ابن تيميّة ومكارم الأخلاق
كان شيخ الإسلام شجاً في حلوق المبتدعين » وسيفاً مسلولاً عل
والنهي عن المنكر » وطاعة الناس له ؛ ومحبتهم له وكثرة أتباعه ؛ وقيامه في
الح . وعلمه وعمله ؛( فنعتوه بالخشونة ومساوىء الأخلاق وأنه كان فظاً
غليظ القلب لم تطرق الرحمة أبواب قلبه الذي كان أسود مرباداً كالكوز
الدنيا قادراً عليها فقد وصفه من عرفه وخالطه فقال : « وما رأيناه يذكر شيقأمن
ملاذ الدنيا ونعيمها ؛ ولا كان بخوض في شيء من حديثها ؛ ولا يسأل عن
شيء من معيشتها + بل جعل همه وحديثه في طلب الآخرة وما يقرب إلى
قضاء القضاة ومشيخة الشيوخ فلم يقبل 6( .
بالنصيحة » صاحب الصدر الواسع العامر بالتسامح » والنفس المطمئنة
(* ) البداية والنهاية ( 7/4 )
4 ) مائل عن الاستقامة والاعتدال لا يعي الخير ( نهاية )
(ه ) الأعلام العلية للبزارص 57
( ) ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية محمد كرد علي ص ١١ +
الشفافة والقلب الكبير الذي يفيض رقة وعطفاً ورحمة حتى على خصومه الذين
يده الحانية قال لهم لا تثريب عليكم يغفر الله لي ولكم فكان ممن عناهم الله في
قوله الكريم : هم والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يجب المحسنين »
[ آل عمران : 194] .
ذكر العلامة ابن كثير والحافظ ابن عبد الهادي رحمهما الله ما جرى بين
شيخ الإسلام والسلطان محمد بن قلاوون المملوكي الذي تولى السلطة سنة
17 ه » ونزعت منه من قبل ركن الدين بيبرس الجاشنكير بجساعدة وتحريض
شيخه الحلولي الاتحادي نصر المنبجي مدة » وأقام بالكرك ثم عاد إلى السلطة
سنة 08 ه . وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة ١4لاه . وكان من نبي
الشيخ وأصلح سلاطين المماليك ؛ فلما دخل مصر لم يكن له دأب إلا طلب
الشيخ تقي الدين بن تيمية من الاسكندرية فحضر مكرماً معززاً ميجلا فأخذ
حاللت كل من آذاني » ودار بينه وبين السلطان هذا الحوار : « ذكر الشيخ تقي
الدين ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي
جلسا فيه » فاستفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه +
على أن يفتيه في قتل بعضهم » وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا في
عزله ومبايعة الجاشتكير » ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة
والعلماء » وينكر أن ينال أحداً مهم بسوء » وقال له : إذا قتلت هؤلاء لا تجد
لنفسي » وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح +
وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول : ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا
رحمك الله يا شيخ الإسلام فليس بعد هذا الصفح الجميل وهذا التسامح
شيء ؛ فإنه لا يصدر إلا عن عالم رباني ورث عن النبي فَيةِ وأصحابه رضي الله
عنهم علم الكتاب والسنة ومكارم الأخلاق .
لكن شانئيه الذين أشربوا كؤوس الحقد والحسد مترعة » وشوا به إلى
أنك قد أطاعك الناس » وأن في نفسك أخذ الملك » فلم يكترث به بل قال له
بنفس مطمثنة وقلب ثابت وصوت عال سمعه كير من حضر : أنا أفعل
السلطان لذلك وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الحيبة
أقاويل الزور والبهتان ممن ظاهره العدالة » وباطنه مشحون بالفسق والجهالة +
فنجحوا فتعصب عليه جماعة بجامع مصر سنة ١1لا ه وتفردوا به وضربوه +
فلم وصل الخبر إلى أصحابه أسرعوا إليه وتتابع الناس : « وقال له بعضهم : يا
سيدي » قد جاء خلق من الحسينية » ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا ٠
7 ) البداية والنباية ( 84/4 ) . والعقود الدرية ص ( 81 - 387 )
(ه ) الأعلام العلية ص 75
أكثروا في القول قال لهم : إما أن يكون الحق لي » أولكم » أولله ؛ فإن كان لي
تقول : إنهم مأجورون فاسمع منهم ووافقهم على قوم . فقال لهم : ما الأمر
كما تزعمون . فإنهم قد يكونون مجتهدين مخطئين ففعلوا ذلك باجتهادهم +
حتى نجيء إلى القاهرة » فقال : لا . وسأل عن وقت العصر فقيل له : إنه
قريب ؛ فقام قاصداً إلى الجامع لصلاة العصر . فقيل له : ياسيدي قد تواصوا
عليك ليقتلوك . وفي الجامع قد يتمكنون منك . بخلاف غيره ؛ فصل حيث
يرجعون عنه . فضاقت الطريق بالناس فقال له من كان قريباً منه : ادخل إلى
هذا المسجد واقعد فيه حتى يخف الناس ؛ لثلا يموت أحد من الزحام . فدخل
ولم يجلس فيه » ووقف وأنامعه » فليا خفٌ الناس خرج يطلب الجامع العتيق .
فمرٌ في طريقه على قوم يلعبون بالشطرنج على مسطبة بعض حوانيت
الحدادين + فنفض الرقعة وقلبها . فبهت الذي يلعب بها والناس من فعله
ثم مشى قاصداً للجامع ؛ والناس يقولون : هنا يقتلونه ؛ الساعة
ويقتلون » فدخل الجامع ودخلنا معه » فصلى ركعتين ؛ فلا سلم متها أذن
المؤذن بالعصر » فصل العصر . ثم افتتح بقراءة : ( الحمد لله رب العامين )
نم تكلم في المسألة التي كانت الفتئة بسببها إلى أذان المغرب .
فخرج اتباع خصومه ؛ وهم يقولون : والله لقد كنا غالطين في هذا
الرجل لقيامنا عليه + والله إن الذي يقوله هذا » هو الحق » ولوتكلم هذا بغير
الحق لم نمهله إلى أن يسكت ؛ بل كنا نبادر إلى قتله » ولوكان هذا يبطن خلاف
بالتي هي أحسن للتي هي أقوم فقد أرسل إلى كبيرهم الذي علمهم الحقد
الشيخ نصر المنبجي قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى : « بسم الله الرحمن
الرحيم : من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك ( أي
شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه » ونبج به الطريقة المحمدية الموافقة
لشرعته » وكشف به الحقيقة الدينية » وبين المؤمنين الصادقين الصالحين + ومن
تشبه بهم من المنافقين » كما فرق ب
أما بعد : فإن الله قد أنعم على الشيخ + وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في
الدين والدنيا . وجعل له عند خاصة المسلمين - الذين لا يريدون علواً في
الأرض ولا فساداً منزلة علية » ومودة إغية + ما منحه الله تعالى به من حسن
) العقود الدرية ص (185 -188 ) ١
المعرفة والقصد » فإن العلم والإرادة أصل لطريق الهدى والعبادة . . . 1062©
من أجله : 3 . . . وأول ما أبدأً به هذا الأصل : ما يتعلق بي فتعلمون رضي
أصحابنا بشيء أصلٌ » لا باطناً ولا ظاهراً . ولا عندي عتب عل أحد متهم
ولا لوم أصلٌ ؛ بل هم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف
أضعاف ما كان » كل بحسبه » ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهداً مصيباً أو
خطئاً أو مذناً فالأول مأجور مشكور » والثاني مع أجره عل الاجتهاد فمعفوعنه
مغفور له ؛ والثالث : فالله يغفر لنا وله ولسائر المؤمنين .
فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل ؛ كقول القائل : فلان
القضية » فلان كان يتكلم في كيد فلان . . . ونحو هذه الكلمات ؛ التي فيها
مذمَّة لبعض الأصحاب والإخوان » فإني لا أسامح من آذاهم في هذا الباب ولا
حول ولا قوة إلا بالله .
بل مثل هذا يعود على قائله بالملام » إلا أن يكون له حسنة » وتممن يغفر
تغليظ أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان ما كان يجري بدمشق ؛ وما
بسبب ذلك تغير منا ولا بغض » بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين
أرفع قدراً وأنبه ذكراً » وأحب وأعظم » وإنما هذه الأمور من مصالح المؤمنين
. ) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 467/7 وما بعدها )٠١(
التي يصلح الله بها بعضهم ببعض » فإن المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحدا ما
الأخرى » وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة » لكن ذلك يوجب من
النظافة والنعومة ؛ ما نحمد معه ذلك التخشين .
وتعلمون : أنّا جميعاً متعاونون على البر والتقوى ؛ واجب علينا نصر
بعضنا بعضاً أعظم مما كان وأشد » فمن رام أن يؤذي بعض الأصحاب أو
الإخوان لما قد يظنه من نوع تخشين عومل به بدمشق أو بمصر الساعة أوغير ذلك
فهو الغالط .
وكذلك من ظن أن المؤمنن يبخلون عيا أمروا به من التعاون والتناصر
غاب عنا أحد من الجماعة » أو قدم إلينا الساعة أو قبل الساعة إلا ومنزلته عندنا
اليوم أعظم مما كانت وأجل وأرفع . وتعلمون رضي الله عنكم أن ما دون
هذه القضية من الحوادث يقع فيها من اجتهاد الآراء » واختلاف الأهواء وتنوع
أحوال أهل الإيمان ما لا بد منه من نزغات الشيطان ما لا يتصور أن يَعْرَى
وقد قال تعالى : ل وحلها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً
ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين
عنه نوع الإنسا
بل أنا أقول ما هو أبلغ من ذلك تنبيهاً بالأدنى على الأعلى وبالأقصى على
الأدن فأقول :
تعلمون كثرة ما وقع في هذه القضية من الأكاذيب المفتراة والأغاليط
المظنونة » والأهواء الفاسدة » وأن ذلك أمر يجل عن الوصف » وكل ما قيل من
كذب وزور » فهوفي حقنا خبر ونعمة . قال تعالى : «( إن الذين جاءوا بالإفك
الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم 6 [ النور : ١١ ] .
وقد أظهر الله من نور الحق وبرهانه ؛ ماردٌ به إفك الكاذب وببتانه ؛ فلا
على سوء عمله » لكنت أشكر كل من كان سبباً في هذه القضية » لما يترتب عليه
من خير الدنيا والآخرة » لكن الله هو المشكور على حسن نعمه والائه وأياديه
التي لا يقضى للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له . وأهل القصد الصالح يشكرون
على عملهم » وأهل السيئات نسأل الله أن يتوب عليهم .
وأنتم تعلمون هذا من خلقي ؛ والأمر أزيد مما كان وأوكد لكن حقوق
الناس بعضهم مع بعض ؛ وحقوق الله عليهم هم فيها تحت حكم الله .
وأنتم تعلمون أن الصديق الأكبر في قضية الإفك التي أنزل الله فيها
فانزل الله : لإ ولا يَأتَلِ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى
والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله
لكم والله غفور رحيم 6 [ النور : 1 ] . فليا نزلت قال أبوبكر : « بلى والله
إني لاحب أن يغفر الله لي » فأعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفق .
ومع ما ذكر من العفو والإحسان ؛ وأمثاله ؛ وأضعافه ؛ والجهاد على ما
بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة أمر لا بد منه : إ فسوف بأ الله بقوم
يحبهم ويجبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا
لومة لاثم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم . إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ؛ ويؤتون الزكاة وهم راكعون
ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون 6 [ المائدة :
1-4 ] . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . والحمد لله رب العالمين +
وصل الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليياً 01196 .
هذه المواقف الإنسانية العظيمة المحررة في ضوء مكارم الأخلاق
الإسلامية التي أتمها رسول الله كَيةِ أفاضها شيخ الإسلام على خصومه فهل
وحديثاً ؟! قال الحافظ البزار : « ول يزل المبتدعون أهل الأهواء » وآكلوا الدنيا
بالدين » متعاضدين متناصرين في عدوانه ؛ باذلين وسعهم بالسعي في الفتك
به ؛ متخرّصين عليه بالكذب الصراح ؛ مختلقين عليه ؛ وناسبين إليه مالم يقله
منه في مجلس 996 .
وقد استجاب لهم السلطان فأصدر مرسوماً بحبسه في قلعة دمشق وم
ولكن الرمة الربانية التي أفرغها الله في صدره فسلكها ينابيع في قلبه قد
. 784 مجموع فتاوى ابن تيمية ( 80/18 ). والعقود الدرية ص ) ١١
. الأعلام العلية ص 8لا ) ١