يسم الله الرحمن الرحيم
)١( رحم الله الفقيد القائد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت
خطَاب رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته؛ وأجزل مثوبته؛ وجزاه عن الإسلام
والمسلمين كل خير» فقد أعطى لدينه ولأمته الكثير» وبذل الكثير» وعانى
وأحسب أنه قد لقي وجه ربه بجهاد كبير؛ وزهد عجيب» وخلق رفيع+
وإخلاص نادرء وتواضع جم؛ وأعمال جليلة؛ وقلب ظلّ يخفق بحب الله
وحب رسوله - قي -؛ وحب الصحابة الأبرار - رضي الله تعالى عنهم -»
ولد العلامة المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب في مدينة
الموصل الحدباء!'؟ سنة 177/8ه/ 1418م من أبوين عربيين؛ أبوه من قبيلة
الدليم - فرع الصقور - الذين يتصل نسبهم بالنبي - 88 - من جهة الحسن بن
علي بن فاطمة الزهراء - رضي الله تعالى عنهم - وأمه قيسية؛ وهي ابنة الشيخ
مصطفى بن خليل قره مصطفى؛ وكان من علماء الموصل المشهورين بعلمهم
)١( توصف مديئة الموصل بالحدباء لوجود مسجد فيها مميز بمثذنة حدباء» وقد
بعده بسنة استأثر بمكانه؛ فكفلته جدته أم والده؛ فأثرت فيه أبلغ التأثير» فقد
كانت امرأة صالحة متدينة ومن بيت رفيع التدين» تقضي أكثر ساعات الليل في
تهجد وتسبيح؛ فإذا غلبها الخشوع أجهشت بالبكاء من خشية اللهء كان
يصحبها إلى المساجد وسماع المواعظ .
وهكذا نشأ الفقيد في بيت علم يلى فيه القرآن الكريم صباح مساء؛ وتُقام
فيه الصلوات» ويحرص على الالتزام بالدين الحنيف» ويضم مكتبة عامرة
بالمصادر المطبوعة والمخطوطة.
قرأ القرآن على يد أحد الشيوخ+؛ وحفظ شطراً من كتاب الله» ثم أتم مراحل
المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية في مدينة الموصل؛ وخلال سني هذه
المراحل درس علوم اللغة والتفسير والحديث على أيدي شيوخ مدينة
الموصل» وفي مساجدها العامرة بالحلقات العلمية؛ وخلال شهور العطلة
وكان من أشد ما أثر في تكوينه الثقافي والعلمي - وهو يافع السن - مجلس
الحي الذي يحضره بمعية والده؛ حيث يلتقي خيار رجال العلم والقضاء لقص
الأخبار» وقراءة كتب الفقه والحديث والتاريخ . يقول - رحمه الله - : (لقد
وقع اختيار والدي لقراءة كتب التاريخ على الحضور الذين كان معظمهم
من أهل العلم المتقنين للغة العربية؛ لذلك فقد كنت مضطراً للعناية بقواعد
اللغة العربية وضبط الألفاظ » لكي لا أقع عرضة للانتقادات أو اللوم من
والدي)'" ولا شك أن حضوره مثل هذا المجلس العلمي بلور اتجاهه على
)١( من رسالة التخرج لابنة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب لنيل درجة البكالوريوسص
بإشراف الأستاذ الدكتور محمود رجب التعيمي - جامعة بغداد - كلية العلوم <
اللغة والتاريخ .
ومما يؤكد نشأته المتدينة أنه أدى فريضة الحج عام 1478م ضمن رحلة
هذه السن المبكرة أثر كبير» وخلّف في نفسه معاني عظيمة.
(©) لما حصل الفقيد - رحمه الله تعالى- على شهادة الدراسة الثانوية
لما خلق له). فقد أعلنت وزارة الدفاع العراقية عن حاجتها الكبيرة لمنتسبين
للكلية العسكرية» فتقدم بطلبه مع عدد من رفاقه» وسافر إلى بغداد. وبدأ
بالتعرف على معالمها لأول مرة؛ لأنه لم يكن قد زارها من قبل» فكان اسمه
على رأس من أعلن قبولهم كطلاب في الكلية العسكرية سئة 14717م. وتبدأ
رحلة الفقيد في السلك العسكري . وحصل على الشهادات التالية:
١ - الليسانس من الكلية العسكرية العراقية 1878م
- الماجستير من كلية الأركان والقيادة العراقية برتبة نقيب عام 1448م
؟ - شهادة دراسات عسكرية عليا من كلية الضباط الأقدمين العراقية عام
4 - دبلوم دراسات عسكرية عليا بدرجة ممتاز من كلية الضباط الأقدمين في
إنجلترا عام 1480م وقد كان ترتيبه الأول بين ماثئة ضابط من مختلف
5 - شهد أربعاً وعشرين دورة تدريبية عسكرية في العراق وشمال أفريقي
(©) إن استمرار الخْطَّاب في السلك العسكري هذه المدة الطويلة أمر يثير
العجب والدهشة؛ ذلك أن من يعرف واقع كثير من الجيوش العربية في ظل
الأنظمة الاستعمارية أولاً والأنظمة العلمانية والحزبية در مدى الصبر
والمعاناة والمرارة التي عاناها ضابط ملتزم بإسلامه وعقيدته؛ مستقيم في
بالدين؛ والسخرية بالإسلام؛ واحتقار التديّن؛ كما فرضوا عليهم كافة ألوان
وأمن البلد !!. . . حقيقة مؤلمة مبكية؛ لكنها الواقع !! يحدثنا اللواء الخطاب
تجربته الشخصية : (تتابعت أسئلة قائد السرية التي انتسبت إليها؛ في أول لقاء
تغازل الغيد الجسان؟).
(وتكرر جوابي على أسئلته المتعاقبة بالنفي» فظهرت على وجهه بوادر خيبة
)١( من سيرة الراحل الكريم بخط يده ص١٠ وانظر كتاب اللواء الركن محمود شيت
خطاب (سيرته وترجمة حياته ومؤلفاته) للواء الركن يوسف بن إبراهيم السلوم
ص8١ مكتبة العبيكان
(وكان ذلك أول درس عملي تلقيثه من قائد سريتي» في أول يوم من حياتي
العسكرية العملية في الوحدات العاملة؛ ثم توالَتْ علي الدروس المماثلة
كاللحن المكرر يُعاد على مسامعي صباح مساء).
(ولم أباغت بما سمعنه من قائد السرية؛ فقد تكائَرتْ علي نصائح المجربين
منذ اعتزمت الالتحاق بالكلية العسكرية : أن أبتعد عن تعاليم الدين الحنيف+
وأكيّف نفسي لتلاثم مناخ العسكريين) .
(وبعد تخرجي ضابطاً في الكلية سنة 1418م التحقتثُ بمدرسة الخّالة في
تلك الحفلات يُقابَل بالنقد اللاذع والسخط المرير).
يتجاوزوا العشرين» وهم شباب في عمر الورد لا ينقصهم المال والفراغ؛ ولم
أكن أتوقع أبداً أن أسمع نفس النصح أو النقد من قائد سرية تجاوز الأربعين من
عمره؛ وأمضى في الخدمة العسكرية ما يزيد على العشرين عاماً!!).
(وشاء القدر ألا يطول استغرابي من تصرف قائد السريةء لأنني وجدت
تصرف قائد الكتيبة نحوي - وهو الذي تجاوز الخمسين من عمره - وكان
الحرب العالمية الأولى» لا يختلف في شيء عن تصرف قائد السرية نحوي+
(وكان من تقاليد الجيش أن تولم الوحدات لضباطها الجدد وليمة؛ تطلق
عليها اسم : (وليمة التعارف والاستقبال) تقدم فيها الخمر مع ما لذّ وطاب من
الأطعمة الشهية؛ وقد يصاحب ذلك أنغام الموسيقى والرقص زيادة في الحفاوة
(واستدعاني قائد السريا انتهاء الدوام الرسمي؛ ي بأن الكتيبة
ستقيم وليمة التعارف والاستقبال في دار الضباط مساء؛ فلم أستطع التخلف
عن حضورهاء لأنها أقيمت من أجلي وأجل خمسة ضباط آخرين جُدّد؛ هم
زملاء دورتي في الكلية العسكرية ومدرسة الخيالة).
(وقبل أن يسمح لي قائد السرية بالانصراف غمز عينيه؛ وهو يبتسم ابتسامة
الوائق بنفسه ويقول لعلك تراجع فكرك اليوم؛ ولعلي أهديك إلى سر
(وشهدتٌ الحفلة مع زملائي في الوقت الموعود؛ وقم قائد الكتيبة
وقدمني قائد سريتي قائلاً: الملازم ضابط خام يدَّعي أنه لم يذق طعم الخمر
(وقال قائد الكتيبة : كيف يكون في سلاح الفرسان ولا يعاقر الخمر؟! هذا
ثم يلحون ويلحون؛ وجاء قائد الكتيبة؛ وقد ملأ كأساً بالخمر» وأمر أن أبدأ
لأصبح ضابطاً حقاً ... ثم أَقْسَم بشرفه العسكري أن أفعل» وأقسم قائد
(وكان الليل البهيم قد أرخى سدوله؛ وكانت السماء صافية تتلألأً على
بحساب النجوم اثنتا عشرة نجمة؛ على كل كتف تاج يعادل أربع نجوم؛
ونجمتان مع التاج؛ فيكون مجموع النجوم على الكتفين : اثنتي عشرة نجمة).
(ويومها قلت له أطيعك في تنفيذ أوامرك العسكرية» وأطبع الله في
أوامره؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» إنك تحمل على كتفيك اثنتي
عشرة نجمة» فانظر إلى سماء الل لترى كم تحمل من نجوم)-
(وبهت القائد» وردّد: السماء . . . السماء . . .! نجوم السماء
بين إرادته بشراً وإرادة الله خالق البشر) .
عنان السماء).
(كان الاعتقاد السائد بين أكثر الضباط أن التدين تخلف وجمود وأن التقوى
بلادة وتواكل» وصكمت أن أنبت أن تلك المفاهيم خاطئة» وأن الضابط
المتدين حَرِيٌ بالتفوق» وأن الدين يستثير الهمم والعزائم» فعزمتُ ألا أرضى
بالنجاح وحده؛ بل بالتفوق في النجاح» وكان سبيلي إلى ذلك العمل الدائب
وإتقانه. والحرص الشديد على أداء الواجب وإحسانه؛ واستيعاب العلوم
العسكرية بدقائقها؛ والسهر على تدريب الجنود وحل مشاكلهم»؛ حتى أصبح
(كنت أحضر الثكنة قبل شروق الشمس»؛ وكنت أغادرها الهزيع الأول من
الاعتيادية أن يصدح بوق النهوض وأنا في الثكنة؛ فيجدني جنودي متصب
القامة في قاعة نومهم؛ فشاع بين الضباط أنني أصلي الفجر في الثكنة؛ ولا
أغادرها إلا بعد صلاة العشاء .
عسكرية لا يحلم بها زملاثي في الرتبة والقدم)!'".
وللقاريء الكريم أن يتصور مدى جهد اللواء الخطاب ومدى معاناتة؛
وكيف صبر وصابر؟ وكم تحمّل وكابد؟ حتى وصل إلى أعلى رتبة عسكرية في
الجيش العراقي وبشكل طبيعي؛ ودون ترقيات استثنائية .
الربانية في هذا التوفيق أن يفتح الله عليه كتابة هذه المؤلفات والبحوث
العسكرية المتخصصة وغير المسبوقة؛ وخاصة ما يتعلق بإعادة صياغة التاريخغ
العسكري لأمتنا العربية الإسلامية بأسلوب فني وعلمي متخصص بدءا من عهد
الرسالة وانتهاء بعهد الفتوحات . جزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير »
(ه) وبهذا الجهد الجهيد - كما يقول الخطاب - ومع الاستقامة على أمر الله
والاستعانة به سبحانه؛ فرض احترامه على رؤسائه؛ وارتقى في السلك
العسكري ضابطا محترماً؛ رتبة بعد رتبة حتى حصل على رتبة اللواء الركن
واستمر في هذه الرتبة حتى اعنيّل في العهد الشيوعي - عهد عبدالكريم قاسم
-» وقد اعتّل ثمانية عشر شهراً من أواخر سنة 1404م إلى منتصف عام
١131م ثم أفرج عنه؛ بعد أن ترك التعذيب أثره في جسده في (47) كسراً في
77-14 من مقدمة الخطَّاب لمؤلفه (بين العقيدة والقيادة) )١(
أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد#.
يقول - رحمه الله - في ذلك : (لم يكن عبدالكريم قاسم شيوعياً؛ ولكن
كان مضطراً للاستعانة بهم؛ وبخاصة في تلك الأثناء التي اندلعت فيها ثورة
الشوّاف في الموصل؛ فأطلق أيديهم يعملون مايشاؤون؛ ولم يكن
بوسعهم الصبر على موقفي منهم”'"» فبعث إلى المنطقة بضابط يصلح لتحقيق
أتدارك ما أمكن من الخطاء فدخلت على هذا الضابط أحذره مغبة تصرفه؛ فما
يشاءون؛ وكان ذلك في الهزيع الأخير من إحدى ليالي رمضان» حيث أوقفني
ثلاثة من جنودهم فاعتقلوني ثم حملوني في حراسة مشددة إلى السجن
المخصص لأعداء الثورة في بغداد؛ واستمر وجودي ثمانية عشر شهراً مشحونة
بأنواع من التعذيب الذي يعجز الوصف عنه» وفي جسدي اثنان وأربعون كسراً
(7) لم يكن اللواء الخطاب مجرد ضابط موظف محترف» بل خبر العلوم
الشيخ محمد أبو زهرة - رحمه الله تعالى - فيقول: (قائد يعرف خصمه؛
فيدرك مراميه؛ حتى إنه ليتوقع الحرب أو الهجوم من عدوه في ميقاتها وقبل
أن يعلنهاء وقبل أن يفكر فيها من سيكونون حطبهاء لأنه يعلم الخصم ومآربه
وحاله؛ ويتعرف من ذلك مآله؛ علم بهجوم اليهود سنة 431١م قبل أن يعلنوه»
)١( كان الفقيد يومها رئيس هيثة أركان حرب الفرقة الأولى مسؤولاً عن أمن الجنوب
مابين بغداد والبصرة.
(7) من رسالة التخرج لابئة المؤلف آمنة محمود شيت خطاب ص١١ (غير مطبوع)