استشراقية كانت أو استغرابية ولكن بشرط أن يستغل الاستغلال الأمثل. وأن
تُعمل فيه عقولنا لإبراز عظمة هذا الإنجاز الحضاري كما يُعملون هم
عقولهم في بيان مواضع الخلل وتلمّس مواطن العثرات للوصول إلى
إن إعمال العقل - في هذا المجال - يعني استخدام منهج علمي دقيق»
والغوص عبره - في أعماق النصوص المبثوثة هنا وهناك ليتم فحصها بدقة
ومن ثم استنتاج ما يمكن استنتاجه, ولنبتعد قدر الإمكان عن السطحية ورضٌ
الكلام لمجرد التأليف.
إن كتاب «غولتسيهر» المسمى «دراسات إسلامية» والذي كان يعتبر
في وقت من الأوقات لا مقدسأا» في المراجع الاستشراقية وبحثاً علمياً
نعم؛ لقد مارس هذا المستشرق التحريف في النصوص للطعن في شخصية
الإمام الزهري ودينه؛ فنسب إليه أنه قال: إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة
ومثل هذه المسألة تعتمد على اليقظة والدقة وعدم الركون إلى تصديق
كل كاتب؛ وقد تنبه علماؤنا الأوائل إلى مخاطر التصحيف والتحريف سواء
كان عن غفلة أو عن عمد. وذلك نتيجة تكاثر الرواة وتشابه أسمائهم
والمختلف والمتفق والمفترق والمتشابه". وكان ذلك دليلا آخر على مواكبة
والكتاب الذي أقوم اليوم بتحقيقه يدخل ضمن هذا الإطار؛ وهو
)١( دراسات في الحديث النبوي : (1/ ي)
() السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: (371)
(©) بحوث في تاريخ السئة: (17)
التصنيف في فن المؤتلف والمختلف لرفع الالتباس ودفع التصحيف؛
وسترى من خلال نصوص الكتاب تلك الدقة في الملاحظة والسعة في
الاطلاع وكيف أن عالمنا ابن ناصر الدين لم يمنعه إجلاله للذهبي من أن
يتعقبه في كثير من مواضع كتابه «المشتبه» وأن يعيب عليه في بعض المواضع
عدم التزامه الدقة في نقل كلام العلماء ونسبته إليهم . وتأتي ترجمة المؤلف
لتضفي قيمة أخرى على الكتاب. إذ لم يسبق أن أفرد أحد من المعاصرين
ابن ناصر الدين بترجمة مفصلة
ولما كان من لوازم التخصص في الكتاب والسنة اختيار موضوع أو
مخطوط يخدم هذا التخصص وبثريه. فقد وقع اختياري على هذا الكتاب»
بعد أن أرشدت إليه من قبل أحد الأخوة المشتغلين بهذا الفن. ونصحت
بالبدء فيه من قبل شيخنا الأستاذ سيد صقر.
مكرهاء ذلك أننا لم نباشر في دراساتنا الحديثية ميدان علم الرجال بكل
المجال» ولكنني بعد ,بعون من الله ثم بتوجيه من بعض الأخوة
الأكارم - وجدت نفسي مندفعاً والرغبة تحدوني في المضي في البحث قدماً.
ولا يفوتني في ختام هذه التقدمة الموجزة - أن أتقدم بالشكر الجزيل
إلى فضيلة الأستاذ الدكتور محمد شوقي خضر - مشرفي على هذه الرسالة
وإلى الدكتور عبد الرحمن العثيمين مدير مركز البحث العلمي؛
والأستاذ موفق عبد الله لما قدماه لي من توجيهات وإرشادات وتيسيرات.
كانت الفترة التي عاش فيها ابن ناصر الدين الدمشقي ضمن ما اصطلح
من العالم الإسلامي قرابة ثلاثة قرون» فقد امتدت فترتهم من سنة 648 إلى
سنة 9477
وقد قسّم المؤرخون المماليك إلى بحرية ومدة حكمهم من سنة 548
)١( عصر سلاطين المماليك: /١( ؟8)
() المرجع السابق: /١( 17)
(©) النقد الأدبي في العصر المملوكي: (0؟)
وتميزت الفترتان بكثرة الحكام المتعاقبين على السلطة" بسبب
ليس باليسير.
وعلى كل حال فقد كانوا يظهرون بمظهر الدين. ويقيمون الحدود.
ويقربون العلماء"»» وينقل لنا ابن العماد في الشذرات حادثة رجل دمشقي
«اعترف بالزنا وهو محصن» فأقعد في ,رجم حتى مات!*". كما ينقل
لنا خبر العالم الأزهري الذي سمع بتجديد التصارى لكنيسة لهم؛ فذهب مع
جماعة فهدموها.
كما ينقل المؤرخون تستر المرأة المسلمة؛ وفرض الحكام للحجاب
عند الاستهانة به.
وشغلت الدولة الشانية من المماليك بمحاربة التتار والفرنجة
والسلاجقة". الأمر الذي قد يفسر كثرة المكوس والضرائب والتي اتخذ منها
بعض المؤرخين ذريعة من بين الذرائع للحكم على هذه الفترة بالفساد
والظلم والإعنات.
-77 /١( أنظر: عصر سلاطين المماليك حيث عدّد المتعاقبين على الحكم في الفترتين: )١(
-)45( عالم الإسلام: )١(
© منهج الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري: )٠١( رسالة دكتوراه
(4) عصر سلاطين المماليك: (7/ 30) والأدب في العصر المملوكي: (1/ 19)
() عصر سلاطين المماليك: /١( 41)
ولم يقف الأمر عند مجرد الدفاع عن البلاد وحسب» ففي سنة 874
تمكن السلطان الأشرف برسباي من إدخال
المصرية"» وعرف عن سلاطين المماليك تشابههم في النشأة العسكرية
والصبر على الكفاح".
ولا أستطيع في هذه المقدمة الصغيرة أن أدقق في أحوال هذه الفترة
الطويلة والحكم لها أو عليهاء إذ يحتاج الأمر إلى وقت طويل لدراسة
النصوص في مظانها ضمن الإطار الكلي الصحيح» + كما لا ينبغي أن أركن في
منطلقات شتى؛ ويصدر عن نوازع مختلفة.
قبرص تحت السلطنة
فترى _ مثل- أحدهم يقول نقلاً عن ابن تغرى بردى: «وكان الملك
المنصور محمد يدخل بين نساء الأمراء ويمازحهن» وأنه كان يعمل مكارياً
للجواري ويركبهن. . . وأنه يفسق في حريم الناس».
«وسبب خلعه والذي أشيع عنه بلغ الأتابك يُلْعَا أنه كان يدخل بين
نساء الأمراء. . . فاتفق الأمراء عند ذلك على خلعه فخلعوه!©.
فالمعنى الذي تفهمه من خلال سياق المؤرخ المعاصر هو ظاهرة
الفسق والفجور المتفشية لدى بعض السلاطين»؛ بينما نفهم من كلام ابن
تغرى بردى أن ذلك يعد ظاهرة غير مرضي عنها بين الأمراء أنفسهم» بل
واستحق صاحبها الخلع من منصيه.
)41 /1( عصر سلاطين المماليك: )١(
(8) النجوم الزاهرة: (11/ 0
وهناك نصوص أخرى تدمغه قد يلجأ المؤرخ معها أن يختار الذي يوافق
ففي حوادث سنة 1/9/7 وهي سنة مولد ابن ناصر الدين - ينقل ابن
العماد أن الناس أكلوا في هذه السنة الميتة والقطط والكلاب «وباع كثير من
بعضهم ولده. ثم أعقب ذلك الوباء حتى فني خلى كثير. حتى كان يدفن
العشرة والعشرون في القبر الواحد بغير غسل ولا صلاة» ويقال إنّه دام بتلك
البلاد الشامية ثلاث سنين» لكن أشده كان في الأولى")».
ويذكر البعض أن «قوة الأقباط في الدواوين كانت ماثلة لا يستهان بهاء
فقد تولى كثير منهم الوزارة. . . وانّهم الناصر بمحاباته للأقباط وتقرييهم»
لأنهم يجمعون له المال ويحفظونه على حساب الشعب وأقواته»". .
حادثة الأزهري الذي هدم كنيسة للنصارى بسبب تجديدهم لها قال ابن
العماد مكمال كلامه: د. . . فاستعان النصارى بأهل الديوان من القبط فسعوا
عند السلطان بأن هذا الشيخ ات على المملكة؛ وفعل ما أراد بيده بغير
حكم حاكم؛ فاستدعي المذكور فاهين» فاشتد ألم المسلمين لذلك؛ الم
توصل النصارى ببعض قضاة السوء إلى أن أذن لهم في إعادة ما تهدم؛ فجرٌ
ذلك إلى أن يشيدوا ما شاؤوا بعلّة إعادة المتهدم الأول
ونجد في المقابل بعض النصوص التي تمثل صوراً جيدة في ذلك
العصرء ففي 8 استدعى الأمير الكبير الشيخ سراج الدين عمر
البلقيني والقضاة وأعيان الفقهاء من كل مذهب؛ فحضر الجميع عند الأمير
في العصر المملوكي: (1/ 47)
الكبير بالاسطبل» وقد حضر الأمراء والخاصكية بسبب الأموال التي خلفها
السلطان الملك الظاهر برقوق» هل تقسم في ورثته؟ أو يكون ذلك في بيت
مال المسلمين؟ فوقع كلام كثير آخره أن تفرق في ورثته من السدسء وما
بقي فلبيت المال0"9.
وخلاصة القول أن أي فترة من فترات التاريخ الإسلامي تحتاج إلى
دراسة شاملة متأنية نزيهة. بعيدة عن ابتسار النلصوص وتجزثة المادة
على أن الحدث الكبير الذي شهده ذلك العصر كان دخول تيمورلنك
حلب ودمشق سنة 807 فقد عَاتَ في الشام فساداً وفي كل بلد دخلها -
فقتل الأبرياء وهتك الأعراض ودمر العمرانء وعاش الناس أياماً في بلاء
عظيم بين محاربة له ومهادنة إلى أن غادر الشام وتركها خراباً في نفس
ولم أجد من ذكر علاقة لابن ناصر الدين الدمشقي بأحداث عصره؛
فقد حكى ابن عربشاه في عجائب المقدور المحن التي مرت بأهل الشام أيام
تيمورلنك. وذكر العلماء الذين اجتمعوا يطلبون الأمان. ومنهم العلامة ابن
178 /17( النجوم الزاهرة؛ )١(
)١( يقول صاحب كتاب الأدب في العصر المملوكي في معرض تاريخه لفترة المماليك -: دوإذا
عرضنا لموقف المرأة في المجتمع المملوكي» فأول ما نلاحظه أنها لم تكن في الموضع
اللائق. فالحجاب مفروض على المرأة الحرة» وأما الجارية فتجول في الأسواق سافرة؛ لكن
يفرض عليها قيود في اللباس والسلوك». (0/1/1
©) الشذرات : (1/ 17 -37) ومنتخبات التواريخ لدمشق: (144 - 144): وقد تكلم كثير من
خلدون. وإبراهيم بن مفلح الحنبلي» كما ذكر من وقع في أسره من
العلماء أو من أخذه إلى سمرقند».
ويسجل ابن العماد موتفاً لابن الجزري فيقول: «.. ثم كان فيمن
حضر الوقعة مع ابن عثمان واللنكية. فلما أسر ابن عثمان اتصل ابن الجزري
بالك فعظمه وفوض له قضاء شيران فباشره مدة طويلة. . .62 وكان ابن
ويذكر ابن خطيب الناصرية أنه كان مع الوفد من العلماء الذين طلبهم
تيمورلنك بعد أن دخل حلب».
: فلسنا ندري موقف عالمنا ابن ناصر الدين. هل هرب مع الهاربين» أو
أسبر مع المأسورين» أو تفاوض مع المتفاوضين؟ علم ذلك عند ربي .
الحالة الثقافية والعلمية:
شهد العصر المملوكي نشاطاً علمياً رائعاً. وكان دور العلماء يتمثل
بتشجيع من الأمراء - في تعويض الخسارة التي لحقت بالعالم الإسلامي من
اللغة العربية والإبقاء عليها بعد تعرضها لهزات عنيفة.
)١( عجائب المقدور بنوادر تيمور: (48 ١ ب).
(1) نفس المصدر: ٠١4( أ- ب).
() البدر الطالع: (1/ 168)
.)91( النقد الأدبي في العصر المملوكي: )١(
() المرجع السابق: (77) وعصر سلاطين المماليك: (/ 76 وينظر: الأدب في العصر
المملوكي في الحياة الثقافية: )٠١6 /١( وما بعدهاء ومتخبات التواريخ لدمشق (101).
بالبحث والدراسة يعترف بمدى قوتها واتساعهاء وحتى الذين ينقمون على
دولة المماليك ككيان سياسي أو الذين يحاولون سبر نواياهم وتجريمها
أن يكون أوفر من الشام بكثير» وذلك باعتبارها عاصمة للخلافة.
ويذكر السيوطي أن العلم تناقص بدمشق في المئة الرابعة والخامسة؛
وكثر بعد ذلك ولاسيما في دولة نور الدين وأيام محدثها ابن عساكر
ويرى محمد كرد علي أن «طلائع الانحطاط بدأت في القرن التاسع»؛
من فروع العلم؛ وكثر فيه الجماعون والمختصرون والشارحون من المؤلفين
والسبب أن حكومة المماليك البرجية والبحرية كانت تشتد في إرهاق
المتفلسفة والمتفقهة على غير الأصول المتعارفة. . . ثم زادت الحال اشتداداً
في أواثئل القرن بانسيال جيوش تيمورلنك على القطر وقتله لبعض العلماء»
أما السب الثاني فمعقول جداً في كونه أضعف شوكة العلم واهله؛
وأما السبب الأول فهو مخالفة لكثير من الباحثين الذين يؤكدون ازدهار
الجانب العلمي في ظل المماليك؛ والمعروف عنهم أنهم وقفوا ضد الفكر
الشيعي فحسب والذي نما وترعرع في عهد الفاطميين. ثم «إن العلوم
يجد علماء هذا العصر أمامهم سوى أن يتجهوا وجهة بها بيسر العلم وتضبط
)44 48/4 /1( خطط الشام: )١(
.)440 /4 /( خطط الشام: )1(