المقدمة
الحمد لله لله الذي خلق خلق السموات والأرض» وجعل الظلمات
وبعد :
فقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تُخْتم الرسالات السماوية
برسالة نبينا محمد ع فكانت رسالته دعوة عالمية خالدة؛ تتميز
بالسمؤّ والكمال» وتنطق بالهدى والعدالة والحق؛ وتهدف إلى صلاح
الفرد وامجتمع وإلى خير الإنسانية باجمعها »
الفرد واخيه في المجتمع» وبين الفرد واجتمع كلم من حوله؛ كما تنظم
علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأ إذ هي « تحدٌ للمكلفين حدوداً في
أمور دينهم ودنياهم 4 .
وكان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتلقّون أحكام هذه
الشريعة عن النبي غَُ مباشرة؛ فيرجعون إليه في كل مايتصل بشؤون
الدين والدنياء في مجال العقيدة والإيمان؛ وفي مجال العبادة
وبعد أن انتقل النبي تَُنه والتحق بالرفيق الأعلىء وتفرّق
الصحابة في البلداد» وصار كل واحد منهم مرجع ناحية من النواحي»
من مسائل بحسب اجتهاده؛ وقد تتلمذ عليهم جيل من التابعين أخذ
عنهم العلم: قرآناً وسنة واستنباطاً منهماء ضمن قواعد وضوابط
تضبط عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية؛ دُونت فيما بعد
وأطلق عليها اسم « أصول الفقه 6 .
وفي هذه المرحلة اننشرت رواية أحاديث النبي كه وأعقب
مدرسة أهل الحديث في المدينة النبوية؛ ومدرسة أهل الرأي في العراق
وليس من غرضنا في هذه المقدمة دراسة تطور هاتين المدرستين
وخصائص كل متهماء ووجه الفرق بينهما. .. ولكن حسينا هنا
الإشارة إلى أن هذا الانقسام تعمّق فيما بعد ولأى إلى التصاوية
الإمام الخَطَابيٌ رحمه الله قد رأى في عصره آثار هذا الانقسام 3
في مقدمة كتابه «معالم السن» يقول:
: أصحاب حديث وأثر. وأهل فقه ونظر» وكلٌ واحدة منهما
والإرادة» لان الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الاصل» والفقه
بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع» وكل بناء لم يوضع على قاعدة
وجدت هذين الفريقين - على مابينهم من النداني في الخْليّن»
الح بلزوم التناصر والتعاون غير متظاهرين!
منهم إنما وكُدهم الروايات وجمع الطرقء وطلب الغريب والشاذ من
ولايتفهمون المعاني؛ ولايستنبطون سيرهاء ولايستخرجون ركازها
مخالفة السننء ولايعلمون أنهم عن مبلغ ما أوتوه من العلم قاصروت»؛
وبسوء القول فيهم آثمون +
لايعرّجون من الحديث إلا على اقله؛ ولايكادون يميزون صحيحه من
آراءهم التي يعتقدونها؛ وقد اصطلحوا على مواضعة بينهم في ققبول
الخبر الضعيف والحديث النقطع» إذا كان ذلك قد اشتهر عندهم
وتعاورته الالسن فيما بينهم» من غير ثبت فيه أو يقين علربه؛ فكان
وهؤلاء - وتقنا الله وإياهم - لو حكي لهم عن واحد من رؤساء
مذاهبهم وزعماء نحلم قول يقوله باجتهاد من قبّل نفسه» طلبوا فيه
الثقة واستبرؤوا له العهدة؛ فتجد أصحاب مالك لايعتمدون من
مذهيه إلا ماكان من رواية ابن القاسم والأشهب وضربائهم من تلاد
عندهم طائلاً.
وترى أصحاب أبي حنيفة لايقبلون من الرواية إلا ماحكاه
أبويوسف ومحمد بن الحسن والعلية من أصحايه» والاجلة من
لني والربيع بن سليمان المرادي» فإذا جاءت رواية حرملة والجيزي
وعلى هذا عادةٌ كل فرقة من العلماء في أحكام مذاهب آثمتهم
وأستاذيهم . . .الخ
وهذه الكلمة الضافية الرائعة من عيون ماكتبه الإمام الخطابي -
- رحمه الله - تؤكد أهمية الجمع بين الحديث والرأي السليم؛ أو
كما قال القاضي عياض - تمسك بصحيح الآثار واستعملها؛ ثم
آراهم أن من الرأي مايُحتاج إليه؛ وتبنى أحكام الشرع عليه؛ وأنه
قياس على أصولهاء وَمُشَرّعٌ منهاء وآراهم كيفية انتزاعها والتعلق بعللها
وتنبيهاتهاء فَعَلم أصحاب الحديث: أن صحيح الرأي فرع للاصل؛
وعلم اصحاب الرآي: أنه لافرع إلا بعد أصل؛ وأنه لا غنى عن تقديم
من معالم هذه المدرسة المتميزة؛ التي توازن بين مدرستي الحديث
والرأي في الفقه الإسلامي؛ وي إلى المنزلة الرفيعة التي يتبوّؤها الإمام
محمد بن الحسن الشيباني» تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان وصاحبه»
رحمهما الله تعالى .
وما أكثر مانجد من بنارات» ومعالم في تاريخنا الإسلامي
المجيد!! فلتكن هذه المقدمة عن واحد من هذه المنارات» عن الإمام
محمد بن الحسن» الذي تتلمذ على أبي حنيفة وتأثر بفقهه؛ ونبغ في
مدرسته؛ حتى أصبح مرجع أهل الرأي في حياة أبي يوسف بعد وفاة
أي حنيفة» وهو الذي رحل إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك بن
أنس؛ وله رواية خاصة «للموطاً»» وهي رواية مشهورة من أوثق
ويبين السبب الذي من أجله وقع الخلاف؛ قال الإمام محمد : أقمت
على باب مالك ثلاث
وقال الشافعي: كان محمد بن الحسن إذا حدثهم عن مالك
امتلا منزله وكثروا؛ حتى يضيق بهم الموضع ٠
في سنة 77١ه؛ رزق أبوعبدالله» الحسن بن فرقد الشيباني» من
أهل « حَرَسْنَا» في غوطة دمشق ببلاد الشام» بولده محمد بن الحسن»
أسرته إلى مدينة « واسط» وفيها ولد محمد بن الحسن الثاني
وفي العراق» نشأ محمد بن الحسن وترعرع؛ ثم حفظ القرآن
الكريم وتلقى مبادئً تعليمه» وبدا يختلف إلى حلقة أبي حنيفة في
«الكوفة4» وقد جرى معه مايدل على نبوغه المبكر وذكائه المتوقد
ولم تكن حلقة أبي حنيفة مجرد حلقة عادية لتعليم مبادئ الفقه» بل
كانت مدرسة تضم النوابع من الطلبة الذين يذكي فيهم شيخهم روح
الاجتهاد والبحث بمسائله التي يطرحها عليهم ثم مناقشتها بكل حرية
وشورى ليصل إلى رأي ناضجء يأمر بعد ذلك بكتابتها وتدوينها في
بابها من كتاب الفقه الإسلامي العظيم .
وانصرف محمد بن الحسن كلا إلى العلم انصرافاً ملك عليه
جوائب حياته؛ حتى إنه قال لأهله: لا تسألوني حاجة من حوائج
لازم محمد بن الحسن شيخه الأول أبا حنيفة؛ وسمع منه وكتب
لتُوْري» والأوزاعي» ولازم مالك بن أنس مدة - كما سبق - حتى
انتهت إليه رياسة الفقه بالعراق بعد أبي يوسف »
وتفقه به أئمة أعلام كالثاني واي بيد القاسم بن سلأم
وهشام بن
الله الرازي؛ ويحبى بن مَعيْن؛ ومحمد بن سٌماعة»
وقد أثنى عليه العلماء ثناء عاطراً يدل على علو مكانته ومنزلته»
وحسبك شهادة الإمام الشافعي فيه! .
قال الإمام الشافعي : اخذت من محمد بن الحسن ور بعر من
وقال : كان إذا تكلم خُيّل لك أن القرآن نزل بلغته .
وقال أبوعُبيد القاسم بن سلأم : مارايت أعلم بكتاب الله منه.
رجلاً آعلم بالحلال والحرام» والعلل» والناسخ والمنسوخ من محمد بن
الحسن» ولو أنتصف الناس لعلموا أنهم لم بروا مثل محمد بن الحسن»
ماجالست فقيهاً قط أفقه ولاأفتق لساناً بالفقه منه إنه كان بحسن من
الفقه وأسبابه أشياء تعجز عنها الأكابر. .
وقال إبرا اهيم احرنِي اقلت للحسدين بل : من أين لك هذه
المسائل الدقيقة؟ قال : هي من كتب محمد بن الحسن.
هذه شهادة إمام أهل السنة؛ وتلكم شهادة ناصر السنة واضع
علم الاصول في الإمام الرياني محمد بن الحسن الشيباني؛ تُغْنِيانَ عن
كل شهادة بعدهما.
وذلك كله يشير إلى طرف من منزلة الإمام محمد - رحمه الله
- في الفقه الإسلامي ومكانته فيه؛ وقد رتّب العلماء طبقات
لمجتهدين في الفقه الإسلامي ووضعوا محمدا - رحمه الله - في
الطبقات الأولىه إن لم يكن في أول طبقة منهاء وهي طبقة لمجتهدين
ومع الخلاف في كون الإمام محمد مجتهداً مطلقاً ام لا؟ فإن
مكانته في العلم مكانة بارزة؛ ففي التفسير تُعْرّف مكانته من قول
الشافعي - رحمه الله - : « لو أشاء أن أقول : نزل القرآن بلغة محمد
ابن الحسن لقلت؛ لفصاحته» ويقول محمد - رحمه الله - : وب
لقارئ القرآن أن يفهم مايقراً» فله مكانته في معرفة أسلوب القرآن
الكريم وبيان أحكامه؛ وناسخه ومنسوخه؛ ومن ثم كان من أعلم
الناس بكتاب الله
وفي الحديث والسُنةَ : كان للإمام محمد عناية خاصة» فهو قد
تتميز عن رواية يحتى الليشي» حيث يعقّب بقول ل أبي حنيفة وقوله في
كل مسالة غالباً؛ والكتاب مطبوع وله شروح متعددة كشرح مُلاً علي
القاري وغيره.
ومرسلة؛ وعليه شروح؛ وقد عي الحافظ ابن حجر برجاله» فكتب
رسالته « الإيثار بمعرفة رجال الآثار». وفي سائر كتبه جملة صالحة من
الأحاديث والآثار.
افصح الناس. وكان ثعلب يقول : محمدٌ عندنا حجة من أقران
سسويه؛ وكان قوله حجة في اللق؛ وذكر ابن يعيش في شرحه خطبة
في كتاب الأيمان منه» مسائل فقه تُتنى على أصول العربية؛ لا تتضح
يتعجب من تغلغل الإمام محمد في النحو. في « الجامع الكبير».
وقال ابن جنَّي عن كتب الإمام محمد واثرها في علم النحو :
1 زع أصحابنًا منها العّل» لانهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه
فيجمع بعضها إلى بعض بالللاطفة والرفق
والذي يشهد للإمام محمد ومكانته : تصانيفه ومؤلفاته؛ الجيدة
المتقنة؛ التي كانت عماد الكتب المدونة في الفقه الإسلامي»؛
«كالاسدية» التي هي أصل «المدونة؛ في مذهب الإمام مالك
وكتاب «الأم» للإمام الشافعي رحمه الله؛ وكتب الإمام محمد هي
التي حفظت فقه المذهب الحنفيء » وتعتبر أصولاً له؛ وبخاصة كتبه