ماقف النّاس أمام نمشكلة الفقر
وقف الناس من قديم الزمن أمام مشكلة الفقر مواقف شتى نوضحها فها
(أ) موقف المقدسين للفقر :
فمنهم طائفة من المتزهدين » والمترهينين ؛ ودعاة التقشف » والتصوف +
الدنيا ؛ موصولاً بالله » رحبا بالناس » بخلاف الغنى الذي يُطفي ويُلهي +
ومن هؤلاء من يقول : إن هذا العالم كله فساد ؛ والدنيا كلها شر وبلاء +
والخيركل الخير في التعجيل بفناء هذا العالم » وتقصير مد + أوعل الأقل
مدة إقامة الإنسان فيه ؛ ولذا يجب عل العقلاء التخفف من أسباب الحياة
وطيباتها ؛ وعدم المشاركة فيها إلا بقدر ما يمسك على الإنسان الحياة
جد في الأديان الوثنية » والأديان السماوية من يدعو هذه الدعوة »
ويمجد الفقر ويقدسه » لأنه وسيلة لتعذيب الجسد » وتعذيب الجسد وسيلة لترقية
والمانوية الفارسية » والرهبانية المسيحية » ونحوها من النحل الدخيلة على حياة
ينظر إلى الفقر هذه
الفقر مشكلة أصلاً .
المنزلة السابقة فها زعموا » يقول النص : « إذا
بشعار الصالحين » وإذا رأيت الغنى مقبلاً فقل
ومن العبث أن تُطالب هذا الصنف من الناس الذي
النظرة » أن يقدم لنا علاجاً شكلة الفقر » وهو لا يعتبر
(ب) موقف الجبريين :
ولكنها ترى أنه قضاء من السماء لا بدي معه الطب والدواء » ففقر الفقير ؛ وغنى
الغني بمشيئة الله تعالى وقدره ؛ ولو لجعل الناس كلهم أغنياء ؛ ومنح كلاً
منهم كنز قارون » ولكنه تعالى شاء أن فع بعضهم فوق بعض درجات ؛ يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر . ليبلوهم فيا آناهم » لاراد لقضائه ولا معقب لحكمه . .
إلى غير ذلك من الكلام الحق الذي يُراد به الباطل +
والعلاج الذي يُقدمه هؤلاء لمشكلة الفقر ينحصر في وصيتهم للفقراء أن
يرضوا بالقضاء » ويصبروا على البلاء ؛ ويقنعوا بالعطاء ؛ فالقناعة كنز لا يفنى +
وثروة لا تنفد . . والقناعة عندهم هي الرضا بالواقع على أي حال .
فتوجه إليهم نصيحة ما » إنما توجه نصيحتها إلى الفقراء » ونصيحتها : هذا قَسَمٌ
(ج) موقف دعاة الإحسان الفردي :
وهناك طائفة ثالثة تُشارك الطائفة الثانية في مجمل نظرتها إلى الفقر ء وترى
فيه شراً وبلاء كذلك ؛ وتعده مشكلة تتطلب الحل .
غير أن حلها لا يقتصر على وصية الفقراء بالرضا والقناعة كالطائفة الثانية +
بل تتقدم خطوة أخرى » فتوصي الأغنياء بالبذل والإحسان » والتصدق على
الفقراء وتعدهم بجميل المثوبة عند الله إذا استجابوا لهذه الدعوة
تنذرهم بسوء المصير » وعذاب السعير » إذا قسوا على الفقير والمسكين .
وهذا الحل لا يح مقادير معينة تج على الأغنياء للفقراء » ولا يفرض
عقوبة خاصة على من يمتنع عن هذا الواجب » ولا يُشرّعٌ من الأنظمة ما يضمن
تصدق وأحسن » وعذاب الآخرة لمن بخل واستغنى
وهذه هي النظرة التي اشتهرت بها الأديان السابقة على اللا : الإعهاد
على الإحسان الفردي » والصدقات التطوعية في علاج الفقر» بغض النظرعن
الأفكاز التقديسية والجبرية التقي كانت سائدة لدى الكثيرين من رجال الأديان
وسدنتها . وهي النظرة التي سادت أوروبا طوال القرون الوسطى ؛ فلم يكن
للفقراء فيها حتى معلوم » ولا نصيب مقدر محتوم ؛ إلا ما تجود به أنفس الخيرين من
عباد الله الصالحين .
(د) موقف الرأسيالية :
وهناك طائفة رابعة ترى أن الفقر شر من شرور الحياة ؛ ومشكلة من
مشكلاتها ؛ ولكن المسؤول عنه هو الفقير نفسه ؛ أو الحظ » أو القدرء أوما
شئت : لا الأمة » ولا الدولة » ولا الأغنياء ؛ فكل فرد مسؤول عن نفسه + حر في
تصرفه ؛ حر في ماله .
الل من الكوزما إن ماد بالعصبة أولي القوة » وذا نصحم قومد بقوضي
كان جوابه الصريع م لكا القرآن : كدت ارين عق جم ب لخي
)١( القصص :197 )١( القصص :8لا
وكذلك يرى أتباع النظرية القارونية أن ما جمعوه من المال إنما جمعوه بذكائهم
وحدهم ؛ وأن مالك المال أحق بماله من سواه » وله حرية التصرف فيه يما يرى
ويشاء . فإذا جاد على الفقير بشيء من ماله فهوصاحب الفضل . وحسب المجتمع
و عليه ؛ إلا من باب العطف والشفقة ؛ وابتغاء المحمدة في الدنيا ؛ أو
وهذه النظرة هي نظرة الرأسمالية الخاصة التي سادت أوروبا في مطالع
العصر الحديث . ولاشك أن الفقراء في مجتمع هذا شأنه » وتلك فلسفته » أضيع
من الأيتام في مأدبة اللثام . . لا حت لهم يطالبون به ؛ ولا سند لهم يعتمدون
البالغة » والأنانية المفرطة + التي لا ترحم صغيراً ؛ ولا تحنو عل أنثى ١ ولا تُشيق
على ضعيف ؛ ولا تنظر بعين العطف إلى فقير أومسكين ؛ مما أكره النساء والصبيان
الصغار » أن يذهبوا إلى المصائع يعملون بأدنى أجر ؛ حتى لا تسحقهم الرحى
الجبارة التي لا ترحم » ولا يدوسهم الأقوياء في مجتمع الغابة الجديد » الذي قست
قلوب أهله فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
ولكن هذه الرأسمالية المتجبرة قد اضطرت تحت وطأة الظروف والثورات
والحروب ؛ وتطور الأفكار والمذاهب الاشتراكية في العالم كله أن تعدل
موقفها ؛ فاعترفت للما زين والضعفاء والفقراء بشيء من الحق ؛ ظل ينمو شيئاً
ب ليم القانون حتى انتهى إلى ما يسمى الآن ب « التأمين
في مقابل تأمينه عند عجزه الدائم أو المؤقت » ويكون ما يُعطى لكل فرد بنسبة ما
دفع قلة وكثرة » ولهذا يكون حظ محدودي الدخل من التأمين أقل من غيرهم من
ذوي الدخل الكبير ؛ مع أنهم هم الأكثر حاجة .
دجام
أما في الضيان فالدولة نفسها هي التي تقوم بإعطاء العجزة والمحتاجين
بدفع شيء من ماهم .
(ه) موقف الإشتراكية الماركسية :
الطائفة الاخرى تقول : إن القضاء على الفقر وإنصاف الفقراء » لا يمكن
أنيتم إلا بالقضاء على طبقة الأغنياء . ومصادرة أموالهم » وحرمانهم من ثرواتهم
من أي وجه جاءت » وفي سبيل ذلك يجب تاليب الطبقات الأخرى في المجتمع
عليهم » وإثارة الحسد والبغضاء في صدورهم » وتأريث نيران الصراع بين هذه
الطبقات بعضها وبعض » حتى ينتصر في النهاية أكثرها عدداً ؛ وهي الطبقة
ولم يكتف دعاة هذا المذهب بتحطيم طبقة الأغنياء ؛ ومصادرة ما ملكوا +
فذهبوا إلى محاربة مبدأ « الملكية » الخاصة نفسه » وتحريم التملك على الناس أي
الإنتاج » .
هؤلاء هم دعاة الشيوعية والإشتراكية الثورية . . فهناك قدر متفق عليه بين
النزعات الإشتراكية كلها متطرفة ومعتدلة هو إنكار مبدا الملكية الفردية
ومحاربته » واعتباره مصدر كل شر » وإن اختلفت وسائلها في محاربته . فبعضها
يتخذ الطريق الدستوري الديمقراطي » وبعضها يتخذ طريق التغيير الثوري +
يقول جورج بورجان . وبيار رامبير في كتابها « هذه هي الاشتراكية »
« يقول البعض : إن الاشتراكية تعني حرية الفرد واحترامه ؛ فيجيب
آخرون: بل إنها تمليك وسائل الإنتاج للشعب» والسعي لتثبيت دكتاتورية الطبقة
العاملة 6 ,
+ فاشتراكية بابوف تختلف
أكبر الاختلاف عن إشتراكية برودون » واشتراكيتا سان سيمون وبرودون تتميزان
عن إشتراكية بلانكي وهذه كلها لا تت تتمشى مع أفكار لويس بلان وكايه وفورييه
ينتظمها ويقرب بينها ؛ وهو إلغاء الملكية الخاصة مصدر كل ظلم ؛ وكل جور +
وكل حيف في المجتمع 096
الشيوعية إلا فروق ضئيلة » كلاهيا يقوم على النظرة المادية للحياة والإنسان +
وكلا المذهبين يحتقر الدين » ويعزله عن المجتمع » ويدعو إلى دولة علمانية
بنية ؛ وكلاهما يقوم على العنف والصراع الدموي » وتدمير.الاوضاع القائمة
بالقوة والقسوة +
يقول الأستاذ محمد عبد الله عنان : « والشيوعية تقصد إلى نفس ما تقصد
إليه الإشتراكية » والاشتراكية الخاصة ترسي في النهاية إلى الشبوع » والإشتراكية
الشكلية » ولكن الشيوعية مذهب ثوري محض في جوهره ؛ وفي وسائله ؛ لا يعرف
فالشيوعية تعتمد على الثورة دون غيرها لتحقيق غاياتها ومثلها م919
+17 : «هذه هي الإشتراكية» ترجمة محمد عيثاني + ص )١(
+ 46 : المذاهب الاجهاعية الحديثة مص « )9(
ترق الإبسلام إلى لتر
(أ) الإسلام ينكر النظرة التقديسية للفقر :
ينكر الإسلام على الطائفة الأولى نظرتها إلى الفقر بصفة خاصة » وإلى الحياة
من المانوية الفارسية » والصوفية الهندية » والرهبانية النصرانية ؛ وما شابهها من
النحل المتطرفة + وليس في مدح الفقرآية واحدة من كتاب الله » ولا حديث واحد
يصح عن رسول الله صل الله عليه وسلم .
الأحاديث الواردة في مدح الزهد في الدنيا لا تعني مدح الفقر » فإن الزهد
يجعلها في قلبه .
والإسلام يجعل الغنى نعمة يمتن الله بها ؛ ويطالب بشكرها ؛ ويجعل الفقر
مشكلة بل مصيبة يستعاذ بالله منها . ويضع مختلف الوسائل لعلاجها ٠
وحسبنا أن تذكر هنا أن الله امتن على رسوله بالغنى فقال : ل( وَرَجَدَكَ
اج يل الْنَا طبع درن يريدم
)١( الضحى :4
(©) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياه :
رواه أحمد » والطبراني في الكبير ؛ والأوسط من حديث عمرو بن العاص يسند صحيح +
وقال تصال لرسوله في شأن أمرى بدر
اخير وبر
والآحاديث النبوية تعتبر الفقر آفة خطيرة يحُشى سوء أثرها على الشرد وعلى
المجتمع معاً ؛ على العقيدة الايجان » وعلى الخلسق والسلوك » وعلى الفكر
والثقافة » وعلى الأسرة والأمة جميعاً . كما سيأتي +
الفقر خطر عل العقيدا
فلا شك أن الفقر من أخطر الآفات على العقيدة الدينية وبخاصة الفقر
الماقع ؛ الذي بجانبه ثراء فاحش ؛ وبالأخص إذا كان الفقير هو الساعي
الكادح ؛ والمترف هو المتبطل القاعد .
الفقر حينئذ مدعاة للشك في حكمة التنظيم الإلفي للكون ؛ وللارتياب في
عدالة التوزيع الإلفي للرزق » ومثل هذا هوالدي جعل شاعراً قدا ا
فإذا لم يؤد الأمر إلى مثل هذا الضلال البعيد » أدى إلى نظرة جبرية قائمة
الذي جعل بعض السلف يقول : إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني
معك !! وقال ذو النون المصري الصوفي : أكفر الناس ذو فاقة لا صبرله » وقل في
الناس الصابر !
لاد
فلا عجب أن يُروى عن رسول الله صل الله عليه وسلم : « كاد الفقر أن
يكون كفراً :9
ولا عجب أن يستعيذ بالله من شر الفقر » مقترناً بالكفر في سياق واحد »
وذلك حيث يقول : « اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر »" ويقول :
؛ اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة ؛ وأعوذ بك من أن أظليم أو
أظلم ١
الفقر خطر على الأخلاق والسلوك :
والخلق الكريم ؛ ولهذا قالوا : صوت المعدة أقوى من صوت الضمير . وشر من
هذا أن يؤدي ذلك الحرمان إلى التشكك في القيم الأخلاقية نفسها ؛ وعدالة
مقاييسها كما أدى إلى التشكك في القيم الذي
وقد بين النبي صل الله عليه وسلم » شدة وطأة الفقرعلى صاحبه » وأثرو في
وفي بيان أثر الدين على المستدين . قال : « إن الرجل إذا غرم - استدان -
حدث فكذب ؛ ووعد فأخلف »© » وفي إشارة إلى علاقة الفقر والغنى بالفضائل
والرذائل ذكر : « حديث الرجل الذي تصدق بالليل على رجل فصادفت صدقته
(1) رواه أبو نعيم في « الحلية » عن نس +
قال العراقي : رواه البيهقي في « الشعب » ود الطبراني » في الأوسط . وسنده ضعيف .
(© رواه أب داوود والنساثي » وابن ماجه » اوالحاكم عن أبي هريرة ؛ ورمز له في الجامع الصغير
بعلامة الحسن . ود أظلم » : الأولى يفتح الألف ؛ والثانية بضمها +
رواه أبو نعيم في « الحلية » » والطبراني من حديث معاذ ؛ وسنده ضعيف
(ه) البخاري في باب : من استعاذ من الدين في كتاب الاستقراض والحجر والتفليس من صحيحه ٠