المشكلة
مشكلة اللغة . وكان الشيخ لا يعرف اللغة الانجليزية ؛ ولتعلم اللغات الأجنبية
مرحلة قد تخطاها الشيخ . الذي ظل زمنا طويلا مشغولا بالعلوم الدينية والعقلية وكان
فأين القنظرة الي تصل بينهها ؛ وأين الرجل الذي يساعد الشيخ رحمة لله في الاطلاع
على المصادر الأجنبية . والوثائق المسيحية التاريخية ؟
هنالك قيض الله له مسليًا غيورا وله جنود السموات والأرض - وهو الدكتور
محمد وزير خان الأكبر ابادي الذي سافر إلى لندن سنة 1877م يدرس الطب الجديد +
وقد نال فيها شهادة عالية . وأتقن اللغة الإنجليزية . ودرس اللغة اليونانية . وعني
بدراسة المسيحية من مصادرها الأصلية واقتثاء كتبها . واستصحب هذه المكتبة
الثمينة إلى الهند . وكان عضد الشيخ الأيمن في هذا الجهاد العلمي الكبير الذي كان
اجهاد الساعة وواجب الوقت .
ولما أكمل الشيخ رحمة الله مهمته في الدراسة . وأخذ عدّته وعتاده لخوض المعركة +
وقد استفحل أمر ١ فندر » فقد رأى أن الجو قد خلا له ؛ فازداد جرأة وتحدياً . رأى
الشيخ رحة الله أنه لا سبيل إلى الحد من نشاط هؤلاء القسس ؛ وفي مقدمتهم وعلى
رأسهم القس «فندر» وإعادة الثقة إلى نفوس المسلمين ؛ ومقاومة « مركب النقص »
فيهم إلا مناظرة ١ فندر» في جمع حافل يحضره المسلمون والمواطنون + والحكام
+ ساهم الدكتور في ثورة 1881م » وهاجر على أثرها إلى مكة المكرمة حيث لحق بالشيخ رحمة الله )١(
ومات ودفن بالبقيع
() صدرت له الطبعة الثامنة باللغة الفارسية سنة 1888م من أكره » والطبعة الثالثة باللغة الأوردية سئة
مهام
الموضوع . وألح عليه بالظهور أمام الجمهور وعلماء المسلمين » واستعان فى ذلك بكل
في ١١ من رجب سنة 1776ه ٠١( من أبريل 4 186م6" في أكبر آباد - اكره إحدى
مديريات الولاية الشمالية الرئيسية وأحد مجالات النشاط التنصيري في الهند ؛ وفي
حي من أحيائها المعروفة بحارة « عبد المسيح ؟"
بدأ الحفل في اليوم المعين » والساعة المحددة وقد حضرها ولاة المديرية من حكام
وقضاة . وبعض كبار موظفي الثكنة الانجليزية من الإنجليز ؛ وحضر القس الشهير
( فندر 500088 ) والقس (وليم كلين لاتقعاه للهللاالاا ) وعدد كبير من أعيان
الدكتور محمد وزير خان بجوار الشيخ رحمة الله يساعده ويتعاون معه ؛ وكانت خمس
قضايا موضوع البحث والمناظرة وهي :
-١ التحريف في الكتاب المقدس (العهد القديم والجديد»)
7 - وقوع النسخ .
٠ التثليث .
٠ صدق القرآن وصحتة .
وقد تقرر أنه إذا انتصر الشيخ رحمة الله في هذه المناظرة يدخل « فندر» في
الإسلام . وإن كان العكس يتنصر الشيخ . . أسفرت هذه المناظرة التي لفتت أنظار
المعنيين بالقضية في داخل البلد وخارجه وكانت حديث النوادي والشغل
الشاغل » والمقيم المقعد في البلد عن اعتراف القس « فندر» بوقوع التحريف في
. قبل الثورة بثلاث سنوات )١(
+ منسوبة إلى أحد المتنصّرين من أبناء البلد » يظهر من ذلك نفوذ حركة التنصير في داخل البلد )(
مكلاب
ثمانية مواضع من الإنجيل . وقد أفزع ذلك الولاة وأنصار ؛ فندر » وشيعته ؛ ولكنه
سهم أطلق من القوس فلا راد له . وتزايد عدد الحاضرين في الغد » وازداد عدد
وأصرٌ ١ فندر » على أنَّ الأخطاء التي وقعت في الإنجيل كانت من سهو الكاتب . أما
العبارات التي تتضمن عقيدة التثليث . وألوهية المسيح . والفداء والشفاعة فهي
مصونة من التحريف . وقد رد عليه الشيخ بقوله : (إنك ما دمت قد اعترفت بوقوع
التحريف في الإنجيل . فقد أصبح هذا الكتاب مشكوكا فيه برمته) وانتهى البحث
أنه انسحب عن ميدان المناظرة . وكان انتصارا رائعا للجانب الإسلامي ١ قويت به
معنوية المسلمين وتشجعوا على مواجهة القمس ورد دعاواهم . وفقدت الدعوة
وبعد عامين قامت ثورة 1801م التي كانت المحاولة الأخيرة اليائسة للتخلص من
الأخطبوط » الانجليزي وطرح نيره ؛ وعلى أثر إخفاقها تعرض المسلمون لرد فعل
عنيف من جهة الانجليز الفاتحين الموتورين الذين كانوا يعتبرون المسلمين أصحاب
الفكرة والقيادة في هذا الجهاد والمواطنين تابعين لهم » فكان حنقهم شديداً على علماء
المسلمين وأهل الخطر متهم + ومن له شأن في المجتمع الهندي ؛ يعلقونهم على المشائق
ويقتلونهم بتعذيب وإهانة ؛ وييحثون عن كل من كانت له كلمة مسموعة أو نفوذ في
المجتمع . وكان من ضمتهم وفي مقدمتهم : الشيخ رحمة الله الكيرانوي الذي انتصر
عليهم في المعركة الدينية . وأسهم في الجهاد ضدهم » وقد اختفى مدة في قرية
صغيرة . ولما دخلت الجيوش الانجليزية في هذه القرية . أخذ المنجل ودخل في
مزرعة وتشاغل بحصاد الحقل . كفلاح صغير مغمور ؛ واستطاع بذلك أن ينجو
ذلك في سنة 1837م يعني بعد الثورة بخمس سنوات . وصودرت أملاكه التي كانت
)١( راجع للتفصيل ه البحث الشريف في مسألتي النسخ والتحريف » في خطابة هذه المناظرة وخبرها
للشيخ رفاعي الخولي على هامش « إظهار الحق » طبع المطبعة العلمية باستنبول عام 1716ه .
واسعة . وبيعت بالمزاد العلني . وكان ذلك في أيام خلافة السلطان عبد العزيز
العثماني ؛ وإمارة الشريف عبد الله بن عون » وما عرفت منزلته العلمية في مكة 6
وبلاؤه في الدفاع عن الإسلام ؛ سمح له بالتدريس في الحرم المكي » وتوثقت بينه
وبين عالم مكة الجليل الشيخ أحمد بن زيني دحلان الصداقة ٠ وهو الذي كان له الفضل
في التعريف به عند شريف وعلماء مكة وأعيانها
وصادف أن القس ؛ فندر » بعدما قضى فترة في الأقطار الأوروبية » كمانيا
بالدعوة للتنصير في مقر الخلافة الاسلامية وقلب العالم الإسلامي . وقد قابل السلطان
عبد العزيز . وحكى له قصة المناظرة في الهند ؛ وذكر أنه كان للمسيحية فيها انتصار
على الإسلام . وهم ذلك السلطان عبد العزيز خليفة المسلمين ؛ وكتب إلى شريف
مكة بأمره بالاتصال بأهل الخبرة من حجاج الهند . والحصول على المعلومات
الصحيحة عن هذه المناظرة وثورة 1851م . وإحاطة الباب العالي بحقيقة الأمر ء
وكان الشريف قد اطلع على حقيقة الأمر عن طريق شيخ العلماء السيد أحمد دحلان .
فكتب بذلك إلى الآستانة . وذكر أن العالم المسلم الذي كان بطل هذه القضية موجود
في مكة . فأنفذ السلطان بطلبه إلى الآستانة وتوجه الشيخ إليها في سئة 17868ه
(8م) ؛ ولا علم القس « فندر » بتوجهه إلى القسطنطينية غادر العاصمة
لساعته . وعقد السلطان مجلسا للعلماء والوزراء حكى فيه الشيخ قصة المناظرة 6+
وكيف انتصر فيها الاسلام على المسيحية ؛ وقص خبر ثورة 1801م وحينئذ فرض
السلطان قيودا على نشاط المنضّرين والإرساليين في الدولة العثمانية . وسنّ في ذلك
قوانين صارمة . وكثيرا ما كان السلطان يجتمع بالشيخ بعد صلاة العشاء ويصغي إلى
حديثة ؛ ويحضر هذا المجلس خير الدين باشا التونسي الصدر الأعظم ؛ وكذلك شيخ
الإسلام وغيره من كبار العلماء
واقترح السلطان عبد العزيز والصدر الأعظم خير الدين باشا على الشيخ بعدما
سمعا قصة المناظرة ١ وعرفا طول باعه » وواسع اطلاعه في هذا الموضوع وقوة
القضايا الخمس التي دار عليها البحث في مناظرة أكره » بالتحقيق والتفصيل ؛ وقبل
الشيخ هذا الاقتراح ٠ وبدأ في تأليف كتاب ١ إظهار الحق » وهو مقيم في الآستانة في
شهر رجب ١780 ه. وأكمله في ذي الحجة من السنة نفسها ؛ يعني : في ظرف ستة
أشهر ؛ وقدمه إلى السلطان ؛ ولكنه ذكر في المقدمة أن هذا التأليف كان تحقيقاً لرغبة
شيخ العلماء السيد أحمد بن زيني دحلان . فكلمه في ذلك خبر الدين باشا » وقال : إنه
للواقع ؛ فاعتذر الشيخ ١ وقال : إن هذا العمل كان واجباً أن يكون خالصاً لوجه
الله » لا يشوبه غرض دنيوي » أو تزلف إلى أمير أو سلطان ؛ وقد سبق أن شيخ العلماء
بعض المواد في مكة » وله فضل في تقديمي إلى شريف مكة ؛ وهو الذي كان السبب في
وصولي إلى سدة الخلافة . لذلك اثرته بالذكر والاعتراف بالفضل .
وهكذا ظهر هذا الكتاب إلى حيز الوجود ويمتاز بعدة ميزات :
() الأولى أن المؤلف آثر خطة الهجوم على خطة الدفاع التي لا تزال أقوى وأكثر
قفص الاتهام » ويدافع عن نفسه وينفي التهمة ؛ وكان مما تورط فيه علماء
المسلمين قديماً أنهم وضعوا التوراة والإنجيل والقرآن على مستوى واحد ء
وبذلك نالت هذه الصحف القديمة ما لم تكن تستحقه من الثقة والتقدير » مع أن
أصحابها أنفسهم لا يدّعون أنها كلها كلام الله والوحي المنزل من السماء ؛ بنصه
وقصه ؛ كما هو الشأن مع القرآن الكريم والمؤمتين بها" .
وقد كان شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية » موفقاً كل التوفيق في إيثار
خطة الهجوم في كتابه ١ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" » مع أن قيمة
)١( راجع كتابنا ١ النبوة والأنبياء في ضوء القرآن » فصل «الصحف السماوية السابقة والقرآن في ميزان
العلم والتاريخ »
() الكتاب في أربعة أجزاء تقع في 1345 صفحة ١ طبع في مصر عام 1777ه