وإنّي أحمد الله تعالى» إذ هداني للمساهمة في خدمة تراثناء من خلال
تحقيق هذا الكتاب. وقد كان اختياري له يعود لأمرين:
بالأدلّة؛ وربط مسائل الفقه بأصولها. ولهذا تبرز قيمة هذا الكتاب وأهمية
الثاني: أنه لا يوجد لهذا الكتاب - والله أعلم - أكثر من مخطوه
وذلك بعد تتبع فهارس المخطوطات بالمكتبات العالمية؛ حسب ما توفر
لديي. مع الإشارة إلى أنّ إحدى النسختين منتسخة عن الأخرى؛ بحيث
مسؤولية كبرى٠
المبحث الأوّل: أوضاع العصر السياسية والعلمية.
المبحث الثاني : المدرسة المالكية ببغداد.
المبحث الثالك: شخصية القاضي عبدالوهاب البغدادي.
المبحث الرابع: دراسة الكتاب.
المبحث الأول
أوضاع العصر السياسية والعلمية
في عهد القاضي عبدالوهاب البغدادي
إذا أردنا أن نتعرّف على تكوين القاضي عبدالوهاب البغدادي ومؤهلاته
العلمية الغ جعلته يتصدّر علماء طبقته في المدرسة المالكية بالعراق!""» فلا
بذ من إلقاء نظرة ملخّصة على الحياة العلمية؛ خاصّة في مجال العلوم
بغداد موطن القاضي» وفي التصف الثاني من القرن الرابع وأوائل القرن
ينكر تأثيره إيجاباً وسلباً على الحياة الفكرية والدينية؛ وسواء كان هذا التأثير
مباشراً ومقصوداً؛ أو غير مباشر ولا مقصود. إلا أنه لا يمكننا التوقف عند
ذلك» لأنّ الغرض هو تقويم الجوانب العلمية في شخصية القاضي
(1) انظر: ترتيب المدارك: 220/7 وشجرة النور الزكية: ص 103
الأحداث السياسية المتلاحقة واضطراباتها التي امتلات بها كتب التاريخ؛
والتي كانت تقتضي تشريك القاضي فيها كما يحدث في خلع خليفة أو
لقي
الحالة السياسية:
في مدّة حياة القاضي عبدالوهاب تداول على منصب الخلافة العبّاسية
الطائع لله أبو بكر عبدالكريم العبّاسي!"" (317 - 393ه)؛ وقد تولى الخلافة
سنة 363ه» بعد ميلاد القاضي عبدالوهاب بسنة؛ واستمز فيها إلى أن خلج
(ت422ه)؛ واستمزز في الخلافة إحدى وأربعين سنة» إلى أن توفي في نفس
السنة التي توفي فيها القاضي عبدالوهاب.
وتعطينا المصادر التاريخية معلومات» عن شخصية القادر بالله؛ فهو
حسن الطريقة؛ كثير المعروف» حليم كريم» يحبٌ الخير وأهله؛ ويأمر يه
وينهى عن الشرّء ويبغض أهله؛ وكان من أهل الستر والديانة» وإدامة
عند كل أحد؛ مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد؛ وقد صنف كتاباً في
وسير أعلام النبلاء: 118/15؛ والبداية والنهاية: 308/11 - 309 و 332 و 276+
(2) ترجمته في ال نتظم: 164/7 والكامل: 147/7 و 354 وسير أعلام النبلاء: 138/15
والبداية والنهاية: 308/11 309» والنجوم الزاهرة: 159/4 و 275؛ وتاريخ الخلفاء:
الأصول على مذهب السئّة؛ ذكر فيه فضائل الصحابة وفضائل عمر بن
عبدالعزيز» وأنكر على المعتزلة أفكارهم» وقولهم بخلق القرآن. وكان هذا
الكتاب يقرأ في كل يوم جمعة في حلقات أصحاب الحديث بجامع
قبور الصالحين. وقد عذّه ابن الصلاح من فقهاء الشافعية؛ وذكره في
طبقاتهم .
يعرف به حال يستدل به على سيرته.
ومع ذلك» فلم يكن للخليفتين من المنصب إلا الاسم والدعاء على
يرتضونه؛ ويعزلونه أو يقتلوه متى شاؤواء وكان بأيديهم تجييش الجيوش
وقيادتهاء وجباية الأموال» والتصرّف في خزينة الدولة؛ وتسيير 0 الممالك
التابعة للخلافة» وليس للخليفة إلا التوقيع لإضفاء الشرعية عليها
البويهية على التوالي بيد:
عضد الدولة» وتولى الإمارة من سنة 367ه إلى سنة 372ه»؛ وقد كان
له اهتمام ب العلم والأدب» والتأليف» ووضع المصتفات» وكان قصره
محط كبار رجال العلم والأدب» وأقام البيمارستانات؛ بِيْد أنه على الرغم
ممًا اشتهر به من حسن السياسة؛ فقد عرف بالقسوة وسفك الدماء والغدر
يمن ألثه:
ثم تولى ابنه صمصام الدولة؛ الذي انتقض عليه أخوه شرف الدولة
سنة 376ه» وعزله؛ وتولى الإمارة عوضاً عنه؛ وحبسه في إحدى قلاع
وفي هذه الفترة كانت الإمارة
وبعد وفاة شرف الدولة تولّى الحكم أخوه بهاء الدولة؛ الذي قام
بخلع الخليفة الطائع» وتولية القادر بالله. وكان بهاء الدولة ظالماً غشوماً
من ملوكهم أظلم منه ولا أقبح سيرة.
بغداد بعد حروب دامية ومصالحات؛ ولما توفي مشرّف الدولة سنة 416ه
تولى الحكم بعده أخوه جلال الدولة. وقد عرف بالضعف وسوء التدبير؛
أمراء بني بويه؛ وتوفي سنة 435ه.
البويهيون من نشر التشيع وتشجيع الشيعة على إعلان معتقداتهم» ولعن
الخلفاء الراشدين» وإقامة المآتم في عاشوراء؛ ومنع النّاس من العمل فيه؛
وقد كان أهل السئّة يواجهونهم بمساعدة من الخليفة العبّاسي؛ إلا أنّها لم
ويجدر القول بأنّ هذه المواجهة كانت قد أخذت - أيضاً شكلاً فكرياً
بين علماء الطائفتين» من خلال حلقات الدرس والتصانيف المؤلفة. وسنأتي
على ذكر أبرز علماء الفرقتين في بغدادء في الفترة التي نتحدث عليهاء 0
ولا شك أن القاضي عبدالوهاب قد استفاد من هذا الصراع الفكري
ووقف على مدارك الآراء؛ وساهم بدوره؛ باعتبار كونه ستياآء في رد
المهدي المنتظرء وذلك أثناء ردّه على القائلين بأنْ البسملة آية من ١١
ونعود لنذكر أنّ الاضطراب السياسي» وهيمنة الطائفة البويهية الشيعية
عند
(1) انظر: الكامل :353/7 - 354» والبداية والنهاية: 293/11 380» ووفيات الأعيان:
1 وظهر الإسلام: 49/1 57» وتاريخ الإسلام؛ حسن إبراهيم حسن: 65/3 - 80
على بغداد؛ واستتثارها بموارد الدولة؛ وتمتيع الأمراء والوزراء والولاة»
وفقر مدقع؛ إل من اتصل منهم بالخلفاء والأمراء؛ ووقف ببابهم؛ وكان في
خدمتهم. وقد كانت حالة الفقر هذه شاملة حتى العلماء والأدباء؛ في
كثير من الأحيان”"". ويذكر الدّارسون والمؤرخون القاضي عبدالوهاب
البغدادي كمثال من العلماء والأدباء الذين عاشوا في اب وفقرء مما
العلماء ممّن ضاقت بهم المعيشة في بغداد؛ حتى كان الواحد منهم لا يجد
به؛ ولما نسب إليه بعض المؤرّخين من وجود مراسلة بينه وبين حاكمه.
فقد وصل القاضي عبدالوهاب مصرء وهي تحت سلطة الدولة
وحاكمها أبو الحسن علي بن الحاكم بأمر الله. الملقّب بالظّاهر لإعزاز
دين الله ( 395 427م).
وقد ولي الحكم بعد مقتل أبيه سنة 411ه إلى أن توفي("
هذا هو الخليفة الفاطمي الذي كان يحكم مصر أثناء قدوم القاضي
(1) راجع مصادر ترجمة القاضي عبدالوهاب التي سنذكرها عند الحديث عن مولده
(2) راجع في ذلك ظهر الإسلام: 116/1 وما بعد
(3 نفس المصدر.
والنجوم الزاهرة: 247/4 255» وتاريخ الخلفاء: ص 524
ابن الظاهر لإعزاز دين الله؛ ولي الخلافة بعد وفاة أبيه الظاهرا» أي بعد
وفاة القاضي بخمس سنوات» وهذا يعني أنّه لا توجد معاصرة بين الرجلين+؛
فتكون الرسالة إمّا غير صحيحة النسبة للقاضي» أو يكون راويها قد أخطأ في
وأمًا الوضع الديني والعلمي» فقد كان يسير في اتجاه نشر الدعوة
الفاطمية» بإقامة الدعاة لذلك»؛ واتخاذ المساجد الكبيرة للاتصال بالنّاس
وتلقينهم مبادىء الدعوة؛ وفي مقابل ذلك نجد السعي إلى طمس معالم
الإسلام الستي ومقاومة تدريس علومه.
فقد اتخذ الفاطميون ذكرى غدير خم عيداً يحتفلون به؛ ويوم عاشوراء
لإحياء ذكرى مقتل الحسين - عليه السلام - وإقامة المآتم لذلك. ومتعوا
صلاة التراويح من جميع مساجد مصرء وروي أنّهم قطعوا لسان من احتج
على ذلك» وضربوا رجلاً من أهل مصر وطيف به في المدينة؛ لأنهم
وجدوا عنده كتاب «الموطًا» لمالك بن أنس. ومنعوا فقهاء المذاهب من
التدريس» وفي سنة ست عشرة أمر الظاهر فأخرج من بمصر من الفقهاء
المالكية وغيرهم!"؛ وقد أدى هذا الحصار على أهل السئة إلى ضعف
دين الله وقف على هذا الأمر مما دعاه إلى تعديل السيرة» وتليين الموقف
() انظر الذخيرة في محاسن الجزيرة: 520/4.
(2) انظر المنتظم: 90/8؛ والكامل: 10/8 - 011 والبداية والنهاية: 39/12» وتاريخ
() انظر الخطط المقريزية: 355/1 وظهر الإسلام: 192/1 - 197
مع الرعية؛ وإبداء بعض التسامح مع علماء المذاهب السنية؛ كما سنرى
جددها أبوه الحاكم إلى خير وعدل في الرعية؛ وأحسن السيرة. وكان كثير
الحالة العلمية:
وبالرغم من الاضطراب السياسي ببغداد؛ والتناحر القاثم بين رجال
السياسة؛ للاستتثار بالحكم والسلطة؛ وخروج هؤلاء عن إطار القواعد التي
وضعتها الشريعة الإسلامية؛ وما سنّته من أحكام لتنظيم السلطة السياسية؛
وحسن سيرهاء وترتيب انتقالهاء وتحديد مهاتها ومسؤولياتهاء الأمر الذي
أدذى إلى تقسيم المسلمين» وإضعاف شأنهم؛ وإطماع العدو فيهم؛ وإصابة
الجانب السياسي في الأمة بالعقم والعجز عن الخروج من المأزق الذي
يدفع العلماء إلى النشاط والرحلة» وبذل الجهد في اكتساب المعرفة
ونشرهاء ومنها عدم تعرض السلطان السياسي لهؤلاء العلماء بتسليط القيود
السياسة من احترام العلماء وتقديرهم في الغالب.
وكانت هذه الحركة العلمية متوافرة في جميع المراكز العلمية في البلاد
الإسلامية؛ وخاصّة ببغداد. عاصمة الخلافة العبّاسية؛ التي كانت من أكبر
(1) انظر النجوم الزاهرة: 247/4 255» والكامل: 10/8 - 11» والبداية والنهاية: 39/12