5 الإفتتاحية
المعاني في سموها وعلو مكانتها قد جعلت من المؤكد في نظر ابن تيمية أن
في تطبيق قواعد السياسة الشرعية صلاحًا وإصلاحًا للراعي والرعية على حدٌّ
من هذا المنطلق ولما لشيخ الإسلام ابن تيمية من مكانة علمية عالية؛
وسداد في الرأي» رأيت أن يكون مجال بحثي في رسالة الدكتوراه في
السياسة الشرعية تحت عنوان: «آراء ابن تيمية في الحكم والإدارة»؛ ولمزيد
من الإيضاح سأبين فيما يلي سبب اختيار هذا الموضوع فأقول:
لما كان شيخ الإسلام ابن تيمية!'؟ لََلَْهِ أحد الأعلام المجتهدين وكان
محص الأموو. وفهم الحقائق» وأزال أسباب الريب والشكوك والتمويه
ووقف ينادي بوجوب النظر في مصالح العباد» بعيدًا عن أغلال الشهوات»
ومفاسد الأهواء والشبهات» وأبان فيما أصله من قواعد» وساقه من أدلة
وشواهد؛ أن هذه الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ وقد أوضح تله
ما في الإسلام من منابع قوة؛ ومكامن عظمة؛ وحسن قيادة؛ وشمول تام
لجوانب الحياة المختلفة وكان من جملة ما بحثه بيان مقصود الولايات
ونصب السلطان» وخلافة النبوة؛ والشروط الواجب توافرها في رئيس
)١( قال عنه علم الدين البرزالي في «تاريخه»: (الشيخ الإمام العالم المعلم العلامة» الفقيه
الحافظ» الزاهد العابد» المجاهد القدوة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن
شيخنا الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الإمام
شيخ الإسلام أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم محمد بن الخضر بن
محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية الحراني؛ ثم الدمشقي . كان مولده يوم
الاثنين عاشر ربيع الأول بحران سنة ١17هد» وتوفي ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة
عام 174ه). انتهى نقلاً عن «البداية والنهاية» للحافظ ابن كثير: (15/ 178
الإفتتاحية 9
والبيعة؛ وتحريم الخروج على ولاة الأمر» ومنع منابذتهم وقتال أهل البغي
... إلخ. وقد أفاض من وجه آخر في بحث قواعد الإدارة العامة؛ فقد
اعتنى عناية خاصة بالولاية وباختيار الأصلح فيهاء وبقواعد المشاورة؛
ومبادىئٌ الضبط الإداري» والضبط القضائي» وبحث ما يتعلق بالرشوة
وما تجره من مفاسد على الأمة في حاضرها ومستقبلهاء كما بحث بدقة
مبدأ جلب المصالح ودرء المفاسدء وأوضح الصفات المعتبرة في المسئول
في الدولة الإسلامية» وييّن سعة أفق الشريعة الإسلامية؛ وسعة أفق الإدارة
الإسلامية تبعًا لذلك؛ إلى آخر ما تطرق له من المباحث الإدارية الهامة»
وقد تفاوتت مباحثه حسب الأحوال بين الإيجاز تارة؛ والاستطراد تارة
الأطر» ويقعد القواعد» ويوضح الأطر والمنطلقات في حصافة عقل»
وبليغ قول وسداد رأي» وقد أصبح في منهجه واضحًاء وفي مراده صريحًاء
وفي بيانه مقنعّاء دون تطويل ممل أو اختصار مخل؛ وحينما يستخلص
الباحث ما انطوى عليه فكر هذا العبقري يجد أمامه مدرسة إدارية متكاملة
ذات مبادىٌ وقواعد محددة تنير السبيل أمام الحاكم والمحكوم في نظام
الحكم وأصول الإدارة؛ كما توحي بقوة الروابط وعمق الصلة بين الراعي
والرعية؛ وتخدم الوطن والمواطن في أرقى مستويات الخدمة الإنسانية؛
وترسي في النفوس دعائم الفضيلة؛ وتبرز بجلاء حدود المسئولية بشكل
يضمن للفرد وللجماعة أرقى وأمتن العلاقات» وأقوى وأشد الأواصرء
وعلى هذا فيمكننا القول بأن لابن تيمية جهودًا لا تتكر في إبراز معالم
الحكم والإدارة على الطريقة الإسلامية
ل الإفتتاحية
وبرهان ذلك ما تواتر عن السلف والخلف» فيما يتعلق بمكانة هذا
وإخلاصه؛ وكفاحه وعلو همته مما جعله يغدو بحت أحد الأئمة الأفذاذ
المجددين المصلحين؛ وفي هذا المعنى يقول عنه الحافظ عمر بن علي
البزارل'": (أما غزارة علومه فمنها معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه
لدقائقه؛ ونقله لأقوال العلماء في تفسيره واستشهاده بدلائله؛ وما أودعه الله
تعالى فيه من عجاثئب وفنون حكمه وغرائب نوادره» وباهر فصاحته؛
يريده منه فإنه قل أن ذكر حديثًا في مصنف أو فتوى؛ أو استشهد به؛ أو
استدل به إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو؛ وفي أي قسم من الصحيح
المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية؛ وإبراز الدلائل منها على
)١( هو: الشيخ الفقيه المحدث؛ الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر بن علي بن موسى
ابن الخليل البغدادي الأزجي - نسبة إلى الأزج في بغداد البزار ولد سنة 188ه تقريًً
في بغداد. وقرأ وسمع ببغداد؛ ثم رحل إلى دمشق فقرأ على مشاهير علمائهاء وأقام
الحج اسنة 1544 ه.
انظر: «الرد الوافر»: ص7١١» و«ذيل طبقات الحتابلة» لابن رجب: (444/7)؛
ودالدرر الكامنة» لابن حجر : (/707)»؛ و«شذرات الذهب» لابن العماد: (7/ 117
المسائل» وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه؛ وإيضاح المخصص للعام؛ والمقيد
لا ترتقى ذروتهاء ولا ينال سنامها). ويضيف البزار بأن شيخ الإسلام ابن
تيمية قد منحه الله البصائر الرحمانية؛ والدلائل النقلية والتوضيحات
وعن ابن تيمية يقول أبو الفداء الحافظ ابن كثير”"": (وكان ذكيًا كثير
الحفظ فصار إمامًا في التفسير وما يتعلق به؛ عارقًا بالفقه؛ فيقال: إنه كان
أعرف بفقه المذاهب من أهلها الذين كانوا في زمانه وغيره» وكان عالمًا
من العلوم النقلية والعقلية» وما قطع في مجلس ولا تكلم معه فاضل في فن
+ انظر: كتاب «الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية» للبزار: (ص9٠» وما بعدها) )١(
() هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي؛ ثم الدمشقي+
أبو الفداء عماد الدين حافظ» مؤرخ فقيه؛ ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة
٠«لاه؛ وانتقل مع أبيه إلى دمشق سنة 07اه ورحل في طلب العلم؛ وتوفي بها
اسنة 4لالاه. تناقل الناس تصانيفه في حياته ومن أشهرها: «تفسير القرآن العظيم؟+
و«البداية والنهاية»
1 الإفتتاحية
كبيرة لم يكملهاء وجملة كملها ولم تبيض إلى الآن؛ وأثنى عليه وعلى
علومه وفضائله جماعة من علماء عصره؛ مثل القاضي الخوبي"'"؛ وابن
دقيق العيدا""» وابن النحاس!؟؛ والقاضي الحنفي قاضي قضاة مصر
)١( القاضي الخوبي: هو: عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد
ابن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى بن محمد الشافعي» أصلهم من خوى؛ اشتغل
وحصل علومًا كثيرة؛ وصنف كنبا كثيرة؛ وقد سمع الحديث الكثير وكان محيًا له
ولأهله؛ وقد درس وهو صغير بالدماغية؛ ثم ولي قضاء القدس؛ ثم بهسناء ثم ولي
قضاء حلب» ثم ولي قضاء القاهرة؛ ثم قدم على قضاء الشام مع التدريس؛ وكان من
أكابر العلماء؛ ع
: «البداية والنهاية»: (61//16).
العيد: هو : العلامة الإمام أحد شيوخ الإسلام؛ عمدة الفقهاء والمحدثين» تقي
الدين أب الفتوح محمد ين علي بن وهب ين مط » المنفلوطي المالكي الشافعي؛ مات
بالمذهبين ويدرس فيهما
انظر ترجمته في:
«الوافي بالوقيات»: (4/ 197)» و«تذكرة الحفاظ»: (1481/4)؛ واحسن المحاضرة»:
© ابن النحاس: هو: أبو عبد الله محمد بن بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله بن
طارق بن سالم بن النحاس الأسدي الحلبي الحنفي» ولد بحلب سنة أربع عشرة
وستماثة؛ واشتغل وبرع وسمع الحديث؛ وأقام يدمشق مدة ودرس بها يمدارس كبار+
مكرمًا معروفًا بالفضيلة والإنصاف في المناظرة؛ محبًا للحديث وأهله على طريقة
السلف. وتوفي سنة ست وتسعين وستمائة .
انظر : «البداية والنهايةة: (41/17©).
عّاء بارعًا. توفي سنة 147ه؛ ثلاث وتسعين وستمائة عن سبع
الطولى في حسن التصنيف وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتدين)!"".
)١( ابن الحريري: هو: أبو عبد الله محمد بن صفي الدين أبي عمرو عثمان بن أبي الحسن
عبد الوهاب الأنصاري الحنفي. ولد سنة ثلاث وخمسين وستماثة وسمع الحديث+
الديار المصرية؛ فاستمر بها مدة طويلة محفوظ العرض لا تأخذه في الحكم لومة لاثم
في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة .
انظر : «البداية والنهاية»: (14/ 147).
() ابن الزملكاني : هو: الشيخ الإمام العلامة كمال الدين أبو المعالي محمد بن أبي الحسن
علي بن عبد الواحد بن خطيب زملكان (نسبة إلى زملكاء أو زملكان) وهي قرية بغوطة.
دمشق الأنصاري الشافعي» كان كثير الفضل سريع الإدراك يتوقد ذكاء وفطئة. انتهت
إليه رئاسة المذهب في عصره وتولى قضاء حلب» وأقام بها إلى أن طلب إلى مصر
ليتولى قضاء دمشق فمات بمدينة بلبيس في رمضان سنة سبع وعشرين وسبعماثة؛ وكان
مولده في شوال سنة ست وستين وستمائة. تولى مناظرة شيخ الإسلام ابن تيمية غير مرة
ومع ذلك كان يعترف بإمامته ولا ينكر فضله
(/ 71-174 ودالوافي بالوفيات»: (4/ 171-714
(4) حكاه عنه ابن عبد الهادي في كتابه «طبقات الحفاظ» في ترجمة الشيخ ابن تيمية
7 الإفتتاحية
وقال ابن الزملكاني أيضًا عن ابن تيمية: (وقد ألان الله له العلوم كما
ألان الحديد لدواود)". وكتب ابن الزملكاني بخطه على كتاب «رفع
الملام عن الأئمة الأعلام» ما نصه: (تأليف الشيخ الإمام العلامة الأوحد
الحافظ المجتهد الزاهد العابد؛ القدوة إمام الأئمة قدوة الأمة علامة العلماء
وارث الأنبياء آخر المجتهدين أوحد علماء الدين ... تقي الدين
أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية!"" . . . إلخ).
وقال ابن قيم الجوزية!" في ترجمته لابن تيمية: (شيخ الإسلام
والمسلمين القائم ببيان الحتق ونصرة الدين» والداعي إلى الله ورسوله؛
المجاهد في سبيله الذي أضحك الله به من الدين ما كان عابسًا وأحيا به من
السنة ما كان دارسًاء والنور الذي أطلعه الله في ليل الشبهات فكشف به
)401/7( «المختصر في أخبار البشر» لابن الوردي: )١(
( «الكواكب الدرية»: ص4 ؛ و«تاريخ ابن الوردي المختصر في أخبار البشر»: +)41١/7(
(©) هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشة
أركان الإصلاح الإسلامي» وأحد كبار العلماء. ولد بده
١9لاه؛ تتلمذ لشيخ الإسلام ابن ته
في قلعة دمشق» وأهين وعذب بسيبه؛ وأطلق بعد موت ابن تيمية وكان حسن الخلق
كثيرة منها: «أعلام الموقعين»؛ و«الطرق الحكمية في السياسة الشرعية»؛ و«شفاء العليل
في مسائل القضاء والقدر»» و«الحكمة والتعليل»» و«مفتاح دار السعادة»؛ وازاد المعاد» .
174/1 و«النجوم الزاهرةة: (:144/1)؛ و«الدرر الكامنة»: (©/4)400
ى سنة 141ه وتوفي بها سنة
الإفتتاحية ايل
غياهب الظلمات» وفتح به من القلوب مقفلها؛ وأزاح به عن النفوس عللها»
فقمع به زيغ الزائغين. وشك الشاكين» وانتحال المبطلين» وصدقت به
بشارة رسول رب العالمين بقوله كل: : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس
خلف عدوله»؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين»""؛ وهو الشيخ
العلامة الزاهد العابد الخاشع الناسك الحافظ المتبع+ تقي الدين أبو العباس
أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شيخ الإسلام أبي المحاسن عبد الحليم بن
شيخ الإسلام ومفتي الفرق علامة الدنيا مجد الدين ابن عبد السلام ابن
الشيخ الإمام العلامة الكبير شيخ الإسلام فخر الدين عبد الله ابن أبي القاسم
بن محمد ابن قمية الحراني - قلس لله روحه» ونور صريحه ا"
وقال الحافظ الذهبي"' عن ابن تيمية: (شيخ الإسلام مفتي الفرق؛
(4/ 11) كتاب الملاحم . وأقره الذهبي كلاهما عن أبي هريرة
(7) انظر: «بغية الملتمس»: ص07 واشرف أصحاب الحديث»: ص١1 078 74
عن معاذ بن جبل؛ وهو حديث حسن بطرقه ٠
00 أنظية كتاب «الشهادة الزكية»: ص4”» تأليف مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي+
نجم عبد الرحمن خلف ط/ دار الفرقان - عمان الطبعة الأولى سئة 407 1ه.
(4) هو: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان التركماني الفارقي الأصل؛ ثم
الدمشقي. ولد سنة ثلاث وسبعين وستماثة. ومات بدمشق سنة ثمانذ 38
ويسمى «معجم الشيوخ الكبير»؛ منه نسخة خطية في دار الكتب المصرية رقم 79
مصطلح الحديث. وكان آية في نقد الرجال؛ عمدة في الجرح والتعديل» عالمًا بالتفريع
يات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب
المقالات قائمًا بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف. 2
ثَ الإفتتاحية
(برع في العلم والتفسير؛ وأفتى ودرسء وله نحو العشرين؛ وصنف
التصانيف وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه؛ وله المصنفات الكبار
التي سارت بها الركبان . . . وكان يتوقد ذكاءً؛ وسماعاته من الحديث
ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير»
وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيرًا).
وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت؛ وهو أحد الأجواد
الأسخياء الذين يضرب بهم المثل؛ وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل
والمشرب .. وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم؛
ومعرفة بفنون الحديث؛ وبالعالي والنازل. وبالصحيح والسقيم؛ مع حفظه
لمتونه؛ فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه؛ وهو عجب في استحضار
واستخراج الحجج منه؛ وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة؛ والمسند
وقال عنه في موضع آخر : (ولقد نصر السنة المحضة» والطريقة السلفية»
واحتج لها ببراهين ومقدمات لم يسبق إليها وأطلق عبارات أحجم الأولون