حمل السيف والقلم» وجمع في شخصيّته الفّة بين العلم والجهاد.
القوية المعطاة يصلح أن يكون درساً معبراً ومؤثراً للجيل المسلم المعاصر؛
لينهض من جديد فيرفع الذل والهوان والهزيمة .
الله أن يولد هذاا لمصلح في فترة عظمت فيها الآفات
يحكي صورة مقاربة لواقعنا اليوم.
ولِدَ ابن تيمية في هذه الظروف المضطربة؛ عام (171ه) بدمشق
التتان ودخولهم بعد ذلك حلب ودمشق» ورأى شيخ الإسلام آثار الخراب
والدّمار في هذه البلاد. وسمع عن الأهوال والمجازر والفظائع التي ١
يتجاوز السابعة من العمر - كيف انطلق والدهُ به وبا
على عجلة لعدم وجود الذّواب» وامتحنت العاثلة بوقوف العجلة في الطريق+
وَسَلِموا؛ وقدموا دمشق في أثناء (131ه).
نشا ابن تيمية بدمشق أتمّ النشأة وأزكاهاء وانبته الله نباتاً حستاً. فحفظ
القرآن. وأقبل على الفقه. واشتغل بحفظ الحديث وسماعه. مع ملازمته
مجالس الذكرء وقرأ دواوين الإسلام الكبار من كتب السنة. كل ذلك وهو اين
بضع عشرة سنةء ولكنه في نفس الوقت لم يُنْسَ ما صنعه التتار بالمسلمين»
مواقف وعبّر ألمرت جيل من الرجال. أعادوا إلى الأمة روح الجهاد
والتضحية؛ والثقة بالله ونصره» فكان شيخ الإسلام يقول للمسلمين من حوله
وهو يخلع عنهم لباس الجبن والهلع -: «لنْ يخافٌ الرجل غيرٌ الله إل
لمرض في قلبهم).
«فتح عكة» في التدليل على ذلك. فقد رأى الناس فيه أموراً من الشجاعة
وكان من نتاج ذلك أيضاً موقعة «شقحب» التي انتصر فيها المسلمون
إيراد الأمثلة وتسطيرهاء فإنه أطنب في بيان جهاد الإمام ابن تيمية في كل
ميدان من هذه الميادين فاحسن وأطاب
فما أحوج المسلمين اليوم إلى النظر والاعتبار بسيرة هذا الإمام الكبير
هذا الدين. فإن للجهاد ميادين متنوعة» ولا بد للمسلم أن يقدم في كل منها
جهده واستطاعته. فينافح عن الإسلام بالفكر والكلمة؛ كما يذود عنه بالحركة
القيّم. ليتذكر الجيل المسلم تاريخه وتراثه. ويذكر النبلاء من العلماء
ولسنا نطمح إلى التذكر النظري المجرد السلبي. بل نقصد إلى التذكر
الإيجابي الذي يجعل سَيّر هؤلاء الأئمة الأفذاذ دليلا هادياً.. يدعو إلى العبرة
(1) البزار - الأعلام العلية: ص 74
والدُرس. والمتابعة والتأسي. وكذلك يكون التعامل المجدي مع التاريخ
وكذلك تكون صورة العلم النافع؛ وبدونها يصبح استحضار التاريخ وإحيائه
كنوع من أنواع الترف الثقافي البارد.
وقد اشتمل هذا الكتاب «الكواكب الدُريّة» على فوائد جليلة أخرى»
نتعرض إلى ذكر بعضها بإشارات موجزة:
١-أطنب الإمام مَرْعي الكَْمي في عرضه لمحنة شيخ الإسلام ابن
ختام هذه المأساة موت الإمام ابن تيمية سجيئاً مظلوماً في ديار الإسلام. وقد
بلغ الشطط والتجاوز. والعصبية الذميمة أن أصدر الفقيه محمد بن محمد
علاء الدينز البخاري المتوفى سنة (841ه) فتواه بتكفير ابن تيمية؛ بل وكفّر
فتاؤه بمسألة «الطلاق الثلاث» في
كونه أوقع من ثلاث طلقات مجموعة» أو متفرقة
والشيخ علاء الدين هذا يعلم أنَّ ابن تيمية إمام مجتهد» وقد وصفه
بالاجتهاد أئمة عصره كالحافظ المزي» والبرزالي+ وابن سَيّد الناس»
والذهبي» وعشرات من الأئمة غيرهم. وهو يعلم أيضاً أنه لا يجوز الطعن
به وهو في كل الأحوال مأجور. على أن مسألة الطلاق قال بها غيره من
أكابر الصحابة؛ والتابعين» كما هو مروي عن علي بن أبي طالب» والزبير بن
)١( انظر تفاصيل ذلك في «مجموع الفتاوى» لابن تيميةه: 41/77- 88 وفي مواطن أخرى من
المجلد نفسه.
محمد بن أبي بكر بن ناصر الدمشقي المتوفى سنة (847ه). فافرد لذلك
مجلدا حافلا سطرٌ فيه شهادات العلماء. وثناءهم الجميل على شيخ الإسلام
الإمام مرعي الكُرمي» وزاد عليه زوائد لطيفة. وأسماه «الشهادة الزكية في ثنا؛
الأئمة على ابن تيميةم.
وهذه القضية الخطيرة المتمثلة بالطعن والتشهير بسبب الخلاف الفقهي
بالمعروف. ناهيا عن المنكرء وله مع أعداء الله من التتار وأهل الكتاب
وهب أن ابن تيمية أخطأ في اجتهاده. وخالف الجمهور في مسألة؛ أو
مسائل: فأي ديل شرعي يسيغ الجرح والتشهير في المجتهد المالك
للدليل؟! بل الدا ينص على أنه مأجور غير مأزور. وباب العذر لأمثال هذا
الإمام الكبير ينبغي أن يكون وامعاً؛ إِنّْ كان هناك ما يقتضي النقد
والمؤاخذة. ولكنه الهرئا: والعصبية البغيضة» والجرأة على الخوض في
الأعراض» والتهاون في مراعاة حرمة الأخوة في الله تعالى. ورحم الله
القاضي ابن فضل الله العمري الشافعي (ت 44لاه) إذ يقول في قصيدة
طويلة يرثي بها شيخ الإسلام:
)١( طبع بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش سنة 1847ه - المكتب الإسلامي - بيروت.
() طبع بتحقيقنا سنة 4 140ه؛ دار الفرقان ومؤسسة الرسالة بِممّان.
» اشتمل هذا الكتاب على صور من الأدب الرفيع الذي كان يتحلّى
به شيخ الإسلام ابن تيمية مع مخالفيه. رغم تجاوزاتهم في حقه؛ وظهور
أخطائهم . وهي مواقف ذات إيحاءاتٍ تربوية للدعاة والعاملين في التحلي
بالخلق. والتجمل بالصبرء واستعمال الرفق في إيصال كلمة الحق.
ففي سنة خمس وسبعماثة شكا جمع من الصوفية ممن ينتسبون إلى
الإسلام إلى نائب السلطنة؛ وطلبوا عدم معارضة ابن تيمية لهم وترك إنكاره
ويوجد في بعضهم من التعبد والتأله والوجد والمحبة» والزهد والفقرء
والتواضع ولين الجانب» والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة؛ والكشف
والتصرف» فيوحد أيضاً في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر والبدع
في الإسلام. والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول - صلّى الله عليه
وسلم .02
إَّ القارىء لهذه السطور يلاحظ في كلام الشيخ حكمة الداعية»
ولباقته». وصدقه. وإنصافه. وأدبه؛ ورفقه شيخ الإسلام وهو يتصدى
لإصلاح تجاوزات الصوفية. ويعمل على إيصال كلمة الحق إليهم - ابتدأ
مساوثهم. وبدعهم؛ فذكرها مسرا دون أن يرمي بها واحداً معيناً منهم
8 ابن عبد الهادي - العقود الدرية: ص 970 مرعي الكرمي - الشهادة الزكية: ص )١(
انظر فصل «فصل في توجه الشيخ إلى مصرء ومحنته بهاء من هذا الكتاب )1(
فجمع بين المدح والقدح» وقد الأقرب إلى نفوسهم؛ وما هو من شأنه يعين
على صفاء القلوب» وتهيئثتها لسماع كلمة الحى؛ وقبولها. وهو أسلوب
شرعي كريم؛ مخالف لطريقة التبكيت» والإهانة. والسخرية؛ الذي من ثماره
قطع طريق الحوار بالتي هي أحسن بين الإخوة المتنازعين لاختلاف
مشاربهم» وهو الأمر الذي من شأنه أن يُفوت على المصلح الوصول إلى
هدفه الكريم في إرضاء ربه؛ وإصلاح إخوائه.
وقد ظهر خلق ابن تيمية الممزوج بالورع والحكمة» والبراءة من
وجهاده من أجل رفع بناء» يقول ابن تيمية:
و السلطان لما جلس بالشباك» أخرج فتاوى لبعض الحاضرين في
وكان من آثار هذا الموقف النبيل» ما قاله القاضي زين الدين ابن
وهكذا ب يصنع المصلح الرباني» فإنه يجاهد لنصرة الله ودينه؛ وليس
يجاهد لنصرة شخصه» وإبراز مكانته. وهو إنما يبغض تجاوزات إخوانه
344-148 انظر الفصل السابق» والعقود الدرية: ص )١(
انظر المصدرين السابقين )1(
وكانني بشيخ الإسلام في تلك الوقفة اللبيلة التي تُنيءُ عن الإتزانء
والضبط» والورع عند وصدق الأخوة وسماحتها عند الاختلاف
والخصومة يعيد للتاريخ وقفة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص حين
سعد وخالد كلام - فأراد هذا المريض استثمار ذلك» فقال له سعد
وسبحان الله فإ في موقف ابن تيمية؛ وموقف خصومه تباين كبير»
ينبيك عن قيمة العلم إذا اقترن بالتربية والورع» وخطورته إذا تضخم
وضمرت مقوماته. فإنما يُراد العلم ويطلب ليتعبد به ولتظهر آثاره في
المواقف والسلوك.
خ الإسلام مبلغه؛ واشتدٌ عليه بضعة
4 وحينما بلغ المرض
يستأذن الملك شمس الدين الوزير بدمشق للدخول عليه؛ فِأَذّنْ الشيخ له في
عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير. فيجيبه شيخ الإسلام بقوله:
«إني قد أحللت السلطان المعظم» الملك الناصر من حبسه إياي+؛
)١( أخرجه ابن أبي الدنيا في «كتاب الصمت وآداب النسانه رقم 188؛ باب دب المسلم عن
عرض أخيه؛ وإستاده صحيح
تعليق» فإنها صور معبرة مؤثرة تبرز مقدار الحب والإشفاق اللذان كان
صدره؛ وحبه للمسلمين» ساقها الإمام الذهبي في ترجمة الإمام الأشعري .
قال الذهبي:
درأيتُ للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثاب رواها البيهقي: سمعت
أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد. دعاني » فأتيته. فقال: إشهد علي :
قلت والكلام للذهبي -: وبنحو هذا أدين . وكذا كان شيخنا اب
«لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»» فمن لازم الصلوات بوضوء فهو
وهو كلام في غاية الصفاء والإشراق والأهمية؛ صَدَرَ من هؤلاء الأئمة
)١( انظر «فصل في ذكر وفاة الشيخ ابن نيمية» من هذا الكتاب
(9) أخرجه ابن ماجه في دسننه» 43/1: كتاب الطهارة. باب المحافظة على الوضوء؛ رقم 74
و18 و96 . وابن حبان في صحيحه (موارد الظمآن): رقم 134
(©) الذهبي سير النبلاء: 88/16
جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
٠ -وفي الخامس من رمضانء سنة خمس وسبعماثة وَرَدَ مرسوم
السلطان إلى دمشق بإحضار ابن تيمية إلى مصرء بعد أن أوغر المفترون صدرٌ
وإقامة غيرهم . فلما ورد هذا المرسوم إلى دمشق مانع نائب الشام» وقال: قد
عُقد له مجلسان بحضرتي» وحضرة القضاة والفقهاء؛ وما ظهر عليه شيء
فقال الرسول لنائب دمشق مستخدماً الدسيسة : أنا ناصح لك؛ وقد
قيل: إنه يجمع الناس عليك؛ وعقد لهم بيعة. فجزع من ذلك نائب دمشق
وأرسل ابن تيمية على البريد.
ولما رأى أمراء الجنكيزخان قيام شيخ الإسلام في نصر الدين» وإظهار
الأعظم؛ الملك الناصر لدين الله + يشُونَ به ويحرضونه عليه. فأمر السلطان
فلم يكترث به شيخ الإسلام؛ بل قال له بنفس مطمثنة» وقلب ثابت؛ وصوت
الأقاويل زور وبهتان!"»
(1) البزار الأعلام العليّة: ص 4ل - 6