النصوص القرآنية؛ التي جاءت عامة مرنة كضرب من الإعجاز في القرآن ليساير
اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ والبيئات والأجيال المختلفة؛ وهذا النوع أشبه باختلاف
الفقهاء في المسائل الفقهية الفرعية» التى لم يورث الاختلاف فيها تفريقًا في الدين»
ولم تتعارض مع أصل من أصوله الصريحة .
أما ما كان من الاختلاف الذي يتعارض مع النصورص القرآنية
الأصول الثابتة التي جاء القرآن لإرساء بنائها؛ وترسيخ أصولها ف
قد ندد القرآن به في أكثر من آية؛ كما في قوله تعالى : «ِذَِكَ بن
أما المختلفون في مسائل الاجتهاد من الفروع الفقهية؛ من الحلال والحرام؛
فالناس فيهم على قولين:
أحدهما : قول من يرى تصويب المجتهدين كلهم في فروع الفقه؛ وفرق الفقه
كلها عندهم مصيبون.
الباقين من غير تضليل منه للمخطئ فيل" .
ومن هذا النوع من الاختلاف ما وقع للصحابة -رضوان الله عليهم- بعد وفاة
الرسول يله فقد وقع لهم عدة اختلافات لم يترتب على أحدها تجريح أحدهم ولا
تفسيقه فضلًا عن الطعن في ديئه؛ وسرعان ما كان يرجع المختلف منهم إلى الحق
عندما تتضح دلالته؛ من غير تعنيف ولا إنكار عليه .
وكان أول خلاف وقع لهم حين اشتد الوجع برسول الله ِل فقد أخرج البخاري
ن الفرق للبغدادي ص3 -
بسنده عن ابن عباس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس» اشتد برسول الله َيه
جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم»؛ وسكت عن الثالثة؛ أو قال:
ولما أذيع نعي النبي كله هال الخبر بعض أصحابه حتى غيب عقولهم»
فاختلفوا: أمات الرسول َيه أم لم يمت؟؛ حتى قال عمر بن الخطاب- وهو
الشديد القوي- من قال إن الرسول كَل قد مات ضربته بالسيف» لولا أن تدارك
الموقف أبو بكر ذه؛ فوقف وأعلن: أن الرسول كَل قد لحق
أَلِْدُوةَ» [الانياء :4 فيرضى عمر بقضا + الله ويقول : والله لكاني لم أسمع هذه الآية
واختلف الصحابة في الموضع الذي يدفن فيه الرسول يل: هل يذهيون به إلى
المقدس» قبلة الأنبياء» ومقام الخليل إبراهيم 8#؟ أو يدفن في البقيع مع أولاده
هتافوو 8 انظر: صحيح البخاري ج7 ص١4 باب مرض النبي )١(
انظر : صحيح البخاري ج ص48 باب مرض النبي و8 ووفاته )١(
انظر: كتاب : دراسات في عصر الخلفاء الراشدين ج١ ص4 د . عبد الفتاح شحاته. )©(
فل للأنصار : «بل المحيا محياكم والممات مماتكم:!"؟
فحسم أبو بكر هذا الخلاف بقوله: سمعت النبي َل يقول: «إن الأنبياء يدفنون
حيث يقبضون»”" فتجتمع الكلمة على دفن جثمانه الطاهر في حجرة عائشة بجوار
واختلف الصحابة كذلك فيمن يتولى أمر المسلمين بعد النبي 8: أهو رجل من
السابقين الأولين من المهاجرين؟ أم هو من الأنصار الذين آووا ونصروا؟
أم هو رجل من أهل بيت النبي الأقربين؟ وقد اجتمع الأنصار في سقيفة بني
ساعدة يريدون سعد بن عبادة زعيم الخزرج؛ واجتمع المهاجرون على أبي بكر
أما الخلاف بين المهاجرين والأنصار فقد حسمه أبو بكر الصديق بذهابه مع
عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح إلى سقيفة بني ساعدة حيث مجتمع
الأنصارء وخطبته فيهم التي قال فيها لسعد بن عبادة بعد أن أثثى على الأنصار فلم
يا سعد أن رسول اللَّه 88 قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر» فير الناس تبع
فانتهى الخلاف وتمت البيعة لأبي بكر شيخ المهاجرين؛ وثاني اثنين إذا هما في
علي كرم الله وجهه؛ وانحاز له عمه العباس والزبير بن العوام؛ مجاملة لزوجته
السيدة فاطمة بؤا؛ لأمر كانت تعتبه على أبي بكر ثم لما توفيت بعد ستة أشهر من
موت أبيها ذهب علي فبايع أبا بكرء وتم الإجماع على خلافة الصديق ٠485
)١( انظر: صحيح مسلم ج7 ص41 باب فتح مكة
() انظر : سنن الترمذي بنحوه ج؟ ص47 1 أبواب الجنائز
(©) انظر: كتاب الطبقات الكبرى لابن سعدرج؟ ص4 ١ ذكر بيعة أبي بكر
واختلف الصحابة كذلك في ميراث النبي قله حيث جاءت فاطمة والعباس ا
وقيل : إن أبا بكر #ه ذهب إليها لإقناعها واسترضائها فرضيت بعد أن تعهد لها
وقد اختلف الصحابة كذلك في إنفاذ بعث أسامة بن زيد؛ حيث جهز الرسول
الجيش» فقال الرسول كَ8: «أنفذوا بعث أسامة».
أو يرقبون ما يكون من العرب وقد رمتهم عن قوس واحدة؟. . .
فتدارك أبو بكر الموقف وأصر على إنفاذ بعث أسامة كما أوصى رسول الله كي
ثقة من الصديق أن الخير والبركة في اتباع أمر رسول الله يي وقد كان. . . (فإن
العرب قد قالت: لولا أن بهؤلاء قوة وثقة من أنفسهم ما جرءوا على حرب الشام»
ولقد كانت سنة حسنة من أبي بكر #ه حتى لا يتجاسر أحد على مخالفة أمر
)١( فدك بالتحريك قرية بينها وبين المدينة يومان أفاءها الله على رسوله صلمًا معجم البلدان
اج؛ص8؟؟ لياقوت
)١( أخرجه البخاري في
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد ج؟ ص ١377 سرية أسامة بن زيد.
رسول الله ل ونقض كلامه؛!".
وقد اختلف الصحابة كذلك في حرب مانعي الزكاة والمرتدين عن الإسلام.
قتالهم فتضيع هيبتهم ولقد كان عمر بن الخطاب ممن يروا عدم الحرب؛ وعارض
أب بكر في ذلك ولكن الله حسم الخلاف بموقف الصديق يه حيث قال" : والله
والمخالفون لأمر القتال؛ ويكون النصر المبين» وتعود الجزيرة العربية بأسرها إلى
واختلفوا في مسائل أخرى كثيرة؛ مثل جمع القرآن؛ ثم اتفقوا على وجوب
جمعه؛ بعد أن استحر القتل بالقراء في موقعة اليمامة وغيرها؛ ومثل اختلافهم في
ميراث الجد والأخوة والأخوات؛ وفي العول والكلالة؛ وغير ذلك من مسائل
في تضليل بعض ولا تفسيقه؛ فضلًا عن خروجه من الملة؛ لأنها مسائل لا تمس
العقيدة من قريب ولا بعيد؛ إذ هي مسائل فرعية لم ترد فيها نصوص صريحة في
كتاب الله تعالى» أو أن النصوص في شأنها محتملة لوجوه لا يتعارض أخذها مع
أنهم عندما يذكر لهم النص عن الرسول َي أو يستبين لهم وجه الدلالة تجدهم
أسرع ما يكونون إلى الوثام والاتفاق» على وجه لا نظير له في أمة من الأمم؛
ومرجع ذلك إلى أمرين أساسيين هما :
الأول: أن الإسلام كان لا يزال غضًا في قلوبهم؛ لم تعكر صفوه كدورة
الفلسفات الأجنبية؛ التى تورث الخصومات والمجادلات لشهوة الانتصار للرأي
+ انظر: دراسات في عصر الخلفاء الراشدين ج١ ص؟؟ )١(
انظر: صحيح البخاري ج١ ص14 كتاب الزكاة: باب وجوب الزكاة )١(
هدفهم ؛ وكان شعارهم : «الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل».
الثاني : أنهم كانوا يعلمون أن هذه الخلافات إنما هي خلافات في أمور فرعية
للرأي فيها مجالء حيث لا نص صريح يرفع الخلاف ويدفعه؛ فإذا ذكر نص عن
رسول الله 8 فلا مجال للرأي والاجتهاد» بل كان الإجماع دون معارضة» مراعين
في ذلك احترام النص ووحدة الأمة واجتماع كلمتها .
إقامة مراسم الدين» وإدامة مناهج الشرع القويم؛ لا حزبية ولا عصبية.
وهكذا انقضى عصر الخليفتين» وصدر من خلافة ذي النورين عثمان بن عفان
#ه؛ حيث كانت الأمة بأسرها على عقيدة واحدة؛ وطريق واحد؛ لم يختلف
(حدهم مع الآخر إلا في فهم أوت
فإن لم يكن عنده ما يدفعه من سنة رسول الله 8؛ أو فهم في كتاب أوسنة رجع إلى
قول أخيه وتقبله أحسن القبول» إما اقتناعًا بما استدل به أخوه؛ وإما إبقاء على وحدة
الأمة واستمساكًا بالإيلاف الذي امتن الله تعالى به عليهم؛ مادام هذا الرأي لم
يخالف نضًا من كتاب أو سنة صريحة؛ وهم بذلك يضربون أبرع المثل لفناء الفرد في
بناء الجماعة الصالحة.
سبيلًا يسلكونه إلى تفريق كلمة هذه الأمة+ حقّدا وحسدًا لهذا الدين الحنيف خاصة
وقتلوه مظلوما + طق فكان أول ثلم في الإسلام!!
بل لما بويع علي كرم اللَّه وجهه؛ جعل ابن سب يدعي الوصاية لعلي بالخلافة من
رسول الله : وأن عليًا فيه جزء إلهي» وأخذ ابن سبأ ينفث سمومه في جسم الأمةء
أصبحت عقائد لفرق شتى عن غلاة الروافض» كما سنتعرض له بالتفصيل في هذا
البحث» وفي خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أيضًا- انفصلت شعبة من
الرجال في أمر من أمور اللَّه؛ وأنه لا حَكُم إلا الله وهي كلمة حق أريد بها باطل»
كما قال علي 4#
معاوية بالشام كما لا يخفى على دارس التاريخ.
وكان لهذه الفرقة آراء في أصول الدين وفروعه خالفت بها جماهير المسلمين»
ثم ظهر الجهم بن صفوان الذي أورد على أهل الإسلام شكوكًا أثرت في لتاكثير
من أهل الإسلام آثارًا قبيحة؛ وتولد عنها بلاء كبير؛ فانتشرت أقواله التى تثول إلى
ثم في أوائل القرن الثاني ظهرت المعتزلة بقيادة واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد
ضذه بعد ما
(١)انظر : مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين للإمام الأشعري ج١ ص4 ١ ؟ بتحقيق محمد محبي
الدين عبد الحميد +
)١( مقالات الإسلاميين للأشعري ج١ ص 178 +
وأحزابًا؛ وكل حزب بما لديهم فرحون» وتحقق ما أخبر به الرسول َل بقوله:
آليهود والنصارى؟ قال : «فمن؟00.
إلا أن أهل الحديث والفقهاء والقراء والمفسرين وأهل العربية» والعلماء
الناس» وبهذا انطبق على الأمة تمام الانطباق حديث رسول الله 8: «إن بني
من جراء ما وقع بين الأمة من تنازع وانشقاق؛ وبعد أن كانوا يدا واحدة على من
سواهم أصبح- بكل أسى وأسف- بأسهم بينهم» وأمست الأمة التى دوخت كسرى
وقيصر» وبددت شمل القوتين الأعظم في ذاك الأوان يفت بعضهم في عضد بعض»
رسالة الأمة من إعلاء كلمة الله ونشر دينه لأمم الأرض قاطبة.
وفي هذا يقول الرسول وَل «سألت الله ثلاث فأعطاني اثثتين ومنعني واحدة»
+ انظر: صحيح مسلم ج؟ ص411 كتاب العلم . باب اتباع سئن اليهود والنصارى )١(
. انظر: سنن الترمذي ج4 ص8" أبواب الإيمان: باب افتراق هذه الأمة )(
+ أخرجه الترمذي جص 314: أبواب الفتن : باب سؤال النبي ثلاثًا في أمته )9(
ذا فالأمة محفوظة من عذاب يجتثها من أصلها ؛ ومن عدو يستأصل شأفتهاء أماما
عدا ذلك فلا إذ مفهوم الأوا
لا يستأاصلهم؛ ومنطوق الثالثة صريح في وقوع التنازع» والتخاصم فيما بينهم ولهذا
متناحرة؛ كأنها دول لأمم من ملل شتى» فأصبحوا طعمة للمستعمرين» وألعوبة للغزاة
الغادرين» للمغول تارة؛ وللصليبيين أخرى ثم الاستعمار الحديث الذي جثم على صدر
أصبح به أبناء البيت الواحد ذوي نزعات مختلفة وأهواء متبايئة؛ ولكل وجهة هو موليها +
حتى بعد أن انحسر الاستعمار العسكري بقي الاستعمار الفكري يطالعنا بين الفينة والفينة
بنوع جديد من الإلحاد؛ قصد به الفرا اء الأمة لمحو ما تبقى لها من رسم دينها +
ذلك إلا بعد أن تخلص من قيود الدين» وقد انطلى هذا الباطل على الأغرار من أبناء
أمتنا؛ وأصبحت نظرتهم إلى الدين نظرة استخفاف وأنه علامة للضعف والتقهقر؛ ونسوا
أن حضارة المسلمين التى كانت سببًا مباشرًا في حضارة أمم الاستعمار اليوم إنما قامت
أساسًا على الدين الإسلامي» ولولاها لما تمتع الناس بشمس حضارة اليوم.
وساعد الاستعمار على ذلك تفرق ا لأمة إلى نحل شتى ومذاهب متباينة كما ذكرنا ؛
ففطن لذلك لفيف من علماء الأمة الغيورين فهبوا لإصلاح شأنها بدعوة التقريب بين
المذاهب الإسلامية؛ وقامت الدعوات هنا وهناك» وظهرت المقالات في الصحف
المسلمين من قرون متباعدة؛ لكي تنفض الأمة عن وجهها غبار العار الذي لحقها
بسب الفرقة والخصام» فهل يا ترى سيسمع قول الحق تبارك وتعالى : إ!
مخلصين!! لكن يظهر أن هذا الأمل سيتبخر» وسيكون مصيره مصير دعوة السيف من
قبل في لم شعث الأمة؛ إذا سرعان ما تبين أن كل فريق يريد نصرة .هبه بصرف النظرعن
أنه لا مائع من عذاب لا يعم؛ ولا من عدو