يقول العلامة الفرنسى غوستاف لوبون : ( كلما تعمق المرء في دراسة
أن القرون الوسطى لم تعرف الأمم القديمة إلا بواسطة العرب + وان
جامعات الغرب عاشت خمسمائة سنة بكتب العرب خاصة ؛ وأن العرب
هم الذين قدموا أوربا في المادة والعقل والخلق ؛ ومتى درس المرء ماعمل
العرب وماكشفوه في العلم يثبت له أن مامن آمة أنتجت مثل ما
أنتجوا ... ولن كان تأثير العرب في الغرب عظيما فان تاثيرهم في الشرق
أعظم ... إن العرب أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع
استقامة الدين0 .+
ولا شك أن مايقصده العلامة الفرنسي الكبير بالمدنية العربية هو
المدنية الاسلامية ذلك لأنه لم تكن فكرة القوميات في العصور الوسطى
بين العروبة والاسلام كانت علاقة وثيقة لاتنقصم ولا تتجزا ؛ ولان
© الاسلام كان بالطبع هو المنبع الرئيسي الذي أخذ الغرب منه حضارتهم
شملهم ويؤلف بين قلوبهم بعد أن شتتهم الحروب وفرقت الفتن بينهم +
إذا افترقوا من وقعة جمعتهم دماء لاخرى مايظل تجيعها
كذلك لم تكن لهم في جاهليتهم أسس ثابتة تقوم عليها
المجتمعات حيث كان الظلم هو الشعار السائد بينهم : يعتدي قويهم
)١( غوستاف لويون._ حضارة العرب ترجمة عادل زعبتر الطبعة الرابعة مطبعة عيسى البابى الحلبى
لكن الدعوة الاسلامية لما اخذت موقعها في أرض العرب جعلت منهم
لأول مرة دولة مبنية على مبادىء ومثل وأهداف في مجال السياسة
والاجتماع والاقتصاد +
ولم تكن تلك المبادىء غامضة أو مبهمة ؛ أو ناجمة عن إجتهاد
شخصي ؛ أو جهد فردي ؛ إنما كانت منبعثة من دستور الأمة وقانونها
( القران المجيد ) ذلك الكتاب الذي جعل حدا فاصلا وفرقانا بينا بين
الحق والباطل في مسالة الاعتقاد وبين الخير والشر في مسالة السلوك ٠
الحين » أو فكرة ناجمة عن رد فعل لفكرة أخرى ؛ أو عقيدة أخرى في
الحياة , بل كان اصلاحا عاما شاملا لضلال عم الانسانية بسبب البعد
والسلام ٠
لذلك جاء ذلك الدستور ( القران المجيد ) ليبني عقيدة صالحة لكل
انسان ولكل مجتمع ولكل أمة تريد أن تحقق وجودها الانساني والغاية '
من ذلك الوجود انها وعد كل جدال وتقاض على شتى |التشتويات -
ٍ لنفسها العمق الالهى العالي *
يانية ... ذلك العمق في
الزمان والعمق في المكان والعمق في السكن والعمق في سلوك الفرد
والاسرة والمجتمع والحكام والمدنية ...
ولاشك أن بناء الدولة الاسلامية كان الهدف والغاية من بعثة محمد
عقيدة أو شريعة لايمكن لها بقاء واستمرار في فضاء من الخيال أو في
مجال من الحلم .. دون أن يكون هنالك عقول تعيها ؛ وقلوب تؤمن
بها ؛ والسنة تبين الحق فيها والزيف في غيرها ؛ وأيد وسواعد تدافع
عنها ؛ وتتقدم للتعريف بها , ولعرضها على الوجود ٠
وانطلاقا من هذا داب الرسول صل الله عليه وسلم في البحث للدعوة
وللرجال الذين امنوا بها عن موضع من الأرض تجد فيه الدعوة فرصة
للحياة والتنفس والاستمرار والانتشار . وكان من أجل ذلك أن عرض
وحققت غايتها فى يثرب , بعقول وقلوب والسنة وأيدي وسيوف الانصار
كلها . ومن أجل ذلك أيضا عمل الرسول الكريم على تهيئة الظروف
المناسبة لنجاح الدعوة الاسلامية بارساله مصعب بن عمير الذى مكث
في المدينة نحو سنة كاملة , وهو يسعى ليجعل من يثرب الأرض القادرة
على القيام بدور الدولة الاسلامية المنتظرة . وكان ذلك بمبايعة خمسة
وسبعين مسلما ومسلمة للرسول صل الله عليه وسلم ؛ فى بيعة العقبة
الثانية ؛ التى تعتبر البدء فى تكوين حركة تتوفر فيها العناصر الثلاثة
- وهى :
العقيدة .. والأرض .. والبشر :
فالعقيدة كانت الأساس الايديولوجى لبناء الدولة ؛ اذ كانت العقد
والعهد على أن يمنع المسلمون محمدا مما يمنعون منه نساءهم
وأبناءهم ؛ وعلى حرب الأحمر والأسود من اعداء الله ؛ وعلى أن يرتبط
وأنتم مني أحارب من حاربتم واسالم من سالمتم )00 +
والأرض ومافيها وهى الأساس المادي للدولة ؛ إذ لا دولة بدون هذا
الأساس الهام وهى يثرب ببيوتها وحدودها وأشجارها وثمارها وزرعها
والبشر وهم الانصار والمهاجرون بالقيادة الحكيمة الممهمة الممثلة
برسول الله صل الله عليه وسلم ٠
)١( من نصوص بيعة العقبة الثانية
ومن هذا الالتحام بين العقيدة والأرض والبشر نشآت الدولة
تنثىء حضارة ٠
ومنذ نشوء هذه الدولة شعر المسلمون أن بيدهم قيادة الحياة
وارشاد القوافل الضالة ؛ وأحسوا أن دورهم هو قيادة الانسانية عامة
الى مايريد الله لهذه الانسانية من هداية وخير في سلوك أفرادها وتكوين
بنائها وإعمار هذه الأرض ؛ كما أحسوا أنهم يملكون أروع المثل وأفضل
القيم وأن الله اختارهم لاداء رسالته وتبليغ الناس تلك الرسالة ؛ وكان
عبادة العباد الى عبادة الله وحده )
لقد أعطى المسلمون « الانصار والمهاجرون » هذه الدولة كل عناصر
فلم يكن اسلام المسلم كاملا إلا بالهجرة إلى أرض تلك الدولة وبتسليم
نفس المسلم وكل ما يملك من مال وجهد ودم وعمر لقيادة تلك الدولة
المتمثلة في النبى صلى الله عليه وسلم +
شملهم المبعثر واتجهوا نحو المدينة التي كفلت لهم إقامة الدولة +
وبذلوا في سبيل الوصول إلى دولتهم كل شيء . وبأسرع مايمكن أتوا من
الحبشة ؛ ومن مكة ؛ ومن مضارب القبائل في الجزيرة ؛ وصلوا يثرب
ليكونوا المجتمع الجديد بالانسان الجديد ؛ الذى أصبحت هويته
ووطنه وعقيدته واسلوب حياته .. رسالة الاسلام . واصبح ولاؤه
لقيادة الاسلام وأصبح مذعنا ومنقادا لرسالة الاسلام ؛ ونبي الاسلام في
مسجد الاسلام ؛ المسجد النبوي العالي القدر والبالغ المجد ؛ حيث كان .
المسلمون يتعلمون فيه أمور دينهم كلها أي صلاتهم وصيامهم وطرق
وكان من أهم دعائم الدولة وأسسها تلك الاخوة المثالية التى كانت
إعلانا لميلاد الدولة بأواصرها وروابطها ومثلها : الاخوة المبنية على
المحبة الخالصة لوجه الله تعالى والتي لم تكن الغاية منها المصلحة
المادية فقط , بل كانت لازالة الغربة من شعور الغرباء المهاجرين ؛ لكى
يحبون من هاجر اليهم ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
وبذلك كان للاخاء معنى بالغ القيمة وعظيم الخطر ؛ وهو واد العصبية
القبلية والقومية العنصرية . وكان إرساء لمعنى جديد هو فوق
الجاهلية وقوميتها ؛ وفوق القبلية وعصبيتها , ذلك المعنى هو فوقية
العقيدة وسموها على الدم والتراب والقوم والعنصر +
تحقيق افضل صورة للبناء الاجتماعى المتكامل فكريا ونفسيا واجتماعيا
واقتصاديا وادبيا وخلقيا .. فكان هذا البناء الذي مثل أروع نموذج
للاخاء الانسانى ظهر في تاريخ الدول ؛ ولم يشهد تاريخ البشرية مثله
آلا فى فترات وعصور تالية رفعت فيها راية الاسلام الصادقة في فتوحات
الاسلام الاولى وفي حالات الاخاء الاسلامى الذى برزت شواهده الكثيرة
في صفوف المسلمين في حروبهم للصليبية والتتار وفي حروبهم للاستعمار
وللاستبداد في مصر وفلسطين والجزائر وليبيا وكشمير وافغانستان ...
وغيرها ...
وانى أسمح لنفسي أن أقول للذين يجهلون ذلك أنه لا إسلام بدون
تلك الاخوة ولا اسلام بدون تلك الجماعة المؤمنة المتالفة المتحابة
المتناصرة على رفع كلمة الله عالية ليعبد في الارض دون غيره من
الاصنام والطواغيت ٠.
والأمة المسلمة ليست افرادا متناثرين لايهتم بعضهم بشؤون بعض
ولايتالم أحدهم لالم الآخرين وجراحاتهم , فمن أصبح منهم على تلك
الحال فليعلم أن كلمة مسلم لم تعد تشمله وقد أكد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذلك حين قال : ( من اصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس
منهم )00
وانى لا أستطيع أن أتصور أن طبيعة العقيدة الاسلامية ومبادئها
تقبل اسلام الناس باخذهم مثل هذه الدعوة ومفاهيمها وعقائدها
لولا تلك الاخوة لم يستطع الاسلام أن يتقدم شبرا واحدا ولولاها لم
يمتلك المقدرة على ارساء قواعد دولته في الماضي . كما انه لولا تلك الاخوة
الاسلامية لم يواجه المسلمون حريا من أعدائهم في فجر دعوتهم كما أنهم
لن يستطيعوا العودة الى أمجاد دولتهم دون أن يضعوا في اعتبارهم تلك
الأخوة ودون أن يرسموا الخطط لبث المحبة والمودة والعاطفة الاخوية
بين المسلمين . ودون أن يضعوا في اعتبارهم أن أعداء الاسلام
سيتصدون بعدائهم البغيض لهذه الاخوة وسيكون دابهم وديدنهم
محاربتها وصرف الناس عنها . وأن عملهم هذا سيكون أساسا لمحاربة
عقيدة الاسلام وأمة الاسلام ودين الاسلام وتططعات المسلمين الى
مستقبلهم من أجل حريتهم في عبادة ربهم ومن أجل تقدمهم في شتى
مجالات الحياة .. فاجتثاث الاسلام من أصله ومحقه محقا ؛ وحلقة
حلقا ؛ والرمي به بعيدا عن الحياة , هذا العمل سبيله الأول والأسهل
هو الغاء أخوة هذه الأمة , وبذر بذور الفرقة في صفوف افرادها +
وتفريق ذات بينها ؛ وقد أوضح ذلك نبي هذه الأمة ونبه لخطر ذلك
العمل الشائن حيث وصف هذه الفعلة الخسيسة بانها الماحقة
تظاهر بأنه من أهل الاديان . وأنها تحلق دين من ابتلوا بها ودنياهم
فلاقيمة لهم بعد تفرق شملهم وانفراط عقدهم وتشتت ارائهم وتمزق
من أصبح لا يهتم بامسلمين فليس منهم ١
وعلى هذا فان محاربة الاخوة الاسلامية تعنى الكفر بأهم قواعد
الاسلام لأن الغاية منها اجتثاث الاسلام من أصله . فلا دين لفرد أو
لفرقة من الناس تسعى لمحاربة الأخوة الاسلامية
وديانة المسلمين كلها تعنى الاخوة الاسلامية . واركان الاسلام
الخمس المعروفة تؤكد الأخوة الاسلامية وتصر على أنه لا استقرار لهذه
الأركان في النفوس إلا بالأاخوة الاسلامية فشهادة أن لا إله إلا الله تعني
مانزل الله تبارك وتعالى في الكتاب الهادي للمسلمين ومنها ( إثما
المؤمنون اخوة ). ومحمد رسول الله تعني اتباع محمد صلى الله عليه
والصلاة والزكاة والصوم والحج تعني من جملة ما تعنيه الاخوة
الاسلامية بتوادها وتحابها على العقيدة والميدأ +
وعلى أساس الأخوة الاسلامية قامت دولة الاسلام وارتفعت رايتها +
ونشرت مثلها ومبادئها في أقطار المعمورة +
ولكن عندما تخلف المسلمون في عصور"الانحطاط ونسوا الكثير من
ذلك إلى تخلفهم وتاخرهم ؛ وفي نفس الوقت كانت أوربا تتجه نحو
التقدم بفضل ماأخذته من العرب أثناء الحروب الصليبية من مفاهيم
وقيم ومثل بالاضافة إلى العلوم والخبرات ٠
وما خضعت معظم البلدان العربية والاسلامية للاستعمار ؛ كان
حقد المستعمرين الدفين في صدورهم - بسبب هزائم أجدادهم في
تؤجج فى نفوسهم العداء الحاقد على الاسلام والمسلمين - مصدرا
لمحاربة الاسلام في محاولة جادة للقضاء عليه فكريا وسياسيا واجتماعيا
وقد برز ذلك في محاولتهم ؛ أثناء فترة الاستعمار , اقحام الاتجاد
العلماني في مجتمعات المسلمين في مجال التعليم والتشريع والسياسية
والقضاء . وسهل عليهم ذلك لانهم ترجموا الاسلام ومفاهيمه ومبادئه
بما لحاضر المجتمع الاسلامى من تخلف ؛ وعزوا التخلف نفسه ؛ رغم
أنه كان ناجما عن البعد عن حقيقة الدين ؛ الى مبادىء الاسلام وقيمة
وحينما أاحست الدول المستعمرة والمؤسسات ل
ستطرد لا محالة من أقطار المسليمين سعت إلى ايجاد فئة من أبناء
المسلمين تكون أشد عداء للاسلام والمثل الاسلامية من المستعمرين
المستعمرة والتي كان أساسها الخروج على المسيحية نظرا لانها كانت
ديانة متعصبة وقفت ضد كل تقدم وحاربت العلوم والمبتكرات
وتمزيق وحدتها ؛ وتشتيت دولتها إلى دويلات
الاسلامية واستبدال العصبية المحلية والعنصرية بهذه الاخوة +
وقد نجحت الدول الاستعمارية فى ذلك وحققت الغاية من تفريق الأمة
اسلامية أخرى معادية لها , واحدة تتعاون مع الشرق واخرى تتعاون
مع الغرب ؛ كل دولة تكيد للاخرى وتخصص لها اذاعة ووسائل اعلام
كى تتهمها بالرجعية والعمالة والخيانة .. بل واحيانا تعلن عليها
الحرب بكل الوسائل المدمرة +
وهكذا اصبحنا نرى اقطار الاسلام وكأنها قبائل بكر وتغلب تتساقى
كؤوس الموت وأنواع الدمار بسبب غدر كل دولة بجارتها وعدوانها
والغدر فرق بين حيي واثل بكر تساقيها المنايا تغلب
وكان لابد لنا لاجل التفوق والنصر في محاربة بعضنا البعض من
الاعتماد كليا على دول الكتلة الشرقية أو الكتلة الغربيةوأخذ مفاهيمهما
المريضة على أفكار وحضارات مستوردة تجعل الآمة في فراغ مستمر في
الفكر والخلق والمثل ٠
ولم تؤد هذه النهضة والقوة والثروة المادية ( التي حصلت عليها
حرب فئة مع فئة اخرى في نفس القطر فكائت النتيجة أن تركنا عدونا
الاساسى وتقاتلنا وأصبحت خسارتنا في قتال بعضنا البعض أكبر
وتمادى البعض بالقول فقالوا نعم ان محارية بلد اسلامى مالبلد
مجاور له هى أولى وأفضل من محارية عدونا الاساسى . أو هى البدء
والاساس الذى يجب أن يسبق حرب عدونا الأساسى المغتصب ٠
وى غمرة هذا الخطأ الفاحش والمغالاة في الضلال لسبب البعد عن
العقيدة الاسلامية الأصلية التى أسسها الأخوة والمحبة الاسلامية
والوحدة , أحس العقلاء والمفكرون والكتاب المخلصون بالخطر المنذر
بدمار الأمة , وتكلموا وكتبوا باحثين عن الدواء الناجع لهذه العلة +
فكانت كلماتهم وكتاباتهم غير مسموعة وغير مضرح لها بالنشر في كثيرمن
البلدان العربية لأنها لاتوافق هوى الأفراد الذين تحكموا فى مقدرات تلك
البلدان وتخالف مزاجهم وتضر بمصالحهم الذاتية التي جعلوها
للأسف فوق كل مصلحة .
ولم يمنع كل ذلك الأستاذ القاضى سعدى ابو حبيب من محاولة جادة
لالقاء الضوء وانارة الطريق على السبيل المؤدى لخلاص الامة