فانه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق»*
وفي ضوء هذه الخطوط المبدئية بسط مفكرو بغداد حكمتهم في
اشتعلت الفتن من حولهم» وقذفهم خصومهم بتهم المروق عن جادة
الصواب. ومخالفتهم آراء القوم الثابتة.
انفجار المرجل البخاري بين وقت وآخر وقذفه المسافرين في الهواء ليس
ثورة العقل» مهمة فرضت على مفكري معتزلة بغداد التصدي
المعارضة بينهم وبين السلفية النقلية؛ لتتشهي بما يسمى ب (المحنة) التي
استهدفت بالدرجة الأولى ترشيد النزعات المتقيدة بالنص الحرفي»؛ والعمل
الدؤوب على توطيد مهمة النقد الفلسفي» الذي كان مظهراً آخر لمنطق
حوار الحقيقة في صيرورتها اللامتناهية؛ لذلك لم يكن النقد البغدادي
لمنظومات الفكر المعتزلي البصري تحطيمً لمدرسة واصل بن عطاء الأولى
إن دخول الحركة الاعتزالية عالم القرن الثالث الهجري باعتباراتها
* الكندي رسالة في الفلسفة الأولى. القاهرة 14854 ص 81
احتكاكها بعصر النهضة العربية: وحضورها معه في تبادلات متقابلة لا
(عندئذ تكف الفلسفة عن أن تكون منظومة محددة ازاء منظومات أخرى
محددة بل ستصير الفلسفة بصورة عامة ازاء العالم)*.
مخطط فكري منظم لا يقتصر على رصيده النظري بتاثًا؛ وإنما يندفع إلى
العمل السياسي المابر» في تصميم دولة المستقبل «دولة العدل والتوحيد».
.. ومن أجل «دولة العقل والحرية» كان نضال معتزلة بغداد؛ في
تعاهدها مع المآمون وتضامنها المبدئي مع المعتصم والواثق» وفي ظل هذا
العمل الموحد» أثيرت قضية الصفات الالهية؛ أوئى مداخل الشورة الثقافية
التي تولاها العقل البغدادي في مهمة منهجية عقلانية تساند وتهيء زمنًا
طويلاً لنهضة العرب الحضارية. فلم تعد العقيدة في حالة بكويت يما
العقل هو الذي يحكم العالم؛ الذي يعطي التعليل صلاحية البحث عن
أيضًا؛ تولت مدرسة بغداد حواراتها الدائمة مع الخصوم والمخالفين»
لتبرهن على حضورها القوي في الجبهة الأمامية لعصرهاء وحرصها على
تكريس التقاليد المستنيرة في رحلة البحث عن الحقيقة.
* د. محمد الزايد. الفلسفة. مجلة الثقافة - الجزائر ١8977 العدد 77 ورقة 77
مقدمة ثالثة
ثمة فجوة هائلة بين ذوي الاتجاهات المحافظة التقليدية؛ والجتاح
المعارض لهم. وهذه الفجوة؛ ذات أبعاد روحية؛ ذهنية؛ اجتماعية؛ تشكل
صراعًا حول البنية الثقافية على مدى أربعة عشر قرنًا*. ولا يمكن أن تسد
هذه الفجوة إلا بالفهم العقلي للعقيدة وتوضيح آفاقها الرحبة. فإن العقيدة
يمكن أن ترفض» ولكن النظر لا يمكن أن يرفض» وإنما يمكن أن ينقض
وبطبيعة الحال لا ينقضه إلا نظر آخر مقابل. لقد كان خط فادحًا فى
بعد. ان ينقض المنطق الشكلي» بأدوات أرسطو ذاتها.
لات
إن مهمة هذا البحث ليست مجرد دعوة لدخول عالم المعتزلة؛ أو مجرد
عرض لمواقف مفكريهم في بغداد القرن الثالث الهجري؛ بقدر ما يستهدف
موقفا فلسفيًا من الثقافة؛ والتراث». ودعوة مخلصة حارة إلى التجديد
لموضوعات التراث ينبغي أن تتم بكيفية تبادلية» بين ما كان قائمًا في تاريخ
أمتناء وبين ما هو موجود ومتحقق في الحاضر وبين ما ينبغي أن يكون عليه
العرب في المستقبل. لذلك» فإن أي بحث يقوم بمحض عرض تجريدي
لات
علينا أن ندرك الشروط التي انبثق في ظلها وعلى أساسها «علم الكلام»
لندرك أن الشروط والمتغيرات ذاتهاء وبكيفيات جديدة؛ تقدم نفسهاء وتلقي
«* راجع عبد الله العروي. العرب والفكر التاريخي ط. بيروت الأولى.
علينا مهام المبادرة الى تحويل التراث من مجرد عرض نصوصي.ء إلى علم
ظاهر واضح ومعلوم» أو هو جدلية المعرفة في تحولاتها من اللابعروف إلى
معروف. يتضمن مجهولاً لا معروفًا يقود إلى معروف آخر. إبرازًً لأكثر
إن هذه المقدمات تقف في صف كل الدعوات المخلصة لقضية النضال
الشعبي للثورة العربية ولرؤيتها الحضارية التقدمية لمشكلة الشقافة؛ وقضية
التراث» إنها تبتدىء من منطق علمي جدلي ثوري يستند إلى رؤية نقدية
وتنكراً للمستقبل» الذي يقدم فعلاً قضية الخصوصية ولكن بمفهوم عقلاني
متطور وبوسائل ذهنية ومادية جديدة. الذي يقر بوعي إن معرفة معطيات
الثقافة العامية لا يصادر ذاتية التجربة العربية الإسلامية؛ بل يوسع آفاقها
الحياة الاجتماعية والثقافية فى الوطن العربى. وإذا كان التأكيد على
استقلالية الفكر والاداة والطريق» فإنه تأكيد على قدرة الأمة على الابداع»
وقابلية أبنائها على الابتكار» وفي نفس الوقت» فإن استقلالية النظرة
لا تطوق نفسها بمقولات قبلية؛ ثابتة؛ أو تخضع لقوانين مطلقة. قدر ما
الشخصية الحضارية للأمة؛ وبنفس القدر والأهمية» يوجب المنهج العلمي
الثوري ضرورة التفاعل مع الفكر الإنساني؛ بروحية وبشخصية وبعقلية
تفترض الأخذ والعطاء» ولي الأخذ من موقع استصغار امكانات الأمة
وازاء ذلك فشمة حصانة مبدئية تجعلنا مزودين دائمًا بشروط التجربة
الوقت لا يحتوي أي شيء. فقاعدته الحضارية توجب عليه منهجية النقد
إن المؤازرة المتهجية وتقديم الحقائق العلمية؛ وتوفير وسائل البحث
الثقافي» لن يعفي علماءنا ومثقفينا عن دورهم الواجب» ومهامهم الوطنية
ليس ثمة مسافة بين الإنسان والثورة» وبين المجتمع والثقافة» إنه تعبير
عن حقيقة واحدة؛ حقيقة الثورة الشقافية التى حاولت بغداد قبل أحد عشر
قرنًا أن تصنع مقدماتها الواقعية علنى أيدي المعتزلة» فالمعرفة تتقدم إلى أمام
بقواتين التطور الحتمي للحياة ذاتهاء وكل المستحدثات التأريخية الكبرى
هي في رأي المنهج الثوري الجدلي للفكر القومي» وعيّا اراديًا شاملاً يتوجه
بمراجماته العلمية لموروث امتناً'؟ لذلك فتحن مطالبون بغربلة التراث
وكسر علبه المحنطة» ورفض تراث الثقافة المسيطرة التى تدعى العالمية
فعلينا قبول فترات عهوده المظلمة والالتشاف حولها ومعايشتهاء نحن
مطالبون بنهج جديد ثالث» غير تقليد الشقافة الغربية؛ لأنها غير محتاجة
إليناء وغير ثقافة الشراح المدرسين» علينا معرفة الموروثات الفكرية العقلية
* راجع عبد الستار الراوي. الثقافة القومية الاشتراكية ط بغداد ١48١ ورقة /ا1ء
الهيكل المؤهل الذي يشد الواقع إليه. وإن إدراك أبعاد هذه التجربة لايتم
بمجرد التلوبحات العابرة؛ أو الشذرات المنفصلة عن آثار التطور التاريخي
في المناظر والنفوس والعقول؛ وإنما بالتتقيب عن قينمتها بالعلم والوعي
والمثابرة» حتى لا يتحول التراث إلى مجرد مظهر استعراضي رومانسي؛ أو
إلى محض مظاهرة فولكلورية؛ فالوعي الارادي ومعرفة الثقافة؛ معرفة
دقيقة؛ والاطلاع على معطيات التتجربة التاريخية الحضارة العربية
الإسلامية؛ هو طريقنا إلى التأسيس والتحول الانقلابي؛ هو خطوة عميقة
حركية باتجاه المستقبل وإيمانًا بهذا النهج. فإن هذا البحث الذي أعد في
ربيع 187/4 كجزء من متطلبات شهادة الماجستير في الفلسفة الإسلامية
والذي أجيز من جامعة الاسكندرية بدرجة «متاز» هو محاولة أولى لتطبيق
المنهج التحليلي النقدي.
عبد الستارالراوي
بغداد - ربيع ١48
)١( راجع عبد الله العروي. العرب والفكر التاريخي.. الفصول الأولى.
انضاج مقولاث الفكر المغتزلنيٍ وحده. وإنما في إنضاج عموم إتجامات
الفكر الإسلامي فأصبح التعزيب من مصادره الكثيرة هدقًا لمفكري
اليونان. فيما بات الاتصالات تتسع حتى ترجموا اكثر وأهم التراث
الاغريقي والفارسي والهندي سواء ما ائصل منه بالعلوم الصرفة؛ أم
الصناعات؛ أم المذاهب والاتجاهات الفكرية؛ وقد مضى العقل العربي
بدراية ووعي يقرا هذا التزراث الضخم يأخذ منه ويضيف إليه اضافات
باهرة. ولذلك يمكن أن نبرهن في صندق وأصالة. على أن العرب لم
يكونوا فقظ مجرد نقلة للعلم اليوناني القديم أو لغيره من تراث الشعوب
للصدفة العفوية؛ بل استنادًا إلى قواعد ثابتة وتنظيم عقلي منهجي هو
مناص .من أن تيليا نتائج الفلسفة اليونانية طرقها في خلق أثر تحليلي قوي
في المعتقدات الإسلامية. فكان المتكلمون وفي طليعتهم المعتزلة أولى
مفكري الإسلام شغقًا بدراسة الفلسفة فروعها ودقائقها؛ وكانت مدرسة
بغداد أقرب المدارس التي تأثرت بحركة الترجمة الفلسفية منذ أن كانت
)١( أدوار الترجمة:
الدور الأول: بدأ بعهد أبي جعفر المنصور 7 ١ه وانتهى بعصر الرشيد 2147
الدور الثاني: بدأ بمجيء المأمون 47١ه وانتهى فى أخربات القرن الثالث الهجري-
الدور الثالث: من ٠٠ *هج حتى منتصف القرن الرابع الهجري.
(1) انظر محمد على أبو ريان. منهج البحث الععلمي عند العرب,(المقدمة). ط بيروت الأولى. ٍ
لأحمد بن أبي داؤد «أحد أبرز معتزلة بغداد» ندوة علمية يؤمها كبار
مترجمي الفلسفة؛ فضلاً عن افادة بشر ب بن المعتمر والمردار من قراءاتهم.
لفلسفة الاغريق الطبيعية؛ وكذلك الاسكافي والخياط والكعبي الذي بحثوا
في شيئية المعدوم والمباحث الفيزيائية وعلاقتها بالسببية الإنما بهلاف
اثبات خلق العالم من ناحية» والاقرار بعلية القنوانين الطبيغية من ناخية
ثانية؛ والتصدي بالحوار والمناقشة خصو م الإسلام وقتاهضي دعوته
وبالقدر الذي أخذه معتزلة بغداد من الفلسفة الاغريقية أو أفادوا من
فيها من لدى مخالفيهم الذين أظهروا قلقهم لظاهرة تعلق المعتزلة بالفلسفة
وشغفهم بعلومها.
وإذا كانت الطبيعة النقدية التي اتسم بها فكر المعتزلة منذ تأسيساته
الأولى هو السبب المباشر في انتهاج هذه الحركة الطريق العقلي؛ فإنه
بالضرورة السبب الذي دعاهم إلى استنباط حجج عقلانية ومنطقية من
خلال قراءتهم الفاحصة والتحليلية لأوراق الفلسفة اليونانية؛ وبالقدر نفسه
فكان على المعتزلة أن تدخل هذه المعركة بل تعتبر نفسها الطرف الأول في
مواجهة عموم الحركات المعادية؛ الزنادقة والثنوية والزرادشتية التي انتشرت
الأفكار الدخيلة التي حاولت نقد ما جاء به القرآن الكريم؛ والتشكيك
برسالة النبي (ص)؛ معتمدة في هجومها المنطق والفلسفة سلاحً في تثبيت
التصدي بحزم لهذه الحركات. فاستعانت بمثل ما استعان به الخصوم من
يكمن في الدين من القوى والفضائل؛ وقد نجح البغداديون في إيقاف
الغزوات الفكرية المعادية بل قضوا بتهافت مقالاتها.
وبقدر الدجاح الذي حققه معتزلة بغداد في حماية العقيدة الإسلامية
على مواقفهاء أفادتهم من غير شك في ترسيخ التقاليد العقلانية في
تفكيرهم وفي بناء فلسفتهم المتحدة.