الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه
ابتدع - في هذه الآمة - في عصورها الاخيرة: الحكم بغير ما أنزل الله
والتحاكم إلئ غير شريعة الله تعالئ؛ حتئ صار سمة عامة لكثير من
بلاد المسلمين وأصلاً من أصول دساتيرها .
وما كنت أدرس شرح الطحاوية لابن أبي العز الحتفي - رحمه الله
تعالئ - في كلية الشريعة وفي كلية أصول الدين بالرياض» فكثيراً ما
كنت أعرض لما عرض له شارح الطحاوية من مسائل وقضايا عقدية.
والوعيدية [الخوارج والمعتزلة ] في مسالة الحكم علئ مرتكب الكبيرة
في الآخرة واسم مرتكبها في الدنيا. ولما كان مذهب السلف رحمهم
الله تعالئ وسطًا في ذلك» كان لابددٌ من عرض مذهب الفريقين اللذين
ضلا في هذا الباب ومناقشتهما حتئ يتبين الحق والصواب في ذلك .
فالخوارج - ومن تبعهم من المعتزلة وغيرهم من الوعيدية - جعلوا
الإيمان شاملاً للقول والاعتقاد وعمل الجوارح» لكنهم ضلوا حين جعلوا
مرتكب الكبيرة - كالزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من غير
منزلة بين المنزلتين كالمعتزلة. وأما حكمه في الآخرة فقد اتفقوا على أنه
خالد مخلد في النار؛ وهذا بناء علئ أصولهم الفاسدة.
وفي مقابل مذهب الخوارج جاءت فرقة المرجئة؛ لتجعل الإيمان هو
المعرفة المجردة من أي عمل؛ سواء كان عملاً للقلب أو عملاً للجوارح
الإيمان هو التصديق فقط وعمل الجوارح غير داخل فيه - كما هو قول
كثير من طوائف أهل الكلام من الأشعرية والماتريدية وغيرهم - غفر
إلا اللكذب بقلبه فقط . ونسئ هؤلاء أن كثير من الاعمال حكم عليها
أئمة الإسلام بالأدلة - في باب حكثم المرتد وغيره - بمجرد العمل؛
ذلك . بل ذكر العلماء مسائل من العمل ظاهرة قالوا بكفر صاحبها
كفراً أكبر مع إقراره وعدم تكذيبه؛ مثل مسألة ترك الصلاة عمداء
ومسألة السحر؛ ومسألة تولي أعداء الله؛ ونحو ذلك.
وفي المسألة التي معنا - وهي مسألة الحكم بغير ما أنزل الله - نجد
الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه
هؤلاء المائلين إلى مذهب المرجئة يقفون في الطرف المقابل» ويقولون:
لا يكفر إلا الجاحد والمكذب لما أنزل الله؛ أما الحكم بغير ما آنزل الله
بجميع أشكاله وصوره - ما دام صاحبه لا يصرح بجحوده - فهو كفر
أصغر كغيره من الكبائر.
ولما أراد ابن أبي العز الحنفي أن يناقش الخوارج في احتجاجهم
بعدد من الأدلة قال: « ولكن بقئ هنا إشكال يرد علئ كلام الشيخ
[الطحاوي] رحمه الله تعالئن؛ وهو أن الشارع قد سمئ بعض الذنوب
وقال ته : (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)" '"... إلئ آخر كلامه
يقتل علئ كل حال. ..»”"' ثم ساق بقية الجواب موضحًا القول الحق
)١( متفق عليه: البخاري كتاب الإيمان حديث رقم 48؛ ومسلم في الإيمان
رقم 16
(3) المصدر السابق ص 447 +
اصحابها بالكفر أو النفاق أو عدم
استدرك في آخر الجواب فقال:
الإيمان وأطال في ذلك؛ لكنه
وهنا أمر يجب التفطن له» وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد
بحسب حال الحاكم:
فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه؛ أو
استهان به مع تيقته أنه حكم الله فهذا كفر أكبر.
وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل
وإن جهل حكم الله فيهاء مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة
الحكم واخطاه» فهذا مخطئ له أجر علئ اجتهاده وخطؤه مغفور ١"!
فابن أبي العز - في هذا الاستدراك - أراد أن يلفت الانتباه إلى
مسالة الحكم بغير ما انزل الله وأن لها أحوالاً تختلف عن بقية الكبائر
. 447 شرح الطحاوية ص )١(
الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه
وتامل قول ابن أبي العز: « وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع
اعترافه بأنه مستحق للعقوبة» فهو يشير إلئ حالة من حالات الحكم
بغير ما أنزل الله يكون فيها كفرًا أصغر غير مخرج من الملة. كما سيأتي
تفصيل ذلك ونقل أقوال العلماء فيه .
لهذاء وما وقع في هذه المسألة من خلط كعبت هذا البحث
مفصلا القول في هذه المسألة؛ ناقلا أقوال العلماء قديما وحديثا
المبحث الأول: في تحكيم الشريعة ومنزلته في العقيدة.
وقد بينت فيه أن مسألة الطاعة لله ولرسوله تَُتُ ولوازمها من
أصول العقيدة؛ وأنها مرتبطة بأركان العقيدة من توحيد الالوهية»
والربوبية والأسماء والصفات؛ وشهادة أن محمد رسول الله عه وقد
نقلت في ذلك أقوال فحول المفسرين» وكلام أئمة الإسلام قديّما
سار
المبحث الثاني: في النصوص الدالة على وجوب التحاكم إلى
شرع الله تعالئ .
وما كانت هذه النصوص كثيرة جد - خاصة في القرآن الكريم -
الأول: في ذكر الآيات العامة الدالة على وجوب التحاكم إلئى شرع
الله تعالئ والنهي عن اتباع شرع من سواه. وهذه الآيات - لكثرتها -
بقيتها دون تعليق لمن أراد أن يرجع إلى تفسيرها .
دلالات تفيد في الموضوع؛ وقد اكتفيت بأربعة مواضع؛ مع ذكر أقوال
المفسرين وغيرهم من علماء الإسلام فيها.
الثالث: الآيات من سورة المائدة في الحكم بغير ما أنزل الله
ولطول البحث فيها فقد جعلتها موضوع المبحث الثالث .
المبحث الثالث: ذكرت فيه الآيات من سورة المائدة في الحكم بغير
ما انول الله وبيان أحواله: متئ يكنون كف أكبر ومع يكون فر
أصغر. ولطول البحث في ذلك فقد قسمته إلئ خمسة مطالب - حتئ
يتضح الكلام حولها -:
الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه
الملطلب الأول: في أسباب نزول آيات المائدة؛ وأقوال العلماء من
المفسرين وغيرهم في ذلك وبيان الراجح منها ء
المطلب الثاني : في الكلام على : من المقصود بهذه الآيات هل هم
الطلب الشالث: في بيان متئ يكون الحكم بغير ما أنزل الله كقراً
أكبر» نظ لآن آيات المائدة هي التي حكمت بالكفر والظلم والفسوق
حالات الكفر الأكبر وأنها ثلاثة أقسام:
القسم الأول : الجانب العقدي « أي الجحد والاستحلال».
القسم الثاني : التشريع المخالف لشرع الله.
القسم الثالث: طاعة المبدلين لشرع الله مع علمهم أنهم خالفوا
شريعة الله وحكمة.
وقد أطلت الكلام حول هذه الأقسام الثلاثة ؛ وذكرت أدا
ونقلث أقوال أقئمة الإسلام وعلمائهم قديما وحديثا.
المطلب الرابع: متئ يكون كفرا أصغر؛ أي كفر دون كفر. وفيه
بينت الحالة التي تكلم عنها العلماء وبينوا أن الحاكم فيها بغير ما أنزل
الله لا يكفر.
المطلب الخامس: وهو مكمل للمطلب السابق؛ ذكرت فيه الكلام
تفصيلاً حول ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في آية
المائدة: كفر دون كفر.
المببحث الرابع: في نماذج لمواقف العلماء وأئمة الإسلام من
المبدلين لشرع الله تعالئ؛ وذكرت في ذلك ثلاثة نماذج:
أولها: حركة المرتدين المانعين للزكاة وحكم الصحابة فيهم.
وثانيها: ياسق التتار» وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية منه؛ وكذا
موقف ابن كثير وغيره من العلماء. وقد قدمت لذلك ببيان حال هذا
الياسق ومصدره عندهم؛ وبيان حال التتار وأنهم دخلوا في الإسلام
المبحث الخامس: شبهات وجوابهاء عرضت فيه لأهم الشبه التي
يوردها المخالفون وجوابها -
الحكم بغير ما أنزل الله أحواله وأحكامه
المبحث السادس: وهو خاتمة المباحث؛ ذكرت فيه مسائل وقضايا
مهمة متعلقة بالموضوع» ومن ذلك:
١ ) الفرق بين النظام الشرعي والإداري.
؟ ) التكفير ومنهج السلف فيه.
وقد حرصت في أثداء هذا البحث علئ ذكر الأدلة» ونقل كلام
العلماء بحروفه ولو أدئ ذلك إلى طول بعض التقول نسبيًاء والسبب
علئ الأدلة الشرعية ومعززًا بأقوال العلماء الفحول من الأئمة الأعلام.
وفي ختام هذه المقدمة احب أن أنبه إلئ أن هذه دراسة حول هذا
الموضوع المهم بينت فيها ما يتعلق به من أحكام وقضاياء؛ أما تطبيقه
علئْ الواقع فيحتاج إلئ توفر شروط وانتفاء موائع» وَحَنْب هذه
الدراسة أنها بينت خطورة الام وخطر الإعراض عن شريعة الله
والتحاكم إلئ ما سواها من القوانين الطاغوتية المحالفة لشرع الله عز
وحسبي أني اجتهدت في هذا الموضوع فإن أصبت فبتوفيق الله