الباب الثاني : إسهامات المسلمين في جانب الأخلاق والقيم 9
المبحث الثالث
حرية الرأي
تعني حريّة الرأي حت الفرد في اختيار الرأي الذي يراه في أمر من الأمور العامة أو
الخاصّة؛ وإبداء هذا الرأي وإسماعه للآخرين» وهي حنٌّ الشخص في التعبير عن أفكاره
وحرية الرأي بهذا المعنى حنٌّ مكفولٌ للمسلم وثابتٌ له؛ لأن الشريعة الإسلامية
عليه؛ بل إن حُرَيّة الرأي واجب على المسلم لا يجوز أن يتخلٌ عنه؛ لأن الله تعالى أوجب
عليه النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرء ولا يمكن القيام بهذه الواجبات
الشرعية مالم يتمنّع المسلم بحقٌ إبداء الرأي وحريته فيه؛ فكانت حرية الرأي له وسيلة إلى
وقد أجاز الإسلام حرية الرأي في كافّة الأمور الدنيوية؛ مشل الأسور العامة
والاجتماعيّة؛ وفي مثال يُجَمّد ذلك»؛ ما ظهر من سعد بن معاذ وسعد بن عبادة -رضى الله
عنهما- حين استشارهما الرسول كي في مهادنة غطفان على ثلث ثمار المدينة حتى يخرجوا
من التحالف يوم غزوة الأَخْرّاب
عن أبي هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني إلى النبي كي فقال: يا محمد؛ شاطرنا تمر المدينة
عَامَكُمْ هَذَاحَتّى تنْظْرُوا في آَمْرِكُمْ بَعْتُ قالوا: يا رسول الله» أوحيٍّ من السماء فالتسليم لأمر
لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما ينالون منا تمرة إلا بشرى أو قرى'"
)١( رواه الطبراني: المعجم الكبير (9417) » وقال الهيشمي: ورجال البزار والطبراني فيهما محمد بن عمرو وحديشه حسن؛
وبقية رجاله ثقات انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ١٠١4/7 وانظر: ابن القيم: زاد المعاد 7/ 146,
٠١١ ماذا قسلم المسلمون للعالم؟
هذاء ومن النصوص التي وردت في النصيحة وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أمرهم الله بهذا الواجب» فهذا يعني مَشْحهم حقٌّ إبداء رأيهم فيا يرَوْنَه معروقًا أو منكرّاء
وفيا يأمرون به وينهون عنه» وكذلك واجب المشاورة على ولي الأمر يستلزم تع مَنْ
يُشَاورهم بحرية إبداء آرائهم
الجليل الحباب بن المنذر يُبْدِي رأيه الشخصي في موقف المسلمين في غزوة بَذْر على غير ما
الإفك» وكان منهم مَنْ أشار على النبي يه بتطليق زوجته السيدة عائشة رضي الله عنهاء
() مسلم عن تميم الداري: : كتاب الإيانء باب بيان أن الدين النصيحة (87)؛ وأبو داود (4444)» والنسائي (4147)»
وأحمد (11487)
() النووي: هو أبو زكريا يحيى بن شرف النووي» محيي الدين (1171-771ه/ 1177-1777م) : علامة بالفقه
انظر: البداية والنهاية 778/1 والزركلي: الأعلام 124/8
() النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 78/1
(0) الترمذي عن أي سعيد الخدري: كتاب الفعتن » ياب ما جاء ما أخبر النبي و8 أصحابه بما هو كائن إل يوم القيامة
(1) الترمذي عن أبي سعيد الخدري: كتاب الفتنء باب ما جاء أفضل الجهاد كلمة عدل عتد سلطان جائر (7178)» وأبو
الباب الثاني : إسهامات المسلمين في جانب الاخلاق والقيم ٠١١
هذاء وإذا كانت حُرَيّة الرأي والتعبير عنه وإبداؤه من الحقوق الْقَرَّرَة في الشريعة
الإسلامية» فلا يجوز إيذاء الشخص لقيامه بإبداء رأيه؛ لأن الشرع أَذْنَ له بذلك؛ وقد
رت امرأةٌ على عمر بن الخطاب وهو يخطب في المسجد في مسألة الهُورِ فلم يمنعهاء بل
اعترف بأن الصواب معهاء وقال قولته: «أصابت امرأة وأخطأ عمر»”"!
وما ينبغي للمسلم وهو يستعمل حلّه في إبداء رأيه أن يتوحى في ذلك الأمانة
الرأي إظهار الحقٌّ والصواب وإفادة السامع به؛ وليس الغرض منه التمويه وإخفاء
السمعة» أو التشويش عل المْحِقٌ أو إلباس الح بالباطل» أو بخس الناس حقوقهم؛ أو
تكبير سيئات ولاة الأمور» وتصغير حسناتهم؛ وتصغير شأنهم» والتشهير بهم؛ وإثارة
الناس عليهم؛ للوصول إلى مغنم
وعلى هذا تكون حرية الرأي كما أَكَرنْهَا الشريعة الإسلامية؛ وهي بذلك وسيلة مهمّة
من وسائل التقدّم الحضاري» كما أنها وسيلة للتعبير عن الذات
46 /8 انظر: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن )١(
77 ماذا قدم المسلمون للعالم؟
التأثير على الإنسان باستعمال آلات متحرّكة (ميكانيكيّة) هو الهدف الجديد لتقنية (الحيل
والصمامات الآليّة ذات التشغيل المتباطئ» والأنظمة التي تعمل عن بُعْدٍ بطريقة التحكم
الآلي» والأجهزة والأدوات العلميّة؛ والجسور والقناطر المائّة؛ والهندسات والزخارف
الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)» وذلك على أيدي نفر من العلماء
المسلمين الأعلام ويمكن التعزّف على مراحل تطوّر هذا العلم من خلال الأعمال القيّمة
وهم الإخوة الثلاثة: محمد (كبيرهمت 54 ١ه/ 81/7/م)؛ وَأحمد؛ والحسن (ت
١17ه/ 87/4/م)؛ أبناء موسى بن شاكر» وقد عاشوا في القرن الثالث الهجري (التاسع
بكتابهم القيم المعروف باسم (حيل بني موسى)؛ ويحكي عنه ابن خلّكان فيقول: «وهم في
الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة؛ ولقد وقفتٌ عليه فوجدته من أحسن
الكتب وأمتعها» "
وهذا الكتاب يحوي على ماثة تركيب ميكانيكي مع شروح تفصياليَّة ورسوم
توضيحيّة لطرائق التركيب والتشغيل» وكان استخدام بني موسى للصمامات التي تعمل
تلقائيًا وللأنظمة التي تعمل بعد زمن معين» وغير ذلك من مبادئ وأفكار التحكم الآلي؛
وهي من أهم الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عامٌ كما كان استخدامهم
<٠ أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي شيء من الماضي أم زاد من الأتي؟ ص74 )١(
161/86 ابن خلكان: وفيات الأعيان )7(
لا ماذااقسدم السلمون للعالم؟
المبحث الخامس
العرب قبل الإسلام
الجقبة التي سبقت الإسلام ب (الجاهلية) فأطلق على التاريخ العري قبل الإسلام
فإذا كان العرب قد امتازوا بين أمم العالم وشعوبه في ذلك العصر الجاهلي بأخلاق
ومواهب تفرَّدُوا بهاء كالفصاحة وقوّة البيان» وحبّ الحرية والأنفة» والفروسية والشجاعة؛
والحاسة في سبيل العقيدة» والصراحة في القول» وجودة الحفظ» وقوة الذاكرة» وحبٌ
المساواة» وقوة الإرادة» والوفاء والأمانة» فإنهم ايُلُوا في العصر الأخير -لبعْدٍ عهدهم من
النبزَّة والأنبياء وانحصارهم في شبه جزيرتهم» وشئّّة تمشكهم بدين الآباء وتقاليد أُمتهم-
بانحطاط ديني شديد» ووثنية سخيفة كَل بُوجَدٌ لها نظير في الأسم المعاصرة وأدواء خُلْييَّة
فمن ناحية الدين فقد انتشرت عبادة الأصنام في جزيرة العرب» حتى صار لكل قبيلة
7١7 /١ جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام )١(
(4) البخاري: كتاب المغازي» باب وقد بني حنيفة وحديث ثمامة بن أثال (41117) -
الباب الرابع: إسهامات المسلمين في علوم العياة 179
للصمامات المخروطيّة؛ ولأعمدة المرافق التي تعمل بصورة آليَّة: استخدامًا غير مسبوق»
وقد سبقوا به أوّل وصف لآليّة عمود المرافق الحديث في أوربا بخمسياثة عام”'"!
ومن أمثلة تركيبات بني موسى الميكانيكية: «عمل سراج إذا ويم في الريح
يظنٌ أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيقًا البتة؛ وعمل نافورة يفور منها الماء
ومن بين أجهزتهم الميكانيكيّة التي وصفها المؤرّخون بكثير من الإعجاب - آلة رصد
فلكي ضخمة تعمل في مرصدهم وتُذّار بقوَّة دفع مائيّة؛ وهي تين كل النجوم في السماء
في الحال وشجّلٌ'"
وقد استحدثوا كذلك آلات لخدمة الزراعة والفلاحة؛ مثل المعالف الخاصّة
لحيوانات ذات أحجام معيِّة تتمكّن أن تصيب مأكلها ومشربها فلا تنازعُها غيرها الطعام
والشراب» وعمل خزّانات للحيّامات» وآلات لتعيين كثافة السوائل» وآلات ثبت في
الحقول لكيلا تضيع كميات الماء هدرًاء ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية ريٍّ
المزروعات» وكان لكل هذه الأفكار الإبداعيّة أثر كبير في دفع مسيرة تقنية (الحيل النافعة)
أو الهندسة الميكانيكيّة كُدمَا؛ِ حيث تيّزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق
؟) بديع الزمان الجزري"":
تضمّنت ابتكارات المسلمين الأوائل في مجال تقنية الحيل النافعة تصمييات متنوّعة
3٠ص أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي )١(
(1) انظر: زيجريد هونكه: شمس العرب تسطع على الغرب ص7١١
(©) انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص 7٠١7٠
(4) بديع الزمان الجزري: هو عبد العزيز بن إسماعيل الرزاز -07٠( 7ه/ 76١6-1٠7١م) أحد أعظم المهندسين
والكيميائيين؛ اخترع العديد من الآلات النافعة؛ مثل: آلات رفع الماء؛ والساعة المائية؛ وغيرها انظر: الزركلي: الأعلام
رفره ماذا ا قدم المسلمون للعالم؟
المؤلففات الذاتية الرائدة في هذا المجال كتاب: (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة
الحيل) لبديع الزمان أبي العزبن إسماعيل بن يبي :
الرزّاز ال جزري (ت 184١م) وقد ترجم 5
(1م)؛ ووصفه مؤرّخ العلم المعاصر
جورج سارتون بأنه أكثر الكتب من نوعه
النوع من الإنجازات التقنية للمسلمين""
ويضمٌ كتاب الجزري عدّة أقسام ٠
يعالج موضوع آلات رفع الماء أمَّا ساعات كلا
الجزري فكانت تستعمل دُمَى ذاتيَّة الحركة يز"
لتشير إلى مرور الوقت مثل: طيور تقذف - صورة (14) الساعة لمائية للجزري '
أو أبواب تُفتح ليخرج منها أشخاصء أو دوائر بروج تدورء أو موسيقيين يقرعون
الطبول وينفخون الأبواق وفي معظم هذه الساعات كان المحرّك الأوّل ينقل الطاقة إلى
الدّمَى بواسطة أنظمة بكرات بالغة الدقا"
وأمَّا قِثْمْ آلات رفع الماء» ففيه وصف لتصميم مضخة يعتبرها المؤرّخون الجدد
ذراع يجمل مكبسًا أسطوانيًء فإذا كانت إحدى الماسورتين في حالة ضغط أو كبس فإن
الثانية تكون في حالة سحب أو (شفط)» ولتأمين هذه الحركة المتقابلة المتضادّة يُوجَد
7١ض المصدر السابق )١(
875/١ الصنوج: صفائح صغيرة مستديرة تثبت في أطراف الدف المعجم الوسبط» مادة صنج )١(
١١46ص دونالد هيل: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية )7(
الباب الرابع: إسهامات المسلمين في علوم الحياة ١١
تروس متّصلة بعمود الحركة المركزي؛ وهناك ثلاثة صمامات على كل مضخة تسمح بحركة
المياه في اتجاه واحد من أسفل إلى أعلى؛ ولا تسمح بعودتها في الاتجاه العكسي"'"
ومضحَّة الجزري هذه عبارة عن آلة من المعدن تُدَارٌ بقوَّة الريح» أو بواسطة حيوان
يدور بحركة دائريّة؛ وكان الهدف منها أن ترفع المياه من الآبار العميقة إلى سطح الأرض؛
العلياء مثل جبل المقطم في مصر» وقد ذكرت المراجع أن هذه التقنية تُكُن من ضح الماء إلى
أن يبلغ حوالي عَكَرَة أمتار» وتصبُ المضخة فوق سطح الماء مباشرة» بحيث يكون عمود
)٠ تقي الدين الدمشقي:
َُدٌُ قي الدين بن معروف الراصد الدمشقي -الذي عاش في القرن العاشر اهجري
(السادس عشر الميلادي)- فخ التقنية الإسلامية؛ وهو صاحب كتاب (الطرق السنيّة في
الآلات الروحانية)» وفيه وَصّفَ العديد من الأجهزة الميكانيكيَّة مشل: الساعات المائيّة
ويحظى كتاب تقي الدين الدمشقي بأهميَّة خاصَّة؛ لأنه يكمل أهمّ مرحلة في تقنية
السابقين» وقبل أن يَرِدَ وصفُ ما يياثلها في المراجع الغربية المعروفة في فترة عصر النهضة
ويتميِّرٌ كتاب تقي الدين بأنه اقترب كثيرًا في عرضه وتوصيفه للآلات من مفهوم الرسم
الهندسي الحديث ذي المساقط» لكنه يوضّح كل شيء يتعلّق بالآلة في رسم واحد؛ بجمع
بين مفهوم المساقط ومفهوم الرسم (المنظور المجسم)» ومن هنا فإنه يحتاج إلى دراسة
عميقة من أهل الاختصاص لقراءة النصوص وفهم الرسوم حتى يكون التخيِّل صحيحًا
)١( المصدر السابق ص8١
() أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص؟”
() المصدر السابق ص77
7 ماذا قسدم المسلمون للعالم؟
تعمل الأسطوانات على التوالي» ويستمٌ تدفق الماء بصورة منتظمة ةراس اق الجر
بالأيقلٌ عدد الأسطوانات عن ثلاث؛ ليتناسب صجود الماء من ضير دفقء وهذا المقهنوم
المتقدّم للتتابع و ص الدفق أو التقطّم؛ إضافة إلى مفهوم التوازن الديناميكي الحديث
وفي تصميم تقي الدين لمضحّته المكبسيّة ذات الأسطوانات الست نجده يضع ثقلاً
من الرصاص على رأس قضيب كل مكبس يزيد وزنه عن وزن عمود الماء الموجود داخل
بتصميم مضحّة وضع فيها أقراصًا من الرصاص فوق المكبس حتى يعوة المكبس إلى
الهبوط ويدفع الماء بتأثير الرصاص إلى العلوٌ المطلوب"""
وهكذا يبطل زعم مؤرّخي التقنية الغربيين أن التقنية الإسلامّة في مجالات الهندسة
اليكانيكيّة كان لها فقط طابع التسلية واللعب وتزجية أوقات الفراغ» ويشهد على بطلان زعم
هؤلاء المؤرّخين غير المنصفين تلك الدواليب المائيّة التي كانت تُستخدم لتدوير المطاحن
ومعاصر القصب وعصر الحبوب والبذور» وفي رفع المياه لأغراض الريّ وقد استُخْدِمَتُ
طاقة الماء والهواء على نطاق واسع» وكانت العَلاقة وثيقة بين العلوم النظريّة وتطبيقاتها التقنية
في مجالات الحياة العمليّة التي شملت تصميم المدن ومنشآت الريٍّ والسدود والأبنية والآلات
وغيرهاء وكان الهندسون والتقنيون في عصر الحضارة الإسلامي يعون المنهج العلمي في كل
ينوون تنفيذه» وقد أعاد الفئيّون المحدَتُون بناء العديد من التركيبات والآلات تبعًا للشروح
)١( المصدر السابق
(3) أحمد فؤاد باشاء التراث العلمي الإسلامي ص4<